ملخص
يمارس المجمع الصناعي العسكري الأميركي منذ عقود، سابقة حتى على الحرب الباردة، دوراً محورياً في الحياة السياسية داخل واشنطن، وكان له دوره المعروف في تشجيع غالب تدخلات الولايات المتحدة العسكرية خارج حدودها.
لم يخل الخطاب الأخير للرئيس الأميركي السابق جو بايدن من لغمين مفخخين فجَّرا قدراً من الجدل، لعل أولهما إبراز دوره وإدارته في اتفاق غزة الأخير والثاني التحذير من الأوليغاركية أو الأوليغارشية التي تتضخم الآن في الولايات المتحدة. وبطبيعة الحال، طغت المسألة الأولى على الثانية بسبب ردود فعل الرئيس دونالد ترمب الذي تولى منذ أيام مهام عمله، وفي الحقيقة أن ما فات بايدن في هذا الجدل هو أنه غير مسبوق أن يشارك مسؤولون في الإدارة الجديدة في مهمة حيوية بهذا الصدد، وأن هذا في ذاته لا يقدم دليلاً على صحة سرديته في مقابل خلفه.
ولكن لو تركنا صراع الديوك وركزنا على ما هو أهم، فهو هذا التحذير من الأوليغاركية، والتي تتمثل في الأدوار المتوقعة لكثير من مليارديرات التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي وعلى رأسهم إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وغيرهما. وقارنت مواقع إعلامية ومن بينها "بي بي سي" هذا الصعود بتحذير أطلقه الرئيس الأميركي السابق دوايت أيزنهاور مما سماه المجمع الصناعي الاقتصادي الأميركي عام 1961.
ضجة قبل التتويج
والحقيقة، أن الملياردير وأغنى رجل في العالم غريب الأطوار إيلون ماسك كان بدأ حتى قبل تنصيب ترمب بتصريحات وتدخلات في بلدين حليفين، وربما الأقرب لواشنطن وهما المملكة المتحدة وألمانيا. ففي الأولى لم يتحل بأي قدر من الدبلوماسية في الهجوم على رئيس الوزراء العمالي كير ستارمر واتخذ الهجوم صورة خطرة عندما ركز في حملته الأخيرة على قضية اغتصاب الأطفال، التي شهدتها المملكة المتحدة بداية العقد الثاني من القرن الـ21. ثم اتهم ستارمر أيضاً بأنه لا يعالج الأمر بصورة جيدة في إشارته صراحة إلى مسلمي بريطانيا، والتي لا تبدو مؤسسةً على أية أدلة.
تدخلات ماسك امتدت بصورة سافرة إلى ألمانيا في محاولة منه لمساعدة حزب البديل اليميني المتشدد في مواجهة الحزب الحاكم للمستشار أولاف شولتز. والنقاش دائر في البلدين ويشعر كثر بالاستياء لهذه التدخلات المخالفة للأعراف والتقاليد، وبخاصة صدورها من شخصية ستتبوأ منصباً رفيعاً في إدارة ترمب.
المقارنة مع المجمع الصناعي العسكري
المعروف أن هذا المجمع الصناعي العسكري يمارس منذ عقود، سابقة حتى على الحرب الباردة، دوراً محورياً في الحياة السياسية الأميركية، وكان له دوره المعروف في تشجيع غالب تدخلات الولايات المتحدة العسكرية خارج حدودها. ولعب أدواراً سجلتها كثير من الوثائق وحتى المصادر الإعلامية والسينمائية في تشجيع كثير من الصراعات الدولية حول العالم، والتي تستفيد منها الولايات المتحدة كونها أكبر دولة مصدرة للسلاح، بل وتصل بعض التحليلات إلى أن جماعة الضغط هذه هي التي تشكل المحدد الأهم للسياسة الخارجية الأميركية بدرجة كبيرة وهي التي تقود النهضة الاقتصادية في البلاد.
ويستشهد بعض على هذا الدور بالحرب العالمية الثانية وكيف نجحت تلك المجموعة في تجاوز آثار الأزمة الاقتصادية الكبرى خلال ثلاثينيات القرن الـ20، وهي التي قادت بعد ذلك كل القرارات الكبرى للسياسة الخارجية لواشنطن وخضع لها كل الرؤساء الأميركيين بدرجات متفاوتة. ومن المؤكد ارتباط بايدن الوثيق الصلة بمؤسسات الدولة الأميركية وبهذا المجمع، والذي ازدهر في عهده بفضل الحرب الأوكرانية خصوصاً وبدرجة أقل حرب غزة.
هل هي المواجهة بين المجمع الصناعي العسكري وتكنولوجيا الاتصالات والمستقبل؟
منذ وصول ترمب إلى الحكم في المرة الأولى والرجل لا يبدي أية حماسة للحروب والاعتماد على القوة المسلحة لتحقيق أهداف بلاده، وكانت هناك أمثلة عديدة لقراراته وصداماته في هذا الصدد، وربما كان من أهمها رغبته في سحب قوات بلاده من سوريا والعراق، والذي اصطدم برفض كبار رجال إدارته ومسؤولي الخارجية والدفاع والاستخبارات.
