Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اللوحة فضاء روحاني في معرض "أغمض عينيك لتراني"

عالم الرسام عبدالقادري يزخر بالشمس والطيور ورموز الحديقة

حديقة أشجار التين وطيور - عمل تجهيزي (خدمة المعرض)

ملخص

"أغمض عينيك لتراني" معرض للرسام عبدالقادري، عنوانه مستوحى من إرث الشعراء والمتصوفين، وهو محاولة فنية لاسترداد الضوء الداخلي الذي لا يمكن للظلام أن يمحوه. يقام المعرض في غاليري تانيت، بيروت.

"أغمض عينيك لتراني"، ليس هذا العنوان بكل ما يحمله من إغراء وسحر وتلاعب، مجرد دعوة بصرية، بل هو حال وجودية تأخذنا إلى عتبة عالم لا يُرى بالعين المجردة، عالم تختبئ فيه حقيقة الأشياء خلف ضوضاء الواقع. إنها دعوة للتحول من الإدراك الظاهري للبصر إلى الإدراك الباطني للبصيرة، انسجاماً مع مقولة بول غوغان: "العين ليست هنا لترى ما هو خارجي، بل ما هو داخلي". وعلى خطاه، يدعونا الفنان التشكيلي عبدالقادري إلى إغماض العين عن صخب الحياة ومرارتها، والالتفات نحو حدائق الطفولة حيث تحلق الطيور كأوراق الأشجار في فضاء لا تغيب عنه الشمس.

ولا تقتصر المفارقة الشعرية على العنوان بل تمتد لتشمل المحتوى الفني القائم على لغة الاختزال والتفكيك لعالم الأشكال ومفردات الطبيعة، وتنحسب على الايحاءات التي يمنحها السطح التصويري، بطبيعته المتقشفة والأقلية والارتجالية، ليغدو أداة تعبر عن الهشاشة والزوال. هذا السطح على رغم من اقتصاره الظاهر على مقامات لونية قليلة، غير أنه غني بتقنياته ودلالاته وملامسه وتأويلاته. فالتعبير الذي يعتمد على عجالات خطية وضربات لونية حرة واختبارات على السطح، هو خاصية جمالية تميز أسلوب القادري في أعماله الطباعية والورقية والتجهيزية، وما يرافقها من تأملات في مشهدية الطبيعة وحطام الأبنية المدمرة والزجاج المكسور والذاكرة الجريحة ويوميات الثورة.

تأتي تجربته امتداداً لمسار فني يتقاطع فيه الشخصي بالجماعي، والحداثي بالمعاصر. فهو وريث لأساليب رواد الحداثة وما بعدها في لبنان (خصوصاً ايفيت أشقر ورفيق شرف وفاطمة الحاج) ومن الجيل الذي طبعت الحرب أعماله بتداعياتها وسردياتها. نستذكر مشروعه "تحت ماكينة الخياطة" (ميونيخ- 2023) حيث يعود إلى ذكريات طفولته تحت ماكينة خياطة الأم، ومشروع "واليوم أود أن أكون شجرة"، الذي نفذه في الدوحة، خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2023، ثم "رقصة الموت: من مخاطر المدينة إلى الصخب الصاخب"، المقدم من متحف BeMA، بالتعاون مع مركز مينا للصورة وغاليري تانيت (2024)، مكرساً الوعي بدور الفن في مواجهة العنف، واستكشاف التجارب المكبوتة، مع التركيز على مسائل الهجرة والذاكرة والانتماء.

شمس لا تنطفئ

في معرضه "أغمض عينيك لتراني" يواصل عبدالقادري تأملاته في الدمار والفقد والذاكرة، عبر لغة تجريدية تستخلص النار والضوء: فالدائرة الحمراء، التي بدأت شمساً، تطورت لتصبح مع الوقت رمزاً وندبة ظاهرة لا تفارق أعماله، تعود جذورها إلى الصدمة البصرية التي خلّفها انفجار 4 أغسطس (آب) عام 2020. حين انقلبت السماء فجأة في وقت الغسق إلى كتلة من الأحمر الناري، سرعان ما انطبعت كصورة مأتمية في الذاكرة. مثلت هذه اللحظة نهاية النهار كنهاية للعالم قبل أن تُستعاد هذه الدائرة كإشارة إلى فجر يتشكل من قلب العتمة. ارتبط هذا الحدث المأساوي أيضاً بدمار غاليري تانيت حيث كان يقيم معرضه "بقايا آخر وردة حمراء"، غير أن الأمل عاد ليتجسد في عرض تجهيزي أقامه وسط الأنقاض بعنوان "واليوم أود أن أكون شجرة" هناك، ارتفعت دائرة حمراء لامعة فوق غابة من الأشجار المتفحمة، كأنها نار تُصر على البقاء. من هذا الجرح وُلدت الفكرة، وتتابعت في مسار فني أخذ يبتعد تدريجاً عن الواقع المباشر نحو تجريد أكثر صفاء ورهافة، يلامس أحياناً تأملات الـ"زان" في الطبيعة وفي البحث عن سكينة الروح داخل أقصى لحظات الاحتراق.

يقول القادري في نص مرفق بالمعرض: "عندما غادرت بيروت إلى باريس، تبعتني الدائرة الحمراء، أصبحت نوعاً من التوقيع يحمل ثقل الفوضى والدمار، خصوصاً بعد طوفان الأقصى وحرب الإبادة، وصولاً إلى العدوان الاسرائيلي على لبنان. فبحثت عن ملجأ في لوحات قماشية صغيرة مرسومة عند الغسق، سميتها قصائد قصيرة، كل منها بمثابة يوميات للضوء والخسارة، ومحاولة للتمسك بجمال زائل لا تستطيع القسوة بشرية أن تمحوه".

اتجه القادري إلى تجريد الشمس من طبيعتها الوصفية، لتظهر كدائرة صافية، كتلة ضوئية معلقة، أو مركز طاقة يختبر عبره حدود الإشراق والخفوت. وتغدو الشمس استعارة تنبثق من المشهد تنبثق من المشهد اليومي ثم تتسامى إلى فكرة، فيما يحرر الفن الوعي من صورة الشمس التقليدية ليعيد كتابتها كرمز، وكضوء، وكمرآة للذات؛ مرة علامة، ومرة كتلة إشراق، ومرة نقطة انبثاق للوجود نفسه.

حركة الطير

يتقاطع قرص الشمس وهالاته الحارقة مع إيماءات حركة الطير في فضاء مأهول بأثر خاطف لغبار الفحم ونقاط اللون ومسارات الضوء. وبانفعال اليد أثناء الرسم تندلع الحركة، التي تأتي وترحل كعاصفة تتبدد كجناح طير أو ريشة في الفراغ المطلق. وبين التجريدي والتشبيهي، المباشر والموارب، يتمثل ذلك الوهم بوجود بؤرة حمراء ثابتة، في مقابل عصف يدفع بالمشهد إلى حركة فجائية، ودينامية تتولد من قوة التلطيخ. ويقابل هذا العنف البصري فعل آخر هو "الإمحاء". وعلى تماس مع تجارب هارتونغ، لا يكتفي القادري بالانفعال اللحظي للضربات الصاعقة التي يخطها بالأسود الفحمي فوق القماش، بل يقوم بقحط اللون عن السطح، فيزيل، ويطمس، كأن اللوحة نفسها تخوض صراعاً بين الظهور والغياب. فالإمحاء ليس نقيض الضربة، بل امتدادها؛ وجهها الآخر الذي يكشف ما تُخفيه الخطوط، ويعيد توزيع الضوء واللون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هذا التفاعل بين الأسود الفحمي والفراغ الموشى بالخدوش والنقاط والتفاصيل والخربشات، تُولد توترات دقيقة تجعل اللوحة حيزاً مفتوحاً على الاحتمال. هكذا يتأسس عالمه على مفارقة لافتة: حضور شديد يتحقق عبر الحذف. فالضربة السوداء تسجل أثر الزمن، والإمحاء يعيد الزمن إلى بدايته. وبينهما يتشكل ذلك الحس الدرامي الذي يطبع أعماله، حيث يتحول الفحم وألوان الزيت والباستيل الطبشورية إلى آثار وجودية، وإلى لغة بصرية لا تبحث عن تمثيل شيء خارجي، بل عن القبض على جوهر الحركة، وما تتركه من ندوب وإشراقات على صفحة العالم.

الحديقة كفضاء روحي

لا نزاع في أن الفن في جوهره عملية تحريف وطريقة للرؤية، تجد فيها الأحداث الماضية طريقها إلى التحقق. هكذا يستكشف الفنان نفسه، يختبر أدواته وطرائقه في التلوين والمعالجة والاختصار والتلميح والترميز، جاعلاً من هذا الاستكشاف أداة لإنهاء ارتباطه المباشر بالوجود الخارجي للأشياء بعد استقرارها في ماضيها، ليصبح الزمن الذي تتحرك فيه اللوحة معبراً نحو المستقبل بعد انفلاته من الحاضر.

ومن نوستالجيا الماضي تحضر الحديقة والطيور في عمل تجهيزي، ينتقل فيه عبدالقادري من الرسم الفردي إلى خلق بيئة بصرية ونحتية متكاملة، تُشكل إبحاراً في الذاكرة الشخصية والجماعية لبيروت، موظِفاً اسلوب الموزاييك الجداري المركب مع المنحوتات البرونزية، ليؤسس بذلك مفهوم الحديقة الرمزية.

في قلب التجهيز تكمن جدارية ضخمة موزعة على مربعات بيضاء. إنها ليست مجرد لوحات ورقية، بل تركيب طباعي يُجسد شجرة التين بأغصانها وفروعها وأزهارها، وهي شجرة ذات حضور عميق في ذاكرة طفولة الفنان ببيروت، ورمز للبيت المتوسطي والارتباط بالأرض. الطباعة على الورق الأبيض يُعطي إحساساً بـالشفافية ونعومة الأثر والذكريات العابرة. بينما يضفي اللون الوردي لأزهار الشجرة على المشهد طابعاً غنائياً حزيناً، وكأنها تنبت في زمن العزاء والرجاء معاً. ويتوّج المشهد القرص الأحمر الساطع، مُوحداً الأجزاء المتناثرة ومُعيداً ربطها بـالشمس ورمزية دورة الحياة. في مواجهة الجدارية، تتوزع المنحوتات البرونزية للطيور على منصات أسمنتية خشنة، لتُشكل "قطعة الأمل" في هذا المشهد. واللافت في هذه الطيور هو طريقة صنعها، إذ إنها لم تُنحت بشكل تقليدي، بل صُنعت من أوراق شجرتي التين والكاتشوك، وتم تغميسها بالشمع، ثم صُبَّت بالبرونز. هذا التحويل ليس مجرد تقنية؛ إنه تدويم للمادة العضوية الهشة (الورقة العابرة) إلى مادة قوية مستقرة (البرونز).

في جوهره يمثل هذا التجهيز رثاء وتحية في آن واحد، يستخدم الفنان المواد كلغة شعرية ليُعلن أن الذاكرة، حين تُصقل بالفن، لا تموت بل تكتسب أجنحة وتطير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة