Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إنترنت غير رسمي في لبنان بمئات ملايين الدولارات... ما علاقة "حزب الله"؟

أكثر من مليون مشترك يستخدمون الويب بطريقة غير شرعية مقابل 400 ألف ينشطون بشكل قانوني

أكثر من 110 شركات لتوزيع الإنترنت في لبنان غير شرعية تعمل خارج الأطر القانونية مستفيدة من البنية التحتية الرسمية (الوكالة الوطنية اللبنانية)

ملخص

تحوّل قطاع الإنترنت في لبنان إلى ساحة للفوضى والاقتصاد الموازي، حيث تنتشر شبكات غير شرعية تغذّي السوق السوداء وتُقدّر خسائرها بأكثر من مليار دولار خلال عشر سنوات. هذه الشبكات، التي تخدم نحو مليون مشترك، تعمل خارج الرقابة وتحظى بغطاء سياسي، وتُستخدم لأغراض مالية وأمنية، بخاصة من قبل "حزب الله". وعلى رغم صدور مراسيم إصلاحية منذ 2022، لم تُنفّذ بنودها بسبب ضغوط ومصالح نافذة.

لم يَسلَم قطاع الاتصالات والإنترنت من تمدد الاقتصاد الموازي والسوق السوداء، التي باتت تهدد ما تبقى من مقومات الدولة اللبنانية. هذا القطاع الحيوي تحوّل إلى ساحة فوضى تديرها شركات غير شرعية وعصابات منظمة، تحظى بحماية سياسية وأمنية. وفي هذا السياق تحدثت تقارير صحافية في السنوات الماضية عن دور كبير لـ "حزب الله" في هذا القطاع، وقالت إنه يستخدم هذا الواقع لتوسيع نفوذه، وتمويل شبكته الاقتصادية، وتأمين موارد مالية ضخمة بعيداً من أعين الرقابة، وعلى حساب الخزينة العامة اللبنانية.

لم يعد الأمر مقتصراً على سوء الخدمة أو غياب الصيانة، بل تجاوز ذلك إلى نشوء منظومة "إنترنت" غير رسمية، تُقدَّر أرباحها بمئات ملايين الدولارات سنوياً، بينما تغيب الرقابة والمحاسبة. الأخطر أن هذه المنظومة باتت تخدم مصالح مالية وأمنية، في ظل تواطؤ رسمي وتراخٍ حكومي مريب.
هذا الاقتصاد الموازي، الذي يعمل خارج الأطر القانونية، يؤثر مباشرة في القطاعات الإنتاجية والخدماتية، إذ يحرم الخزينة من مداخيل هائلة كان يمكن أن تُستخدم في تحسين الخدمات العامة، وتقليص العجز المالي، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي. وفي ظل غياب آليات رقابية فاعلة، تنمو هذه الظاهرة على حساب الاقتصاد الرسمي، ما يعرقل جهود التنمية المستدامة ويضعف قدرة الدولة على ضبط الأسواق وتأمين بيئة اقتصادية شفافة وعادلة.
ويجمع المتابعون للملف أن إنقاذ قطاع الإنترنت لم يعد ترفاً، بل هو ضرورة ملحّة لإعادة الاعتبار للدولة، ولضمان السيادة الرقمية، ولوقف استنزاف الموارد العامة لمصلحة جهات خارجة عن القانون. والمطلوب ليس فقط تفكيك الشبكات غير الشرعية، بل وضع استراتيجية متكاملة تبدأ عبر فرض رقابة صارمة على تراخيص الشركات، وملاحقة المتورطين في التعاون مع الشبكات غير المرخصة، واستعادة الدولة قدرتها على إدارة البنية التحتية، وتطبيق الغرامات من دون استنسابية أو ضغوط سياسية.

سوق سوداء مزدهرة

منذ عام 1995، حصر مرسوم صادر عن مجلس الوزراء توزيع الإنترنت المرخّصة بسبع شركات تملك حصرية إنشاء الشبكات وتوزيع الخدمة، إضافة إلى "أوجيرو" كشبكة الدولة الرسمية. إلا أن الواقع اليوم يكشف عن أكثر من 110 شركات تعمل خارج الإطار القانوني، مستخدمةً البنية التحتية التابعة للدولة لإنشاء شبكات خاصة، في ظلّ غياب الرقابة والمحاسبة، وسكوت سياسي لافت.
وتُقدّر الخسائر الناتجة من هذه السوق السوداء بما يتراوح بين 750 مليون ومليار دولار خلال السنوات العشر الماضية، وذلك من دون احتساب خسائر رسوم المشتركين غير المصرح عنهم والضرائب على أرباح الشركات ما قد يرفع الخسائر الى نحو 1.5 مليار دولار، إضافة إلى مستحقات شراء الإنترنت عبر وزارة الاتصالات غير المدفوعة.
وتخدم الشبكات غير الشرعية نحو مليون مشترك، مقارنةً بـ 400 ألف فقط عبر الشبكات الشرعية، ما يفضح حجم الاختراق الأمني والمالي، ويُكرّس منظومة اقتصادية موازية تستنزف مالية الدولة.


إصلاحات معلّقة

مصادر من وزارة الاتصالات كشفت أن العمل على إصلاح القطاع بدأ نظرياً مع إقرار المرسوم رقم 9458 بتاريخ 30 يونيو (حزيران) 2022، الذي نصّ على:

-  ضبط الشبكات غير الشرعية من قِبل الوزارة.

 - وضع هذه الشبكات بتصرف الدولة.

-  التعاقد لصيانتها خلال مهلة 6 أشهر.

لكن وبعد مرور ثلاث سنوات تقريباً، لم تُنفّذ البنود الأساسية من هذا المرسوم، وسط تعقيدات سياسية وضغوط من أصحاب المصالح. وتشير معلومات إلى أن الوزارة تجاهلت اقتراحاً تقدمت به هيئة "أوجيرو" في 19 أبريل (نيسان) 2022، تضمّن:

- خفض سعات الإنترنت المقدَّمة للشركات الخاصة بما يتناسب مع أعداد المشتركين الفعليين.

- إلزام هذه الشركات بالكشف عن أعداد المشتركين الحقيقيين لديها.

- تقنين أوضاع الشبكات غير الشرعية عبر منح تراخيص مقابل رسوم وتصاريح شفافة.

دراسة "أوجيرو" كشفت حينها عن وجود 157889 مشتركاً غير مصرّح عنهم في أول شهرين من عام 2022. كما أشار تقرير ديوان المحاسبة الصادر في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 إلى أن بعض الشركات المرخّصة تستهلك 470 غيغابايت/ثانية لخدمة 145 ألف مشترك فقط، على رغم أن الحاجة الفعلية لا تتجاوز 43 غيغابايت/ثانية، ما يعني أن الفائض يُستخدم لتغذية الشبكات غير القانونية.
اللافت أن بعض الشركات المرخّصة لا تملك أي مشترك فعلي، ويقتصر نشاطها على تزويد الشبكات غير الشرعية بالخدمة، ما يطرح تساؤلات جدية حول المعايير التي تم بموجبها منح التراخيص.

قرارات متضاربة

المرسوم 9458 نفسه فتح المجال أمام الشركات المرخّصة لاستثمار الشبكات غير الشرعية ومنحها عقود صيانة لثلاث سنوات، من دون أي إجراءات قضائية، ما عزّز من هيمنة القطاع الخاص وأضعف دور الوزارة.
ديوان المحاسبة رفض في وقت سابق طلب توقيع عقد صيانة مع "أوجيرو" بقيمة 300 مليار ليرة سنوياً، بحجة أن الشبكات غير المضبوطة لم تُحدَّد ملكيتها بعد، ولم يُنجَز أي ملف مكتمل لأكثر من 106 شركات من أصل 600 مخالفة.
وما يعزز صحة الكلام عن الإنترنت غير الشرعي، قرار ديوان المحاسبة الصادر بتاريخ 29 أغسطس (آب) 2024 والذي يحمّل وزارة الاتصالات مسؤولية الهدر في هذا القطاع الهام وعدم القيام بواجباتها، لا سيما لجهة تطبيق القوانين والمراسيم النافذة في هذا الإطار، والعمل على ضبط شبكات الإنترنت غير المرخصة والتي يبلغ عددها 638 شبكة.

وشددت مصادر في وزارة الاتصالات على أن القطاع يُعد من أبرز موارد الخزينة اللبنانية، وأن الوزارة تعمل على خطة لإعادة ضبط الوضع وتنفيذ ما ورد في المرسوم تدريجاً، مع السعي لضمان استمرارية الخدمة والسيادة الرقمية.
وأكدت المصادر عينها أن غياب التنسيق بين الجهات المعنية (الشركات الخاصة، الشركات الناقلة، إدارات الدولة) أعاق التنفيذ، مشيرةً إلى أن الوزارة بدأت بتنفيذ المادتين 16 و17 من المرسوم، ووقّعت عقوداً نموذجية مع عدد من المخالفين.
كما نفت الوزارة أن يكون تجاهل اقتراحات "أوجيرو" ناتج من نية سياسية، مؤكدة أن الأولوية كانت لتفادي أي انقطاع بالخدمة عن المواطنين.

تحرك أميركي مرتقب

الفراغ التشريعي والسياسي الذي يغرق فيه قطاع الاتصالات في لبنان لم يمر من دون تداعيات خارجية. فقد كشفت مصادر مطلعة أن وزارة الخزانة الأميركية تدرس فرض عقوبات على أفراد وهيئات لبنانية، بسبب تورطهم أو تغطيتهم لشبكات الإنترنت غير الشرعية.
وتعتبر واشنطن أن هذه الشبكات تُدرّ أرباحاً ضخمة تُستخدم في تمويل "حزب الله" وأنشطة تهدد الأمن الإقليمي، وتشير التقديرات الأميركية إلى أن قطاع الاتصالات غير الشرعي في لبنان يدر ملايين الدولارات تُستغل في دعم جماعات مصنفة إرهابية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مدخل الإصلاح

في السياق رأى الباحث الاقتصادي محمود جباعي أن "الاقتصاد غير الشرعي بات يسيطر على قطاعات أساسية في لبنان، ما يؤدي إلى خسائر فادحة في إيرادات الدولة ويفاقم الأزمة المالية". وأشار إلى أن "هذا الاقتصاد لا يدفع أي رسوم أو ضرائب، على عكس الشركات الشرعية التي تسهم في تغذية الخزينة العامة وتعزيز قدرة الدولة على تقديم الخدمات".
وأوضح أن قطاع الإنترنت يُعدّ نموذجاً واضحاً لهذا الخلل، حيث تُحرم وزارة الاتصالات من إيرادات تُقدَّر بنحو 100 مليون دولار سنوياً بسبب توسع شبكات الإنترنت غير الشرعية. وبحسب تقديراته، ما يعادل 60 في المئة من إجمالي مستخدمي الإنترنت في لبنان، يشتركون عبر شركات غير شرعية.
وأشار إلى أن معالجة هذه الأزمة لا تتطلب بالضرورة سنوات، إذ يمكن اتخاذ خطوات عاجلة بالتوازي مع بلورة خطة شاملة لمكافحة الاقتصاد الموازي في مختلف القطاعات، ومنها الاتصالات والكهرباء. وأكد أن تعزيز دور الشركات المرخّصة ومنحها مساحة أوسع للعمل سيؤدي إلى زيادة الإيرادات، لافتاً إلى أن هذه الشركات تُدخل حالياً نحو 50 مليون دولار سنوياً إلى خزينة الدولة. وأضاف جباعي "إذا نجحت الحكومة في استعادة الإيرادات المفقودة من قطاع الإنترنت غير الشرعي، فإن وزارة الاتصالات ستتمكن من تحسين بنيتها التحتية وتطوير خدماتها، ما ينعكس إيجاباً على مجمل الاقتصاد الوطني".
وشدد جباعي على ضرورة تخفيف البيروقراطية والعراقيل القانونية التي تواجه الشركات المرخّصة، ما يسهل توسيع نطاق خدماتها بشكل منظم وفعّال. كما دعا إلى فرض رقابة صارمة ومعايير واضحة لضمان جودة الخدمة ومنع التلاعب بالأسعار، مشيراً إلى أن الدولة تستوفي حالياً نحو 60 في المئة من إيرادات هذه الشركات، في حين يعمل مزوّدو الإنترنت غير الشرعي عبر شبكات خاصة من دون أي التزامات مالية أو فنية.
ورأى المتحدث ذاته أن دعم الشركات الشرعية لا يخدم فقط هذه الشركات، بل الدولة ككل، لأنها تضمن استمرارية الجباية وتحسين مستوى الخدمة للمواطنين، خصوصاً في المناطق الحدودية والنائية التي تعاني من غياب الدولة وغياب التنظيم.

واعتبر أن مكافحة الاقتصاد غير الشرعي، خصوصاً في قطاع حيوي كالاتصالات، يبعث برسالة إيجابية إلى الداخل والخارج. فهو يعزز ثقة المواطن بالدولة من جهة، ويحسّن صورة لبنان أمام المجتمع الدولي من جهة أخرى، لا سيما في ظل الحديث عن القوائم الرمادية والعقوبات المرتبطة بالاقتصادات غير الشرعية التي تستغل المواطنين وتفرض تكاليف عشوائية من دون أي رقابة.


الأمن السيبراني

في هذا السياق، حذر المستشار في أمن المعلومات والتحوّل الرقمي رولان أبي نجم، من غياب الحماية السيبرانية في لبنان، مؤكداً أن "المواطنين مكشوفون بالكامل أمام أي عملية اختراق أو تجسس بسبب غياب البنى التحتية التكنولوجية الأساسية وغياب استراتيجية واضحة للأمن السيبراني".
وأشار الى أن غياب إطار تنظيمي واضح لقطاع الإنترنت في لبنان أدى إلى تفشي هذه الشبكات غير المرخصة، مما يشكل تهديداً مباشراً على خصوصية المستخدمين وأمن بياناتهم، وأن هذه الشبكات تفتقر إلى معايير الأمان الأساسية، مما يجعل بيانات المستخدمين عرضةً للاختراق والاستغلال، مؤكداً على ضرورة وضع سياسات تنظيمية صارمة لمراقبة قطاع الإنترنت، وتطبيق القوانين بحزم للحد من انتشار هذه الشبكات غير الشرعية، وذلك لحماية بيانات المواطنين والحفاظ على الأمن الرقمي في البلاد. ​
وكشف أبي نجم أن شبكة الإنترنت الرسمية في لبنان لم تخضع لأي صيانة أو تطوير منذ عام 2019، مشيراً إلى أن البنية التحتية المهترئة، وغياب أجهزة وبرمجيات الحماية، تضع المستخدمين في دائرة الخطر. وأضاف "نحن في وضع مأساوي. لا صيانة، لا كهرباء، لا تحديث للأنظمة، ولا حماية رقمية. وكل التحذيرات التي نُطلقها اليوم أشبه بمن يُنذر غريقاً ببضعة قطرات ماء، بينما هو غارق بالكامل".
وأكد أبي نجم أن "العديد من المنصات الحكومية في لبنان تعاني من ضعف البنية الأمنية، بل بعضها مهدّد فعلاً بالاختراق أو يعاني من تسريبات متكررة للبيانات". وقال إن "المؤسسات الرسمية تنشئ منصات إلكترونية من دون أدنى التزام بالمعايير الدولية للأمن السيبراني، ومن دون حوكمة رقمية فعلية. والنتيجة أن بيانات المواطنين تُخزّن من دون حماية، وتُتداول بين الناس وكأنها أوراق عامة".
ورأى المستشار في أمن المعلومات أن خطورة الوضع لا تقتصر فقط على الاختراقات الخارجية، بل تشمل أيضاً تسريبات داخلية للبيانات الحساسة من دون أي محاسبة. وختم بالقول إن "المعلومات اليوم هي النفط الجديد، وكل الجهات- المعادية منها وغير المعادية- تسعى للحصول عليها. وكل تأخير في بناء استراتيجية وطنية للأمن السيبراني يفاقم الكارثة".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير