Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التهم توصل امرأة الى منصة الإعدام في "كيف نسامحنا"

إسماعيل عبدالله ومحمد العامري يدخلان العالم المحظور مسرحياً

المرأة البريئة على منصة الإعدام في مسرحية "كيف نسامحنا" (خدمة العرض)

ملخص

لماذا تموت الأمهات؟ سؤال تفتتح به مسرحية "كيف نسامحنا" أحداثها على لسان عامل تنظيفات (أحمد العمري). العرض الإماراتي الذي قدم ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان المسرح العربي في دورته الـ 15 في العاصمة العمانية مسقط، كتبه إسماعيل عبدالله وأخرجه محمد العامري.

لا يقف عرض "كيف نسامحنا" عند سؤال المشهد الأول، بل اتبع أسلوباً سينمائياً عبر تقنية العودة خلفاً (فلاش باك). امرأة تقف على منصة الإعدام وحبل المشنقة يطوق عنقها. لا نعرف شيئاً عنها، ولماذا تتعرض لهذا المصير. لكن سرعان ما تؤجل مراسم الإعدام، فرئيس المحكمة العليا المكلف تلاوة الحكم تعرض لحادثة مفاجئة، وعليه يتم تأجيل موت المرأة لمدة ساعة.

المصير ذاته تلاقيه بطلة العرض (أماني بلعج) التي تشرف على دار لرعاية الأيتام والأرامل في أحد الأبنية السكنية، إذ إن السيدة اتهمت زوراً وبهتاناً من سكان البناء بأنها فاسقة وزانية وقاتلة، فحكم عليها بالإعدام شنقاً. تلفيق قوبل بالتطبيل والتهليل والتصفيق من جميع من حولها، فابتُلعت الألسن وشُلت الأيدي من دون أن يملك أحد صك براءتها. لكن لماذا تعرضت هذه المرأة لكل هذا الضيم، ومن يقف خلف هذا التشويه الذي طاول سمعتها؟. سؤال تليه أسئلة لا يلبث ممثلو "فرقة مسرح الشارقة الوطني" بالإجابة عنها تباعاً، عبر مواجهات درامية صادمة في جرأتها الاجتماعية على أجنحة من السلطة الدينية المتحالفة مع شبكات الــ"بزنس" وتجار البشر حول العالم.

صراع مسرحي لطالما تجنّب المسرح العربي مناقشته على مدى عقود، لكن إسماعيل عبدالله ومحمد العامري يخوضان عميقاً هذه المرة في طبيعة المجتمعات الغيبية، ولا يتوقفان عن طرح السؤال عقب السؤال بصيغة شعرية لافتة. فلقد اتكأ النص على مجموعة من قصائد لكل من محمود درويش وسميح القاسم ومظفر النواب ودعبل الخزاعي وتوفيق زياد، إضافة إلى الاستعانة بمدونات كل من زياد خداش وعيسى فراقع ومريم قوش ونضال الفقعاوي. نصوص وقصائد تلاحمت جميعها في بنية درامية محكمة جعلت من "كيف نسامحنا" بمثابة صرخة في وجه ضياع البلدان واندثار حقوق أبنائها، وقدمت مرافعة ضد تعميم رواية قوى الظلام والتكفير والقتل على حساب تبيان رواية الضحايا والمقهورين.

منذ ساعات الفجر الأولى، يقتحم رجل الدين في البلدة بيت المرأة الذي أحالته إلى دار لرعاية الأيتام والأرامل، لكن ما هو الأمر الجلل الذي دفع الرجل إلى زيارة الدار في هذا الوقت المبكر؟. ويرد الرجل أنه جاء للاطمئنان على رعيته، فمعظم الهبات والتبرعات التي تقدم إلى دار الأيتام هي بفتوى منه، وعليه يجب أن يتأكد من أن الرعية لا تقصّر في أداء واجباتها، ثم لا يلبث الرجل الشهواني بالسؤال عن امتناع أحد الصبية الأيتام عن زيارته؟، إلا أن المرأة تطرده من الدار بسبب تحرشه المتكرر بالفتى اليتيم، فما يكون من الرجل إلا التهديد بإصدار فتوى يمنع بموجبها الهبات والتبرعات، وأنه سيشكك في أمانة صاحبة الدار وسرقة أموال اليتامى وسيصدر حكماً شرعياً بقطع يديها.

حرب شخصية

من هنا، تقود المرأة صاحبة دار الأيتام حربها الشخصية ضد مجموعة من الموالين لرجل الدين، وهؤلاء يقدمهم العرض على أنهم يتاجرون علناً بالفضيلة، فيما لا يتورعون عن لعب القمار وتناول المسكرات في الخفاء. سهرات المجون والقصف واللهو تصل بهؤلاء إلى ما يشبه المقامرة بكل شيء، وصولاً إلى صفقات تبادل الزوجات والمقامرة عليهن. تبرز هنا شخصية رجل الدين (محمد بن يعروف) كشخصية مضادة للبطلة التي لا تذعن لرغباته وتقف في وجه شهواته المنحرفة، مما يؤجج نار الانتقام لديه من السيدة النبيلة، ويدفع أعداءها إلى الكيل لها واقتحام دار الأيتام الذي تديره، مما سيؤدي إلى مقتل أحد الفتيان (عبدالله محمد صالح) برصاص الغدر أثناء دفاعه عن أمه بالحضانة، لكن الجريمة ستُطمس معالمها، وبدلاً من محاسبة الفاعل الحقيقي، ستجرم المرأة بمقتل الشاب الصغير واغتصابها جماعياً على مرأى من سكان البناء الذي تقيم فيه، ومن ثم سيتم اقتيادها مكبلة بالأصفاد والقيود إلى ساحة الإعدام.

