ملخص
مع انتفاضات جماهير السوشيال ميديا في مصر ضد كل طرح جديد أو فكر مختلف أو قضية تثار لمناقشة رؤية فكرية أو فنية أو حتى اجتماعية لموضوع ما فإن هذا يطرح تساؤلاً عمن ينبغي أن يقود المشهد الثقافي هل المؤسسات الثقافية على اختلاف تخصصاتها والمفكرون ذوو العلم والرأي المبني على خبرات، أم جماهير السوشيال ميديا العريضة التي تتبنى أحياناً حملات قد تكون منظمة أو عشوائية لمحاربة منتج ثقافي معين؟
بين حين وآخر، تشهد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر موجة هجوم عريضة ضد كتاب أو فيلم أو شخصية ذات فكر يختلف مع السياق السائد والأفكار التقليدية في المجتمع، ليتحول في بعض الحالات ذلك الهجوم إلى شكل من أشكال الضغط على المؤسسات والأفراد المعنيين بالشأن الثقافي، مما قد يدفعهم إلى اتخاذ قرارات معينة تجنباً لحملات واسعة تشنها قطاعات من الجماهير بزعم حماية المجتمع المصري، أو الحفاظ على القيم، أو الادعاء بأن هذه المادة تسيء إلى الأديان أو تطرح أفكاراً لا ينبغي مناقشتها.
وأخيراً وتزامناً مع معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي انتهت فعالياته منذ أيام، سحبت واحدة من دور النشر المصرية كتاباً من ضمن عناوينها المنشورة بعنوان "كاملات عقل ودين" للكاتبة أسماء عثمان الشرقاوي على إثر حملات على مواقع التواصل الاجتماعي ضد الكتاب، الذي تناول طرحاً مختلفاً لبعض الأحاديث المتعلقة بالمرأة، ويقدم فصولاً تتناول جمع وتدوين السنة النبوية في مراحل مختلفة، إضافة إلى تطرقه إلى كتاب صحيح البخاري وعرض لآراء العلماء فيه.
وجاءت غالبية التعليقات المناهضة للكتاب ودار النشر تحت دعوى أنه تجرؤ على الرسول ومخالفة لنص حديث، وأنه لا يجوز أن يطرح كتاب بهذا العنوان من الأساس، في وقت أشارت تعليقات أخرى إلى أن تلك الحملات التي اشتعلت على دار النشر من المتوقع أن غالب من يروجون لها لم يقرؤوا الكتاب، إنما شاهدوا غلافه على صفحات الدار أو شاهدوه على أرفف جناحها في المعرض، وفق ما رصدته "اندبندنت عربية" من واقع تلك التعليقات، ولاحقاً أصدرت دار النشر بياناً على صفحتها على "فيسبوك" يشير إلى أنه ما دام أن "الرأي الغالب" رفض هذا الطرح فإنهم سيرفعون الكتاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشار إلى أنه لا توجد أية جهة مسؤولة اعترضت على الكتاب، فلا منع من الدولة ومؤسساتها المعنية، ولا اعترض الأزهر أو أية جهة دينية، إنما جاء المنع "تطوعاً" من الدار التي رضخت للسياق العام، واستجابت للضغط الشعبي من جمهور السوشيال ميديا.
المبرر الذي ساقته دار النشر بأنه "ما دام أن الرأي الغالب رفض هذا الطرح"، لسحب الكتاب، يثير تساؤلات، حول: هل تطرح الأفكار للاستفتاء العام وإذا تقبلها الجمهور تطرح وإذا اعترض تيار عليها تسحب إيثاراً للسلامة؟ ومن يقود المشهد الثقافي المصري المؤسسات الثقافية على اختلاف تخصصاتها والمفكرون ذوو العلم والرأي المبني على خبرات، أم جماهير السوشيال ميديا التي أصبحت سيفاً وسلطة رقابية على الفن والفكر وحرية الرأي؟
طرح الأفكار بالتدريج
يعتقد الناقد الأدبي مدحت الجيار أن الصيغة الأمثل لعرض الأفكار والأطروحات الجديدة على المجتمع لتجنب الاتهامات والمزايدين باسم الدين أو القيم هي "طرح تلك الأفكار على المجتمع بالتدريج مع خلق حالة من النقاش بين المختصين وسماع آرائهم، وبعدها تقييم أية مادة فكرية أو فلسفية والحكم عليها هل هي ذات قيمة أم لا؟ وهل ما جرى طرحه يفيد الناس وينعكس عليهم بالإيجاب أم لا؟ وفي الوقت نفسه نعرض هذه الأفكار على الجمهور بصورة مبسطة يمكن أن يستوعبوه في المحافل المختلفة، حتى نطمئن إلى أن ما ندعو إليه يلقى قبولاً نسبياً منهم".
