ملخص
تريد باريس أن تكون حاضرة في كل مفصل من مفاصل الانتقال السوري، من كتابة الدستور إلى تنظيم الانتخابات، فبناء مؤسسات الشرطة والقضاء.
كانت باريس لاعباً في دعم الائتلاف السوري ومكونات المعارضة، وهي دفعت باتجاه أن يكون هناك تحرك عسكري لإطاحة الأسد بعد استخدام الكيماوي، ولكن تراجع الرئيس الأميركي حينها باراك أوباما أدى إلى إلغاء هذه العملية. واليوم، تبذل فرنسا جهودها لرفع العقوبات عن سوريا، وتريد الانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار، كما أنه من المتوقع أن يكون هناك دور للشركات الفرنسية في سوريا.
تنظر فرنسا إلى لبنان بعين مختلفة عن نظرتها إلى أي بلد عربي آخر، وذلك لأسباب تتعلق بالهوية والمصالح والدور الإقليمي والدولي الذي تسعى فرنسا إلى لعبه من خلال بيروت. فكما هو معروف، فقد انتدبت فرنسا كلاً من سوريا ولبنان عام 1920، وقامت بفصله عن سوريا وإنشاء "دولة لبنان الكبير"، باعتباره كياناً خاصاً. وبعد انتهاء الانتداب على لبنان عام 1943، وحصوله على سيادته كبلد مستقل لم تغب فرنسا عن البلد العربي الذي سمي "سويسرا الشرق"، وحافظت باريس على علاقات مستمرة مع بيروت طوال العقود الماضية، وكانت طرفاً في أي قضية أو تسوية تحصل في لبنان، حتى أضحت فرنسا تنظر إلى لبنان كـ"الابن الذي استقل". كما أن لبنان هو البلد العربي الأكثر ارتباطاً بفرنسا من الناحية الثقافية، ومن المعروف أن "المعهد الفرنسي في بيروت" واحد من أهم الأضرحة الثقافية في الشرق الأوسط.
لفترة قريبة، كانت فرنسا تطالب دولة لبنان بضرورة أن تبقى حليفة للغرب وأداة توازن ومنصة لـ"سياسة التوازن المسيحي – الإسلامي" التي تدعمها باريس، كما أنها تحمي نموذج "لبنان التعددي والليبرالي"، بل وتعتبره متقدماً على بقية الدول العربية على الصعيد السياسي في الأقل. وبالمحصلة تنظر فرنسا إلى لبنان على أنه "كيان سياسي أسسته وتركته، لكنها لا تزال وصية عليه من الناحية المعنوية والتاريخية". وعلى رغم هذا، فإن هذه النظرة قد لا تكون عملية في الواقع لأن لبنان يعاني بصورة مستمرة من أزمات تارة طائفية واقتصادية وأخرى عسكرية أو سياسية، وعلى رغم كل محاولاتها لم تنجح باريس في تغييره أو إنقاذه، مما يجعل نظرتها أقرب إلى الحنين التاريخي منه إلى السياسة الواقعية. واليوم بعد التغيير التاريخي في سوريا، هل تبحث فرنسا في سوريا عن نموذج "مكبر" للبنان؟
انفتاح سريع
مصادر دبلوماسية سورية أفادت في تصريح لـ"اندبندنت عربية" بأن "فرنسا كانت من أولى الدول الأوروبية التي رحبت بسقوط نظام الأسد، كما أن باريس أرسلت وفوداً إلى دمشق وشمال شرقي سوريا، وأسهمت إلى جانب الولايات المتحدة في رعاية الاتفاق الذي جرى بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية، إضافة إلى هذا استقبلت باريس وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وكانت بصدد توجيه دعوة رسمية لرئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع لزيارة فرنسا، إلا أن التوترات الأمنية التي جرت في الساحل عرقلت الأمر أو أخرته في الأقل".