وكان التفسير الشائع على الفور أنها الدولة الأميركية العميقة، وفي الواقع يتضمن هذا قدراً من التعقيد والحسابات المفهومة تماماً من جانب مؤسسات الدولة الأميركية وتقديرها للأبعاد الاستراتيجية المحيطة بالخطر الروسي واعتبارات حرمانها، وكذلك إيران من تحقيق انتصارات كاملة داخل كل من سوريا والعراق في مواجهة رؤية ترمب التي تستخف كثيراً بما تمثله موسكو من تهديد، ورغبته آنذاك في التركيز على الصين وحدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الوقت نفسه، كان أيضاً معروفاً أن الرجل لا يدين بشيء للمجمع الصناعي العسكري وهو قادم من عالم العقارات والصفقات السريعة ولا يحبذ الحروب، علماً أنه في المرحلة الأولى لم يكن يتمتع بدعم مليارديرات التكنولوجيا الحديثة بل كان معظمهم يناصبه العداء والتحفظ بما في ذلك ماسك، ولكن الآن حدثت تحولات هائلة في مزاج هذه الفئة الأخيرة وانقلبت من ادعاءات الليبرالية إلى أقصى اليمين الفكري، وتحولت لتأييد ترمب بل أنفق هؤلاء خصوصاً ماسك مئات الملايين لدعم حملته الانتخابية.
ووصلت الصفقات المتبادلة إلى تعيين ترمب لماسك المثير للتساؤلات وزيراً للكفاءة الحكومية، وكأنه يسلمه الدولة الأميركية لإعادة صياغتها وبنائها بالصورة التي يريدها، ومعنى هذا ببساطة أن مركز الثقل الاقتصادي الذي كان تاريخياً في المجمع الصناعي العسكري بتداعياته السياسية ينتقل الآن بوضوح وصراحة شديدة إلى مركز الثقل الأسرع نمواً والأخطر في عالمنا المعاصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والذكاء الاصطناعي.
العالم كان يعيش في أخطار وستستمر
كثيراً ما تذكرنا ثورات اليسار الأميركي والتيارات الليبرالية الجديدة في ستينيات القرن الـ20 وما بعدها ضد سيطرة المجمع الصناعي العسكري ومغامراته الخارجية، والتلاعب بالبشرية وإزهاق الأرواح مقابل دوران عجلة الاقتصاد الأميركي الذي يزدهر بهذه الحروب ويتحول للركود في زمن السلم. وكان جو بايدن وكثير من قيادات الحزب الديمقراطي خلال العقود الأخيرة من الذين يتحفظون في شبابهم على النزعات العسكرية العدوانية لبلادهم، ولكنهم سارعوا إلى رعاية هذه المصالح في حياتهم السياسية ومن ثم لم تتوقف الحروب في عهودهم بل ربما زادت.
وفي الحقيقة، إن احتمال تراجع هذه اللوبي الضخم لمصلحة مراكز الثروة الجديدة لن يؤدي على الأرجح لبروز عالم أقل ظلماً أو أقل خطورة، وبخاصة بعد تحولات هؤلاء الأثرياء الجدد في اتجاه اليمين المتطرف، إذ تشير الشواهد إلى أن الأعلى صوتاً ومالاً ونفوذاً وهو إيلون ماسك ربما يكون النموذج الذي تنبأت به السينما الأميركية وبعض الأعمال الأدبية، حول العبقري شديد الثراء الذي يريد إعادة صياغة العالم بالصورة التي يريدها وتسيطر عليه مشاعر التفوق، وأن ما يؤمن أو يفكر فيه هو الحقيقة المطلقة ويملك تنفيذها.
على من تقع المسؤولية في شأن الأوليغاركية الجديدة؟
أميل إلى أن تحذير الرئيس الأميركي السابق بايدن في شأن نفوذ المال في السياسة عبثي، إذ إنه وحزبه يتحملون قدراً كبيراً من هذه المسؤولية، فعندما تحولت قيادات الحزب الديمقراطي وعلى رأسها الرئيسان السابقان باراك أوباما وجو بايدن نحو مزيد من التقدمية الاجتماعية، تراجعت خلال الوقت نفسه عن القيم السياسية والأخلاقية الداخلية والخارجية. وأسفر هذا عن أمرين أولهما كان سبباً في تنفير قطاعات من الشعب الأميركي وتحولها تجاه اليمين المحافظ، ومن ناحية أخرى كان الأمر الثاني الناتج من التراجع عن القيم السياسية والأخلاقية.
وفي عشرات الأمثلة حول كثير من النزاعات عالمياً، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وبخاصة التجاوزات التي شهدتها حرب غزة أخيراً، كان الناتج هو انهيار الصدقية وثبوت مواصلة هذه الإدارات الديمقراطية تحالفها ومسايرتها للمجمع الصناعي العسكري في منظومته السياسية والفكرية، من دون تقدير لتناقض مكونات هذه الرؤى السياسية وتماسكها الفكري والقيمي، ومن ثم أسهمت بقدر كبير في السقوط الأخلاقي للمجتمع الأميركي ومهدت لتحولاته الطبيعية بين منظومتين للقوة الاقتصادية.
وهنا، فإن صعود الأوليغاركية وهبوط أخرى - إذا حدث في ضوء رسوخ المجمع الصناعي العسكري في المجتمع الأميركي - ربما لا يمثل فارقاً لكثير من الأميركيين، بل ربما قد يجد بعضهم أن هذه الأوليغاركية الجديدة أفضل من تلك القديمة.
ويبقى ضمن ما هو مؤكد، أن معضلة تشوه الديمقراطية الأميركية التي ترجع إلى دور الثروة والقوة الاقتصادية في الحياة السياسية كانت موجودة وستستمر، والأرجح أن سلبيات هذا على الداخل الأميركي وعلى العالم ستستمر.