ملخص
النظام العالمي يتغير ودور أوروبا ينحسر وقد لا تقيض لاتحادها الحياة
في الـ24 من فبراير (شباط) 2025 اقترع الأميركيون والأوروبيون في مجلس الأمن على قرار موضوعه أوكرانيا على نحوين مختلفين ومتعارضين. وأجرى الرئيسان الأميركي والروسي مفاوضات هاتفية على وقف إطلاق النار في أوكرانيان غاب عنها الأوروبيون. وغاب هؤلاء، كذلك، مرة ثالثة، حين اجتمع الروس والأميركيون والأوكرانيون وتفاوضوا على المسألة نفسها. وجملة هذه الوقائع قرينة واضحة على تهميش أوروبا على الصعيد الدبلوماسي، وما تقدم خلاصة تقرير نشرته المؤرخة وأستاذة العلاقات الدولية في جامعة باريس الأولى لورنس باديل بعنوان "أمام أعيننا ينشأ غرب جديد ومعه مجتمع دولي آخر" في "لوموند" الفرنسية، وتنشر "اندبندنت عربية" أبرز ما ورد فيه لأهميته. ويبرز تهميش القارة الأوروبية في اختيار مكان المفاوضة، العاصمة السعودية الرياض، خارج أوروبا وبعيداً منها. وهي علامة، من الوجه الآخر، على عجز الاتحاد الأوروبي عن بلورة دبلوماسية مشتركة، وعن فرض ممثلة الاتحاد العليا للشؤون الخارجية وسياسة الأمن كايا كالاس، محاور على طاولة المفاوضات.
الأزمة الدبلوماسية بين الأميركيين والأوروبيين تدل على نهاية موقتة أوعابر لشكل من شكل الغرب. فمضمون مفهوم الغرب تغير مع تغير الحقب التاريخية: بين 1949 و1991، دل المفهوم على أوروبا "الغربية" والولايات المتحدة وكندا مجتمعة في نظام دفاعي مشترك يناهض الكتلة الشيوعية. وأتاح النظام هذا مرابطة قوات أميركية كثيرة على الأرض الأوروبية.
وتجدد معنى المفهوم ودلالته منذ نهاية الحرب الباردة. وفي أثناء حرب الخليج (العراق)، استعمل مفهوم الغرب للدلالة على حملة الولايات المتحدة، وراء غطاء منظمة الأمم المتحدة.
واليوم، تتمخض الحوادث أمام أعيننا عن صيغة غرب جديدة. ولكن هذا لا يعني انصرام العلاقة بين ضفتي الأطلسي انصراماً نهائياً، والاجتماع الذي التأم في لندن، في الثاني من مارس (آذار) 2025 يستوقف الانتباه. فهو يرسم ملامح أوروبا أقل انفلاشاً على الصعيد العسكري، ولكنه يلحظ مكاناً للمملكة المتحدة. ومنذ 1949، تعاقبت صور مختلفة ومتزامنة عن التعاون الأوروبي في هذا المضمار: مجلس أوروبا، ثم منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فالاتحاد الأوروبي، إلى صور أخرى أكثر ضيقاً على شاكلة مجموعة اتصال، تعود إلى بداية سبعينيات القرن الـ20، وشهدنا منها صيغاً متفرقة - مجموعة بلدان فيمار، فيمار +، إلخ. ويجوز أن يبرز حيز دبلوماسي حول الدفاع الأوروبي يتولى أعباء التعاون الصناعي العسكري، ويتعهد التضامن التجاري والتنسيق الاستراتيجي.
وفي الآونة الأخيرة شاع الكلام على "الفوضى العالمية"، في معرض تناول إرث 1945، وعمارة السلام التي شيدت آنذاك. فما بقي من هذا البنيان هو المبادئ العامة والهيئات. والحق أن المبادئ والهيئات هذه أصابتها بالهشاشة، منذ 15 عاماً، عوامل كثيرة مثل تجدد سياسات التسلط والقوة. وتنتقل هذه السياسات من المنافسة على المواد الأولية إلى سباق التسلح والسيطرة على المواصلات والاتصالات. ولا يبعد أن تؤدي إلى أعمال القرصنة والسطو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقتحم هذه الحلبة إرادات قوة تسوغ اقتحامها أو تدخلها عنوة بالضغائن التي تكنها لبلدان جوار حالت بالأمس بينها وبين مشاركة فاعلة في الحوكمة الدولية منذ 1945. وهذا مشكلة على حدة. وثمة، على الخصوص، قانون (حق) دولي ينتهكه أولئك الذين تولوا سنه، الولايات المتحدة أولاً، بينما تبادر دول أخرى إلى انتفاء صيغ أخرى من الحق، ومن المبادئ التي ينبغي أن تروي النظام الدولي. فتنفجر اليوم بذور الصراع الكامنة منذ 1945. وكثر يرون أن نظاماً متعدد الأقطاب فات عليه الزمن وأمسى من الماضي.
وحقيقة الأمر أن المجتمعات الغربية، وهي كانت المستفيدة الأولى من النظام العالمي، تخلت عن تبني المبادئ أو "القيم" التي نهض عليها هذا النظام في 1945. ويغلب على الظن أن الحرية لم تعد تتصدر "القيم" العتيدة التي تتغنى المقالات السياسية والدبلوماسية بمكانتها، بل حلت محلها مبادئ أخرى، مثل "الأمن" ومعانيه الملتبسة. وتبعث هذه الحال دولاً أخرى على محاولة فرض مفهوم مختلف عن الحق الدولي والمبادئ التي ينبغي أن يصدر النظام الدولي عنها.
وتؤيد قوى سياسية انتهازية فرض تعريفات مختلفة لـ"الديمقراطية" وتتمتع هذه القوى بموارد اقتصادية وثقافية تمكنها من نشر مفهومها عن نظام دولي يقدم "الأمن" على "الحرية". ومن وجه آخر، يفضي انتهاك الغربيين للحق الدولي، وانتهاجهم سياسة الكيل بمكيالين، وانتهازيتهم في بعض الأحيان، إلى استخفاف العالم بخطابتهم. ومنذ أوائل الألف الثالث، أدركت هذا الأمر دول متفرقة مثل روسيا والصين، وانتهجت، في أوقات مختلفة، سياسات عدوانية تزدري الحق، ولا تتورع عن ضم أراضٍ ترى أنها أحق بها من الدول التي تحوزها تاريخياً.
وكان العالم الذي خرج من الحرب العالمية الثانية منهكاً ونازفاً، مادياً ومعنوياً. ففي أثناء الحرب، شن المتحاربون عمليات قصف ضخمة خلفت دماراً مادياً هائلاً، على شاكلة قصف ألمانيا في الفصل الأخير من الحرب، واستخدام القنبلة الذرية في قصف اليابان. وبقيت أوروبا في قلب الإعصار، ولم يندمل جرح استئصال اليهود، وجرح تهجير جماعات كبيرة من السكان واقتلاعهم من أريافهم ومدنهم. وفي أحوال كثيرة طال زمن الانتقال من غداة الحرب، والدمار والفوضى، إلى استتباب الأمر لدول تتمتع بالسيادة والتمكين. فلم يستتب الأمر لألمانيا إلا عام 1949، ولليابان إلا في 1952، وللنمسا إلا في 1955. وكان الطريق إلى استقلال المستعمرات أكثر طولاً، وأشد صعوبة. واستبق العالم، وهو في دوامة الحرب، بناء النظام الدولي القادم وتجديده.
ولم يبد الفرق واضحاً بين سلم 1945 وسلم 1918. فالاثنان صنعهما المنتصرون. ونهض الاثنان على أسس حقوقية وسياسية واحدة، وتبنيا المعايير نفسها: السهر على السلم وعلى الأمن الجماعي. وطرأ التجديد من باب ما سمته لغة العصر معيار "رخاء المجتمعات" (والفر سوشال). وترتبت على هذا التجديد مفاعيل بعيدة الأثر زمناً على الدول ووظائفها. والبعد الجديد الآخر هو إرادة "دمج" الجميع في صيغة السلم وبنيانه. فهو قام على الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعلى المساواة بين الأعراف. واقترنت هذه بالمساواة بين الجنسين، على رغم خفاء العلامات على هذه المساواة في 1945.
وأمعن دبلوماسيو 1945 النظر في بعض أخطاء 1918-1919، وعلى الخصوص نهج معاملة ألمانيا. فانتظمت فرنسا، جنباً إلى جنب إسهامها في تأديب ألمانيا الغربية بآداب الديمقراطية و"تربيتها" عليها، في بناء كتلة أوروبية - غربية تؤطر انبعاث القوة الألمانية - بعد الحرب والهزيمة. وحرصت، مع سائر دول أوروبا، على مراعاة كرامة ألمانيا، على خلاف سياسة تقصدت إذلالها، وإذلال المغلوبين عموماً، غداة الحرب الأولى. وشهد عام 1945 أول محاولة بلورة أو قوننة للحق الجزائي الدولي. وكانت فكرة هذا الحق خطرت مع الإعداد لمقاضاة غليوم الثاني، الإمبراطور البروسي. وعرضت قبلها في أثناء محاكمات لايبزيغ وإسطنبول (ضباط تركيا الفتاة) في 1919- 1920. ولكن هذه المحاكمات لم يشرف عليها قضاء دولي. وتولى قضاء دولي المقاضاة، وللمرة الأولى، في محاكمات الحكام النازيين واليابانيين بنورومبرغ وطوكيو.
والحق أن سلام 1945 كان، خارج أوروبا والغرب، ملتبساً. فهو، من ناحية، أعلى من شأن المبادئ الكبيرة - الدفاع عن الشعوب المظلومة، ومناهضة الاستعمار... ومن ناحية أخرى أنشأ نظاماً رسا على لجنة الأراضي والبلدان المستعمرة وغير المستقلة، وأجاز للقوى الإمبريالية كبح الحركات الاستقلالية وطي السيطرة الاستعمارية. وعليه، جدد الغربيون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا، نظاماً دولياً ينطوي على عوامل نزاع حادة خارج أوروبا هذه المرة.
والقول إن الاتحاد الأوروبي هو وليد النظام العالمي الذي خلف 1945، ويتوقع أن ينهار مع انهيار هذا النظام اليوم، غير دقيق. فمحاولات إنشاء تكتل إقليمي أوروبي تعود إلى أعوام 1920. وجمعت هذه المحاولات، فيما بعد، الدول الصغيرة التي كانت تدور في فلكي ألمانيا وفرنسا، في اتحاد بينلوكس (بلجيكا، ولوكسمبورغ، وهولندا). وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، تنادت أوساط منظمات المقاومة، في البلدان التي احتلها الجيش الألماني (فرنسا وإيطاليا وبلجيكا، إلخ) إلى الإعداد لإعمار بعد الحرب يلحظ بنداً أوروبياً جديداً ومشتركاً يتوجه إنشاء كتلة أوروبية عربية. ومتن الدخول في الحرب الباردة، وولادة معسكر غربي نظير المعسكر السوفياتي، الشرقي، البنيان الأوروبي الوليد. وظهر الأمر جلياً في بداية الحرب الكورية، صيف 1950. فلم يكد يعلن عن اتحاد أوروبي ينسق شؤون صناعتي الفحم والصلب، حتى تبعه الإعلان عن اتحاد أوروبي دفاعي... في أعقاب الانتصار الأميركي في آسيا.
ولكن أوروبا، شأن سائر الدول أو الإمبراطوريات أو الهيئات السياسية والاجتماعية، ذائقة الموت في يوم من الأيام. وإذا لقيت أوروبا حتفها فلن يكون السبب عوامل خارجية، بل تخليها عن قدرتها على تخطي نفسها، هذا النابض الذي حمل شعوباً متنابذة ومتنازعة على الاتحاد. ولن يكون الذنب ذنب الآخرين، بل ذنب دول أوروبا، وشعوبها والأوروبيين واحداً واحداً.
وتتغذى السياسات الإمبريالية المتحضرة، سياسات روسيا والصين والولايات المتحدة أخيراً، من شعور قومي يجدده التفتيش في تاريخ الشعوب عن أجزاء من ماضٍ أليم ترك جروحاً في الكرامة الوطنية. وهذا ليس بالأمر الجديد. فالدول الست التي شاركت في بناء أوروبا لجأ قادتها إلى إثارة الحس القومي. ويخلفهم اليوم قادة معظمهم مولودون في أوائل خمسينيات القرن الـ20. ودونالد ترمب (المولود في 1946) أسنهم. وهم لم يشهدوا مباشرة الحرب العالمية.
لكن هؤلاء "القوميين الجدد" رضعوا حليب الفروق الحادة بين المراتب الاجتماعية، والمناطق الجغرافية المتجددة، وذلك في أعقاب عقود شعر الغربيون في أثنائها بأن دولة الرعاية الاجتماعية عاجزة عن الوفاء بوعودها التي قطعتها على نفسها في 1945. ولا ننسى أن الذين تولوا، بعد الحرب، بناء النظام العالمي، كانوا يكنون للقومية المتطرفة كراهية وعداء قويين. ولا ننسى كذلك، أن الدفاع، في أعقاب الحرب، وفي سائر بقاع العالم، عن الهويات الثقافية واللغوية، وعن استقلال الشعوب، اقترن بمبادرات التوحيد الآسيوية والأفريقية الكبيرة، وبوعي أواصر التضامن على صعيد العالم.
ويود المراقب أن يكون انبعاث مثال القادة الأقوياء والمتسلطين، على زعمهم، ظاهرة عابرة، وأن تتولى الأجيال الجديدة طي هذه الظاهرة. وعلى دولنا الأوروبية أن تعالج الأمر معالجة واقعية، فترفع مستوى استقلالها وردعها الدفاعيين. والقصور عن بناء دفاع أوروبي من هذا الطراز، منذ أعوام 1990، أمر خطر. فللسلم والحرية ثمن ينبغي تسديده.
خلاصة القول أن وجه النظام الدولي يتغير. والعالم، تحديداً الشرق الأوسط، في ترقب.