الثمرة الأولى
في الأول من أبريل (نيسان) الجاري، وعلى رغم توترات أمنية تجري في منطقة أشرفية صحنايا بريف دمشق ومحافظة السويداء، تنظم في هذه الأثناء بالقصر الرئاسي مراسم توقيع اتفاق استراتيجية بين الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية والشركة الفرنسية "CMA CGM"، بحضور الشرع.
شركة "CMA CGM" الفرنسية من أكبر شركات الشحن البحري في العالم، وتعمل في مجالات النقل البحري والخدمات اللوجيستية، كما تدير عديداً من محطات الحاويات الدولية، ويشمل العقد الجديد الموقع مع سوريا اتفاق يمتد لـ 30 عاماً، تشمل قيام الشركة الفرنسية بتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية بقيمة 230 مليون يورو، تضخ الشركة في العام الأول مبلغ 30 مليون يورو وفي الأعوام الأربعة التي تليها سيتم ضخ مبلغ 200 مليون يورو، على أن تقوم بإنشاء رصيف الميناء بطول كيلو ونصف الكيلومتر وبعمق 17 متراً. وستسمح التجهيزات الجديدة للسفن الكبيرة بالدخول إلى مرفأ اللاذقية، كما سيسمح التطوير الجديد بدخول عدد كبير من الحاويات، فيما يقول مراقبون إن توقيع اتفاق فرنسية بهذا الحجم مع سوريا يؤكد موقف فرنسا الداعم لاستقرار سوريا.
لبنان يختلف عن سوريا
الباحث في الفلسفة السياسية رامي الخليفة العلي يقول في حديثه خاص إنه لا يعتقد أن "فرنسا تنظر إلى سوريا كما تنظر إلى لبنان، إذ إن لبنان هو الدولة التي أسستها فرنسا وكان هناك التزام فرنسي وعلاقات مباشرة مع مكونات داخل المجتمع اللبناني، ولبنان باعتباره ذا خصوصية فيما يتعلق بالتحالف ما بين الطوائف وإيجاد صيغة للعيش المشترك بين هذه الطوائف، وهذا الأمر مختلف بالنسبة إلى سوريا، فمن الواضح أن الإدارة الجديدة تريد أن يكون هناك دولة مركزية مبنية على أساس المواطنة بغض النظر عن الانتماءات الطائفية والعرقية والمذهبية، وهذا أيضاً يشكل تحدياً أمام الحكومة".
ويوضح العلي أن "طبيعة العلاقات بين سوريا وفرنسا ستأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة السورية من الناحيتين السياسية والاجتماعية، لذلك ستكون هناك علاقات قوية ما بين فرنسا وسوريا خلال الفترة القادمة لكن ليس كما هي نمط العلاقة القائمة ما بين بيروت وباريس".
ويؤكد أستاذ الفلسفة السياسية أن "الحكومة الفرنسية سارعت عبر وزير خارجيتها إلى التواصل مع الإدارة الجديدة وجرى اللقاء مع الشرع منذ الأيام الأولى لإطاحة نظام الأسد، وأيضاً جرى استقبال وزير الخارجية الشيباني في أكثر من مناسبة بالعاصمة الفرنسية باريس، وخلال الأعوام الماضية كان لفرنسا حضور حقيقي في سوريا، إذ إن لديها وجوداً عسكرياً في إطار التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي منذ عام 2015 وحتى الآن، بالتالي لديها حضور ووجود وتأثير في سوريا. كما أن باريس كانت لاعباً في دعم الائتلاف السوري ومكونات المعارضة، وهي دفعت باتجاه أن يكون هناك تحرك عسكري لإطاحة الأسد بعد استخدام الكيماوي، ولكن تراجع الرئيس الأميركي حينها باراك أوباما أدى إلى إلغاء هذه العملية. واليوم تبذل فرنسا جهودها لرفع العقوبات عن سوريا، وتريد الانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار، كما أنه من المتوقع أن يكون هناك دور للشركات الفرنسية في سوريا".
هل تريد فرنسا لبناناً جديداً في سوريا؟
على رغم الاختلاف الجوهري بين سوريا ولبنان ديموغرافياً وسياسياً واجتماعياً، فإن مراقبين يرون أن فرنسا ربما تريد جزئياً اعتبار سوريا مثل لبنان بالنسبة إلى باريس، لكن بشروط وأشكال مختلفة، إذ إن فرنسا لا تستطيع ولا تريد نسخ النموذج اللبناني بالكامل في سوريا، لكنها تسعى إلى بناء علاقة خاصة طويلة المدى تتضمن استعادة عمقها الاستراتيجي في المشرق بعد تآكل النفوذ، حيث خسرت فرنسا جزءاً كبيراً من نفوذها في المشرق لمصلحة الولايات المتحدة وروسيا وتركيا. ومع سقوط الأسد، ترى باريس فرصة لإعادة تموضعها كلاعب أوروبي رئيس في سوريا، وهذا شبيه بدورها في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية.
من ناحية أخرى كما في لبنان تحاول فرنسا دعم كوادر مدنية علمانية أو "ليبرالية وسطية" في سوريا، فربما تقدم منحاً للطلاب وتستثمر في التعليم والإعلام والمجتمع المدني، كما فعلت سابقاً مع الجامعة اليسوعية في بيروت. كما أن برنامج "Syria Forward" الذي أطلقته باريس مطلع العام الحالي 2025، ويقدم دعماً لـ500 طالب سوري للدراسة في الجامعات الفرنسية، شبيهاً ببرامج كانت موجهة للبنان في الثمانينيات.
على الصعيد السياسي تريد فرنسا أن تكون حاضرة في كل مفصل من مفاصل الانتقال السوري، من كتابة الدستور إلى تنظيم الانتخابات فبناء مؤسسات الشرطة والقضاء، لكن في سوريا لا تتحكم كما كانت تفعل في لبنان، لكنها تحاول لعب دور "الراعي الدولي الأوروبي"، كما كانت في مؤتمر الطائف 1989. أما من الناحية الثقافية، فعلى رغم أن اللغة الفرنسية أقل حضوراً في سوريا مقارنة بلبنان، لا تزال هناك طبقة من المثقفين والفنانين والأكاديميين السوريين على صلة قوية بالثقافة الفرنسية، فربما تعيد باريس تفعيل معاهدها الثقافية مثل "المعهد الفرنسي في دمشق"، إن أعيد فتحه.
لماذا سوريا ليست لبنان؟
على رغم القرب الجغرافي بين البلدين والتاريخ الطويل المشترك، فإن هناك فروقاً كبيرة بين سوريا ولبنان تمنع استنساخ النموذج اللبناني في سوريا على الطريقة الفرنسية، أولها أن النسيج الاجتماعي والديموغرافي مختلف، ومن الناحية الاجتماعية أيضاً لا تملك فرنسا في سوريا حلفاء كما كانت تملك في لبنان، وهذا كله بعيد من أن المنافسة الدولية أشد في سوريا مقارنة بلبنان، ففي سوريا هناك وجود عسكري مباشر للولايات المتحدة وروسيا وتركيا، أما في لبنان تعد فرنسا اللاعب الدولي الأول.
فرنسا في ذاكرة السوريين
بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، وقعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي بموجب اتفاق "سايكس-بيكو" السرية، والتي قسمت مناطق النفوذ بين فرنسا وبريطانيا، وفي عام 1920، فرضت فرنسا انتدابها على سوريا رسمياً بموافقة عصبة الأمم، وجرى استقبال الفرنسيين بمعركة ميسلون الشهيرة. وعلى رغم هزيمة الجيش السوري ودخول الفرنسيين إلى دمشق، استمرت الثورات والمقاومات، أبرزها الثورة السورية الكبرى (1925-1927)، فحاولت فرنسا تقسيم سوريا إلى دويلات عدة على أساس عرقي وطائفي، لكن المشروع فشل، وبعد ضغط داخلي ودولي، اضطرت فرنسا إلى منح سوريا استقلالها بصورة تدريجية، حتى انسحبت بصورة كاملة يوم الـ17 من أبريل (نيسان) 1946.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علاقات دبلوماسية متباينة
بعد الاستقلال أقامت سوريا علاقات دبلوماسية رسمية مع فرنسا، لكن العلاقات ظلت مشوبة بالحذر. وفي الخمسينيات والستينيات، اتجهت سوريا نحو السوفيات في إطار الحرب الباردة، مما أبعدها عن فرنسا والغرب، كما أن دعم فرنسا لإسرائيل في عدوان 1956 (العدوان الثلاثي على مصر) أضعف علاقاتها مع العالم العربي عموماً وسوريا ومصر خصوصاً. وبعد استيلاء "حزب البعث" على السلطة في سوريا، وعلى رغم أن حافظ الأسد كان حليفاً للاتحاد السوفياتي، إلا أن العلاقات مع فرنسا شهدت تقارباً نسبياً، خصوصاً في عهد الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، فيما كان التدخل السوري في لبنان أحد أهم عوامل التوتر، حيث كانت باريس تنظر إلى وجود الجيش السوري بلبنان بعين الريبة.
قبل وبعد اغتيال الحريري
بعد موت حافظ الأسد وتوريث الحكم لابنه بشار، في بدايات عهد الأخير، حاولت فرنسا تعزيز العلاقات خصوصاً في عهد الرئيس جاك شيراك، حيث جرت زيارات رسمية متبادلة، وكان هناك حديث عن تعاون اقتصادي وثقافي أوسع، لكن بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، الذي كان مقرباً من شيراك، تدهورت العلاقات بصورة كبيرة، بعدما اتهمت فرنسا النظام السوري بالتورط في عملية الاغتيال، وأسهمت في الضغوط الدولية التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، كما أسهمت فرنسا بعد اغتيال الحريري في عزل سوريا سياسياً وفرض عقوبات عليها، لكن مع مجيء نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة الفرنسية، شهدت العلاقات نوعاً من الانفتاح مجدداً، قبيل اندلاع الانتفاضة السورية في 2011.
القطيعة الشاملة
مع انطلاق الانتفاضة السورية عام 2011، كانت فرنسا من أوائل الدول التي نادت بتنحي بشار الأسد، ودعمت المعارضة السورية سياسياً وإعلامياً، واستضافت باريس مؤتمرات لدعم المعارضة، كما دعت في 2013 لإطاحة النظام السوري عسكرياً، لكن اتفاقاً روسياً - أميركياً حال دون ذلك، فاستمرت فرنسا في قطع كامل علاقاتها السياسية والاقتصادية مع النظام السوري. ومع الساعات الأولى لسقوطه، رحبت باريس بالحدث، وخلال أيام قليلة أرسلت وفودها إلى دمشق لبدء مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، وفي فبراير (شباط) 2025 افتتحت باريس بعثة دبلوماسية في دمشق.
بالمحصلة، ربما لا تسعى فرنسا إلى نسخ النموذج اللبناني بالكامل في سوريا، لكنها تعمل على بناء علاقة خاصة طويلة الأمد مع الدولة السورية الجديدة، تشبه إلى حد ما علاقتها بلبنان، من حيث النفوذ الثقافي والسياسي والرعاية الناعمة للتحول الديمقراطي ودعم طبقة نخبوية جديدة تكن الولاء لباريس أو للغرب عموماً، ومع ذلك وبسبب اختلاف الظروف يبدو أن الطموح الفرنسي في سوريا أكثر تواضعاً وأكثر تعقيداً من طموحها في لبنان.