ملخص
يسهم نهج ترمب في تفكيك النظام العالمي الذي ساعدت أميركا في بنائه، مما يؤدي إلى انهيار التحالفات التقليدية، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، وإعادة توزيع مراكز القوة، وهو ما قد يضع العالم على مسار صراع أوسع، في ظل انقسام متزايد بين الغرب والصين وحلفائها.
في خضم بحثنا عن أدلة حول مستقبل أميركا، يصر [الإعلامي البريطاني الشهير] بيرس مورغان وغيره من حلفاء دونالد ترمب على أنه ينبغي لنا أن نحكم عليه "من خلال أفعاله، وليس أقواله". لكننا شهدنا لغاية اللحظة ما يكفي من الأفعال لفهم ما يعنيه كل ما يجري.
أصبحت قطع الأحجية الخاصة بترمب واضحة بما يكفي للكشف عن المشهد الأكبر والصورة الأشمل- وهي صورة صادمة وذات تبعات هائلة لدرجة أن قلة من الناس يجرؤون على التحدث عنها والتطرق إليها.
في هذا السياق، إذا ربطنا بين أفعال ترمب والسردية التي يروج لها، والمطالب التي يفرضها الآن، فسنصل إلى رؤية تثير القلق. فقد تلاشى أي شعور بالواجب الوطني لدعم أو إصلاح النظام العالمي المنهار الذي ساعدت أميركا وبريطانيا في إرسائه ذات يوم.
واختفى معه أي شعور بالولاء للحلفاء التاريخيين والتحالفات التقليدية. كذلك فإن شلل مؤسسات مثل مجلس الأمن الدولي ومنظمة التجارة العالمية يسهم في تسريع انهيار العولمة. والحقيقة أن ترمب يترقب بزوغ فجر عصر جديد حيث تنطوي الدول على نفسها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وضمن هذه الرؤية، يجري التخلي عن النظام الدولي القديم. ويعتبر فيها نظام بريتون وودز [هي اتفاقية عُقدت بعد الحرب العالمية الثانية عام 1944 في بريتون وودز في الولايات المتحدة الأميركية بهدف تحقيق إرساء النظام المالي الحديث] بالياً وقديم العهد، ويعاد توزيع مراكز القوة من خلال محاور النفوذ الإقليمية: عالم من الفوضى، سمها غابة إن شئت، حيث تقوم قلة من الوحوش المهيمنة ببسط سلطتها على أراضيها بقوة وحشية.
في ظل هذا المنطق، تقع غرينلاند وبنما تحت السيطرة الأميركية. أما أوكرانيا، في المقلب الآخر، فتخضع لسيطرة روسيا. وفي غضون ذلك، ينظر إلى أوروبا وكندا والمكسيك الآن باعتبارها جهات منافسة اقتصادية. وإذا لم يعد من الممكن إبرام صفقات تجارية وفق شروط تصب في صالح أميركا بشكل مطلق، توقعوا حينها فرض تعريفات جمركية موجعة.
لجعل هذا النظام العالمي الجديد يعمل، لا بد من إعادة الترحيب بـبوتين، وإعادة دمج روسيا في الحظيرة الدولية. ويستوجب هذا الأمر أيضاً رفع العقوبات، وإبرام الصفقات. لهذا السبب لن يعترف أي مسؤول رفيع المستوى في إدارة ترمب بشكل صريح أن روسيا هي التي بدأت الحرب. ولهذا السبب أيضاً صوتت أميركا [أخيراً] مع روسيا ضد أوكرانيا في الأمم المتحدة. ولهذا السبب خفضت الولايات المتحدة المساعدات العسكرية الحيوية والضرورية لأوكرانيا.
تعتبر الترمبية مزيجاً من القومية الاقتصادية والحمائية القاسية، التي يتم السعي إلى تحقيقها من خلال المواجهة سواء مع الحلفاء أو الخصوم. وهي ترتكز بشكل أساس على الاعتقاد بأن المصلحة الذاتية تملك اليد الطولى وهي السائدة، وأن أميركا قادرة على فعل ما تشاء وأن تفلت من العقاب انطلاقاً من فرضية أن قلة من الناس سيقاومون وأن البلاد ستصبح أكثر ثراء وقوة ومرونة نتيجة لذلك. ولكن هذا لن يحدث.
في خضم كل ما يجري، لا يسع المرء إلا أن يتساءل عما كان ليفكر فيه رونالد ريغان في شأن المسار الذي تسلكه أميركا اليوم وهي حتماً ليست الطريقة الأميركية التي نعرفها.
فعلى رغم ميل الولايات المتحدة التاريخي نحو الانعزالية، فإنها سعت لفترة طويلة إلى تحقيق التوازن بين هذا الاتجاه والتزام الأمن العالمي والتجارة الحرة. وهي الركائز التي دعمت واحدة من أطول فترات السلام والازدهار في التاريخ الحديث. لذا فإن التخلي عن هذه الالتزامات حالياً يعد خطوة متهورة للغاية.
بالنسبة إلى بريطانيا وأوروبا، يمكن القول إن التأثير الجيو-سياسي عميق جداً. وعلى غرار ما أعلنه رئيس الحكومة في البرلمان الأسبوع الماضي، دخلنا "عصراً جديداً من انعدام الأمن". فالموقف الدفاعي الأوروبي برمته يتطلب الآن إعادة النظر بشكل عاجل. ويتعين علينا أن نستعد لأميركا تنسحب عسكرياً من أوروبا وتتحالف بشكل لا يمكن تصوره مع المصالح الروسية أكثر من تحالفها مع المصالح الأوروبية.
في هذا الإطار، يزعم ترمب بأنه يسعى إلى إحلال السلام بيد أنه سلام وفق الشروط الروسية. دعونا لا نرزح تحت أي أوهام: إن أي اتفاق من هذا القبيل لن يؤدي إلا إلى منح روسيا الوقت لإعادة بناء آلتها الحربية، بهدف مواصلة صراع أوسع نطاقاً في المستقبل، وهذه المرة، من دون أن يعوقها أي تهديد بتدخل حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة.
على النطاق الأوسع وفي المشهد الأكبر، بدأ العالم ينقسم فعلاً إلى معسكرين - الغرب مقابل الصين المدعومة بعدد متزايد من الدول الشمولية التي ترفض بصريح العبارة النظام العالمي الهش الذي كثيراً ما اعتبرناه أمراً مسلماً به. إذا لم تتحد أوروبا وأميركا، ومع التحدي الذي تطرحه الصين للولايات المتحدة في الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية، فمن الصعب استبعاد احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة.
نشهد حالياً نقطة تحول في التاريخ. فكلما طالت مدة إنكارنا لهذه التجربة السياسية الخطرة التي تجري في أميركا، ضاق الوقت المتاح لنا للرد. إنها دعوة إلى التحلي بالشجاعة اللازمة للقيام بما هو صحيح والتمسك بالدفاع عن حرياتنا وقيمنا حتى ولو كان هذا يعني الوقوف في وجه الرئيس ترمب.
توبياس إلوود هو وزير دولة سابق ينتمي إلى حزب المحافظين البريطاني
© The Independent