ويوضح الجيار، "بصورة عامة، الفكر يرد عليه بالفكر لا بالمنع أو المصادرة، هذا شيء تجاوزه الزمن، كبار الكتاب والمفكرين من أمثال طه حسين ونجيب محفوظ صودرت ومنعت مؤلفات لهم وتعرضت لأزمات، لكنها بقيت في النهاية، لأن الجيد هو ما سيبقى. كثير من الكتب صودرت ولم يشعر بها الناس أو يهتموا لأنها ليست ذات قيمة، بينما كتب أخرى حققت نجاحاً طاغياً بعد منعها أو مصادرتها، لأن هذا كان سبباً في إثارة فضول الناس للاطلاع عليها".
للدراما نصيب
ليست الكتب فقط هي ما يتعرض بعضها لحملات مناهضة لأفكارها على السوشيال ميديا، لكن السينما والدراما أيضاً أصبحت في الآونة الأخيرة تواجه هذا الوضع، وفي السنوات الأخيرة تعرضت بعض الأعمال الدرامية لانتقادات وحملات كبيرة من بينها أفلام أو مسلسلات أو حتى فنانين بعينهم مع وجود الحالة نفسها من كون الجمهور لم يشاهد العمل، ولم يقيمه بصورة متكاملة، إنما الانتقاد يكون للمبدأ أو لفكرة أو مشهد أو لقطة جرى طرحها من العمل.
وعلى مدى عشرات السنوات تعرضت أفلام سينمائية لأزمات مع الرقابة سواء في شأن أفكارها أو بعض المشاهد التي كان هناك تحفظ عليها أو جرى اعتبارها لا تتوافق مع المجتمع، وحتى الأشهر الأخيرة لا تزال بعض الأفلام تواجه هذا الوضع، فمثلاً منع عرض الفيلم الروائي القصير "آخر المعجزات" في افتتاح مهرجان الجونة الماضي، وهو مأخوذ عن قصة نجيب محفوظ "خمارة القط الأسود"، وأزمة أخرى حدثت أخيراً عندما منع القضاء عرض فيلم "الملحد" بعد تقديم دعوى ضده باعتباره يسيء إلى الدين الإسلامي.
على رغم انتقاد كثير من الناس سواء من المختصين أو العوام لمبدأ المنع في هذا العصر فإن النموذجين السابقين منعا من جهات رسمية شاهدت الأعمال وقيمتها، لكن بالتوازي شنت ضدهما حملات على مواقع التواصل الاجتماعي أسفرت عن تحريك دعاوى قضائية أو إعادة النظر في المحتوى من المقيمين للعمل.
هذا الهجوم الضاري الذي يعرض له صناع السينما والفنانين يكون له انعكاس على شكل الصناعة بكاملها، فالقائمون عليها قد يؤثرون السلامة، ويتجنبون طرح قضايا ومواضيع من شأنها إثارة الجمهور العام الذي قد يتبنى مثل هذه الحملات التي قد تؤدي إلى فشل الفيلم أو منعه أو رفعه من السينمات وغيرها من الأزمات التي يمكن أن تواجهها صناعة السينما.
موقف وهمي
تقول الناقدة السينمائية ماجدة خير الله، "بعض الفئات يكون لها هدف أو مصالح معينة ضد أي عمل ثقافي أو تنويري، فتقوم بمثل هذه الحملات التي قد تكون ممنهجة أو تسير بصورة عشوائية، بعضهم قد ينجرف في السياق بهدف شهوة المشاركة التي أصبحت سمة منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان هذا يتم في غالب الأحوال من دون علم أو وعي، فلا تكون هذه الجموع قرأت الكتاب أو شاهدت الفيلم أو تعرف أي تفاصيل عن الأزمة المثارة، إنما هي الرغبة في أخذ موقف وهمي، الأزمة هنا أن بعض المؤسسات الإعلامية والصحافية أصبحت تأخذ معارك السوشيال ميديا الوهمية وتبرزها باعتبارها معارك حقيقية".
وتستشهد خير الله، "منذ عامين قامت حملات كبيرة ضد مسلسل منى زكي (تحت الوصاية) بمجرد عرض الأفيش في الشوارع، مدعين أنها تشوه صورة السيدة المحجبة بارتدائها ملابس بسيطة وغير مهندمة، لم يكن المسلسل عرض وقتها ولا أحد يعرف قصته، ولم يفكر شخص واحد من المنساقين وراء هذا التوجه بأن هذا المظهر يمثل طبيعة الشخصية الدرامية وتعرض العمل لحملات شرسة حينها، وبمجرد عرض المسلسل حصل على إشادات واسعة وتصدر الترند على ذات السوشيال ميديا التي هاجمته باعتباره يناقش قضية في غاية الأهمية وتكشف عن السبب الذي جعل البطلة تكون بهذه الهيئة، هذا النموذج هو مثال واضح وكاشف على طبيعة حملات السوشيال ميديا".
وتشير الناقدة الفنية إلى أن العالم تجاوز منذ عقود مرحلة المنع، وأي فيلم أو كتاب أو منتج فني ظهر للنور سيجد ألف طريقة للوصول للناس، بل على العكس "المنع أحياناً يكسب المنتج الثقافي قيمة وشهرة، ويساعد في انتشاره، وكل هذه الحملات تأخذ وقتها وتختفي وتبدأ الأصوات العاقلة في الظهور، ولا يبقى في النهاية سوى العمل الجيد".
مهادنة السوشيال ميديا
وتعد السوشيال ميديا واحدة من أهم مصادر المعلومات عند قطاعات عريضة من الجماهير، إذ أصبحت بسياقها المجتزأ وبنجومها ومؤثريها الذين يكونون في حالات كثيرة غير متخصصين هي المصدر الرئيس للمعلومة، ولتكوين الرأي والانسياق وراءه، بخاصة بما تتيحه للشخص أنه صاحب رأي وله وجهة نظر يستطيع عرضها في تعليق أو منشور أو فيديو يمكن نشره وتداوله والحصول على كثير من الإعجابات والتعليقات عليه ترسخ لديه أنه على صواب.
وعن ذلك تقول سهير صالح أستاذ الإعلام وعميد المعهد العالي للإعلام بأكاديمية الشروق، "للأسف قطاع كبير من جمهور السوشيال ميديا غير واع ويأخذ بالقشور، وكثيراً ما يجتزئ الأشياء من سياقها، إذ يقتطع فقرة من كتاب أو مشهد من فيلم أو حتى تصريح أو تصرف صادر من فنان أو كاتب أو أية شخصية عامة، ويكون رأياً يتم تداوله، وينتشر من شخص إلى آخر من دون اطلاع على صحيح الأمر بصورة كلية، هذا الوضع نتج منه أن بعض الشخصيات المعروفة في مجالات الفنون والثقافة أصبحت تخشى قول رأي أو الاشتباك في مناقشة أو تبني موقف يتنافى مع السياق العام للعوام، لأن مجتمع السوشيال ميديا في غاية القسوة، وأحياناً عدم الإنسانية مع قدرة كبيرة على قلب الحقائق وتصدير صورة بعينها وكأنها الواقع، وبالطبع ينعكس هذا بصورة كاملة على المشهد الثقافي".
وتضيف صالح، "من المفترض في هذا العصر أننا تجاوزنا مرحلة المنع، وحتى إن الرقابة أصبحت كلمة غير مقبولة وتستبدل بمفهوم أشمل وهو التنظيم، وهذا ما لا يدركه بعض جمهور السوشيال ميديا، وهو أن حملاتهم قد تأتي بنتيجة عكسية فتزيد من مشاهدة الفيلم أو تجعل الفضول يدفع الناس لقراءة كتاب معين، مواقع التواصل الاجتماعي من المفترض أن تكون أدوات تضيف للمشهد الثقافي بكل جوانبه، لكن على أرض الواقع فإنها تستغل بأسوأ صورة ممكنة".
وتشير أستاذ الإعلام إلى أنه بالفعل هناك بعض المؤسسات ترضخ لضغط السوشيال ميديا، وتحاول إرضاءه ومهادنته، وهنا تكمن الأزمة فتكون هذه الجماهير التي لا يمتلك غالبها معلومة أو صورة كاملة هي من يحرك المشهد، بخاصة مع قلة الوعي واعتماد الأجيال الجديدة بصورة كاملة على استقاء الثقافة من السوشيال ميديا.