لا يتوقف "كيف نسامحنا" عند هذا القدر من الأحداث الدامية، بل من رحم الموت والظلم تنبثق مقاومة المرأة لجلاديها والتي يمثل لها العرض بمشهد الختام، إذ جاءت النهاية ببعدها الرمزي مفاجئة، فما هي سوى لحظات حتى تفك المرأة حبل مشنقتها وتنعتق من أنشوطته، ثم تشرع بالاقتصاص من أفراد العصابة الذين قاموا بأبشع أنواع التزوير والقتل وانتهاك الحرمات ضدها. تصاعد درامي مثّل له مخرج العرض بقيام المرأة بسحب البساط من تحت أقدام مغتصبيها، عبر حل تقني لافت (محمد عادل). تجسد ذلك في منصات متحركة يتم من خلالها ابتلاع أفراد عصابة البناء في سراديب سفلية للمسرح، فيختفون عن الخشبة واحداً تلو الآخر، فيما تحمل المرأة عموداً خشبياً وتشرع في تهديم جدران سجنها، ثم تقود تظاهرة عبر مكبّر الصوت، الدلالة الرمزية التي يستعيرها العرض من عالم الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية.

صرخة ومأساة

صرخة تترافق مع ترديد المرأة لمقاطع من قصيدة محمود درويش "مديح الظل العالي". وإحالة العرض الإماراتي واضحة هنا على المأساة الفلسطينية وعلى ما يحدث في غزة والضفة الغربية وبقاع العالم العربي شتى من حروب أهلية ونزاعات مسلحة لا تنطفئ حتى تعود وتشتعل من جديد. بموازاة ذلك يعود عامل التنظيفات، وهو الشخصية التي يقدمها العرض كشاهد على العصر، فيقول "لن نغفر لنا لن نسامحنا". ثم يردف نداءه بأسئلة متتالية "لماذا تموت اللفظة الأولى، القطرة الأولى. الصوت الأول، الحكمة الأولى، الوطن الأول؟ وكيف يختفي مركز الوداعة ليصبح هامشاً ومصنع الشفافية ليصير مرأباً؟".

هذا ليس كلاماً في مديح الأمهات والأمومة. يتابع عامل التنظيفات في العرض ويقول "إنه ممارسة للسؤال في أشد حالاته عجزاً عن الإجابة. لماذا تموت "الأمة...هات"؟، وهذا التقطيع الصوتي بين لفظي الأمة والأمهات يبدو أنه كان مقصوداً ونابعاً من صرخة العرض في وجه ضياع الحقوق وانقضاض آلاف المرتزقة وتجار الدم على جسد الأم كإسقاط ماهر على خراب الأوطان وتشريد مواطنيها. هكذا ينجز "كيف نسامحنا" مرثيته على أكثر من مستوى فنياً وتقنياً وجمالياً. تبدى ذلك في مجسّم البناء المصغر في يدي عامل التنظيفات، هو رمز للبناء الذي تدور فيه قصة العرض، فرشق الماء وتحريك فرشاة التنظيف من قبل العامل العجوز سيقابله ذلك في ردود أفعال الممثلين في البناء ذاته والذي جسّده الديكور (وليد عمران) في طبقات عدة على خشبة مسرح العرفان في العاصمة العمانية مسقط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وترافق ذلك مع موسيقى مرحة (إبراهيم الأميري) وضحكات عامل التنظيفات، أما في مقاطع أخرى من العرض فقام التأليف الموسيقي بدور بارز في تغطية الإعتامات المتكررة بين المشاهد، ومن ثم التمهيد بالإضاءة (ماجد المعيني) للانتقال بسلاسة من ذروة إلى أخرى، إذ تدور أحداث "كيف نسامحنا" على أكثر من مستوى معماري. المستوى الأول هو السرداب الذي يصفه الراوي بأنه "مقبرة الأحياء الجماعية" التي تغولت فيها العتمة والرطوبة استوطنت بها، فالهواء في ذلك القبو يقطر سماً، واللحم البشري المتكدس ليلاً يفرز ما يزكم الأنوف ويسبب الاختناق، أما المستويات المعمارية الأخرى للعرض فقد تجسدت في شقق لاعبي القمار وتجار الموت، في حين تمثّل المستوى الرابع والأخير في الميتم.

المستويات الأربعة مغطاة بمرآة تعكس شخصيات العرض، وجسدت خلفية الأحداث وتفاقمها في خلفية الخشبة. هذا كله بدا في الأعمدة الحديدية والأدراج البيضاء التي شكلت هذه المستويات المتراكبة لسينوغرافيا "كيف نسامحنا" والتي ظهر انسجامها حتى في تصميم الأزياء (فيروز فوزي نسطاس). الثوب الأحمر القاني لبطلة العرض عكس هو الآخر تضاداً لونياً مع الألبسة الرمادية والسوداء لرجال العصابة الذين يكيلون لها التهمة تلو الأخرى، وكذلك توزيع منابع الضوء وتغليفها برشقات متواترة من أجهزة رشق الدخان. كل هذا خلق مناخاً موائماً لحركة كل من الممثلين عبدالله مسعود ونبيل المازمي وحميد عبدالله، جنباً إلى جنب مع كل من رائد الدالاتي ومحمود القطان وحميد البلوشي وعثمان عبيد وعبدالرحيم أحمد ناصر الذين قدموا أداءً متبايناً ضمن الخطة الإخراجية، وانتزعوا مساحة كل منهم على الخشبة بحسب الدور المسند إليه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة