ملخص
بريطانيا وعدت بتعديل قوانينها الخاصة بسلامة الغذاء بحيث تتماشى تلقائياً مع أي قرارات قد تصدر عن بروكسل في المستقبل
تستورد بريطانيا ما يقارب 40 مليار جنيه استرليني (53 مليار دولار) من المواد الغذائية من الاتحاد الأوروبي سنوياً، أي ما يعادل ربع صادرات الغذاء الأوروبية إلى خارج التكتل.
وتشتري بريطانيا ضعف ما تستورده الولايات المتحدة، ثاني أكبر زبون للاتحاد الأوروبي في هذا المجال، وأربعة أضعاف ما تشتريه الصين، التي تحتل المرتبة الثالثة.
بالنسبة إلى المنتجين الأوروبيين، تمثل السوق البريطانية مكسباً كبيراً، فما دامت بريطانيا غير حرة في تنويع مصادر غذائها من الأسواق العالمية، ستواصل استيراد كميات ضخمة من لحوم الأبقار الإيرلندية، والزبدة الدنماركية، ولحوم الخنزير الألمانية، وهي من أبرز صادرات الزراعة الأوروبية.
ومن أجل الحفاظ على هذا الامتياز التجاري، يسعى الاتحاد الأوروبي لضمان استمرار التزام بريطانيا المعايير والضوابط الغذائية الأوروبية.
وفي حال لم يجرِ تقييد بريطانيا بمعايير الاتحاد الأوروبي، فقد يتجه المستهلكون البريطانيون لشراء لحوم الأبقار الكندية أو الأسترالية بدلاً من اللحوم الفرنسية أو الإيرلندية (صحيح أن البريطانيين يستهلكون كميات كبيرة من اللحوم المحلية، إلا أن جزءاً كبيراً مما يستهلك لا يزال مستورداً).
ويكمن جوهر معظم الخلافات التي اندلعت بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في هذا الموضوع تحديداً، إصرار بروكسل على الحفاظ على معاييرها الغذائية كشرط لاستمرار النفاذ التفضيلي للسوق الأوروبية.
السوق الأسيرة
الجدل في شأن الحدود الإيرلندية، والتحذيرات المتكررة من "الدجاج المغسول بالكلور" و"اللحوم المعالجة بالهرمونات"، ورفض الاتحاد الأوروبي مناقشة أي ملف آخر قبل أن تتعهد لندن بعدم الانحراف عن معاييره الغذائية في إيرلندا الشمالية لم تكن في جوهرها سوى وسائل لضمان بقاء بريطانيا سوقاً أسيرة للمنتجات الأوروبية.
وفيما بدا كأنه نقاش حول السلامة الغذائية أو قواعد التجارة، كان في حقيقته دفاعاً عن مصالح اقتصادية ضخمة للاتحاد الأوروبي، يسعى من خلالها لحماية صادراته الغذائية إلى بريطانيا التي تعد من أكبر مستوردي المنتجات الزراعية الأوروبية.
بريطانيا وعدت بتعديل قوانينها الخاصة بسلامة الغذاء بحيث تتماشى تلقائياً مع أي قرارات قد تصدر عن بروكسل في المستقبل، وهذا ما يقصده مسؤولو الاتحاد الأوروبي بمصطلح "المواءمة الديناميكية"، أي التزام بريطانيا باتباع المعايير الأوروبية الجديدة حتى بعد خروجها من التكتل، من دون أن يكون لها رأي أو تصويت في صياغة تلك المعايير.
ويصف خبراء هذه السياسة بأنها وسيلة لضمان استمرار تدفق المنتجات الزراعية الأوروبية إلى الأسواق البريطانية، والحفاظ على بريطانيا كأكبر مشتر للمواد الغذائية من الاتحاد الأوروبي.
التنازلات البريطانية
وتقول صحيفة "صن"، إنه من المهم إدراك مدى ضخامة هذا التنازل وعبثيته في آن معاً، فلا بأس في أن توافق بريطانيا، بين الحين والآخر، على اتباع بعض القواعد الأوروبية إذا رأت أن ذلك أرخص أو أكثر ملاءمة لمصالحها. لكن أن تلزم نفسها تلقائياً (أي بريطانيا) بتطبيق أي لائحة جديدة يصدرها الاتحاد الأوروبي مستقبلاً، من دون مشاركة أو تصويت، فهو تنازل واسع النطاق يمنح بروكسل سلطة غير مباشرة على سوق الغذاء البريطانية، على حد وصف الصحيفة.
وبينما يسوق هذا التوجه على أنه خطوة نحو "تسهيل التجارة"، يرى منتقدون أنه يبقي بريطانيا فعلياً سوقاً أسيرة لمنتجات الاتحاد، ويقيد حريتها في تنويع مصادر استيرادها من دول أخرى مثل كندا وأستراليا.
وتقول الصحيفة، "من الممكن ببساطة أن تعلن بريطانيا أن معاييرها الخاصة ومعايير الاتحاد الأوروبي ستكون سارية في أراضيها".
واستطردت قائلة، "لكن هذا ليس ما يحدث الآن، إذ تعهدت بريطانيا بصورة مفتوحة ومن دون نهاية بالامتثال لما قد يقرره الاتحاد الأوروبي في المستقبل، وهو ما يعني فعلياً التزاماً غير مشروط بمواكبة القواعد والمعايير التي يحددها الاتحاد، من دون أن يكون لديها القدرة على التأثير في صياغتها أو تعديلها".
بعبارة أخرى، تمنح بريطانيا لوائحها للجهات الرسمية التي هي خارج نطاق سيطرتها، وهي جهات لن تضطر حتى للتظاهر بأنها تأخذ مصلحة البلاد في الاعتبار عند وضع قواعدها.
وهو أيضاً تراجع ضخم، فمنذ تصويت "بريكست"، كانت بريطانيا تتمسك بفكرة اتفاق للاعتراف المتبادل مع الاتحاد الأوروبي، فالطعام الذي يعد صالحاً هنا يجب أن يعترف به هناك، والعكس صحيح، كما لا يوجد شيء غير معقول أو غير عادي في الاعتراف المتبادل، فلا أحد في بروكسل يزعم أن الطعام البريطاني أقل أماناً من الطعام الأوروبي، ولا يزعمون أن معايير رفاهية الحيوانات في بريطانيا أقل.
على العكس من ذلك، إذ تمنع بريطانيا عدة ممارسات شائعة في أوروبا، مثل تربية الخنازير في الحظائر المغلقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الواقع، لدى الاتحاد الأوروبي اتفاق للاعتراف المتبادل مع نيوزيلندا، إذ تختلف معاييرها، رغم أنها آمنة، عن معايير الاتحاد أكثر بكثير مما تفعل معاييرنا، لكن هذا ليس له علاقة بسلامة الغذاء، بل يتعلق بالهيمنة.
لذا فإنه من خلال إبقاء بريطانيا كسوق محتجزة، وخصوصاً بالنسبة إلى مزارعي اللحوم والألبان في إيرلندا، لكن أيضاً للمصدرين الفرنسيين والإسبان والهولنديين والألمان، فإن ذلك يجعل الاتحاد الأوروبي شريكاً تجارياً أقل جاذبية لبقية العالم.
واليوم هناك حديث عن أن حزب العمال سيتمكن من إبرام نوع من اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، لكن سيكون أقل بكثير مما كان يمكن أن يكون عليه بسبب رفض بريطانيا مناقشة الطعام.
ويعتقد أن هناك صفقة تجارية تطبخ بين بريطانيا والولايات المتحدة ستتركز بصورة كبيرة على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وهو أمر جيد، وسيستحق حزب العمال الفضل إذا جرى التمكن من التوصل إلى اتفاقية تعريفة صفرية.
وتقول الصحيفة، "المطلوب من أميركا، ليس فقط من أميركا، بل أيضاً من كندا والهند وأستراليا وأميركا الجنوبية، هو أن تتبع النظام العالمي في تنظيمات الغذاء بدلاً من الحفاظ على الحواجز الحمائية التي ورثناها من الاتحاد الأوروبي".
ووصفت الحواجز على الأغذية البريطانية بــ"غير المبررة" وهو ما اتفقت على قوله الهيئة الاستشارية العلمية الخاصة بالاتحاد الأوروبي، كما سيرحب كثير من المزارعين البريطانيين بالتخلي عن هذه الحواجز ليصبحوا أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية.
لكن اتحاد المزارعين الوطني، الذي كان يفضل البقاء في الاتحاد الأوروبي، يرغب في البقاء على الوضع الحالي، وبالطبع، المسؤولون الحكوميون ونواب حزب العمال الذين يتوقون سراً للعودة إلى الاتحاد الأوروبي لا يرغبون في الانحراف عن هذه القواعد.
وتساءلت الصحيفة، "أي دولة جادة تفوض قوانينها إلى مسؤولين أجانب؟ متى أصبحنا شعباً بهذا القدر من الضعف؟ هذه التساؤلات تعكس واقعاً مريراً أجبرنا على تقبله، إذ تتحكم قواعد الجهات الخارجية في ما يحدث في داخلنا، ما يعكس حال من التنازل وفقدان السيادة".