ملخص
كان معظم الناس يعرفون أن هناك حرباً مقبلة حتى وإن كان لا يمكن لأي منهم أن يخمن بأن تلك الحرب ستكون أشد ضراوة من الحرب العالمية الأولى التي كانت البشرية قد عرفتها قبل ذلك بنحو ربع قرن وكان من المستحيل على أي كان أن يتنبأ بأنها ستحمل رقماً أولاً يتلوه رقم ثان.
كانت ثلاث لحظات واهية في حياته، خيل إليه أول الأمر أنها لن توصله إلى أي مكان، تلك اللحظات المبكرة الثلاث التي سيقول الكاتب الإنجليزي جون رونالد رويل تولكاين صاحب واحدة من أشهر روايات القرن الـ20 "سيد الخواتم" والتي سيعرفها مشاهدو السينما ممن تدافعوا بعشرات الملايين لمشاهدة الثلاثية السينمائية التي اقتبسها بيتر جاكسون لتعد من أعظم الثلاثيات السينمائية نجاحاً، لكنه سيعترف لها بأنها صنعته من ناحية غير متوقعة.
كانت أولى تلك اللحظات في عام 1908 حين اقتضت الظروف بفصله عن جارة كان يحبها ومنعه من أي لقاء بها فكان أن أمضى حياته كلها وهو يكتب لها. والثانية كانت لاحقاً في عام 1936 حين علمت دار النشر اللندنية "اللن أند آنوين" من خلال رفيقة له أنه يكاد ينتهي من كتابة روايته الأولى التي كان قد أراد أن تكون رواية للصغار بعنوان "هوبيت" فطلبت منه بعد أن اطلعت عليها أن يسارع في إنجازها إذ رأت فيها إمكانات نشر هائلة، لكنه لم يستجب على رغم مما أبداه مسؤولو الدار من حماسة لها، إلا في العام التالي 1937 لتصدر وتسجل أول دخول كبير له في عالم النشر الأدبي.
عالم ما قبل العاصفة
أما اللحظة الثالثة فلسوف تكون بعد عامين من صدور "هوبيت" محققة نجاحاً كبيراً يؤكد أنه لم يرضه إذ عده عبئاً على مساره الجامعي مدرساً في جامعة أوكسفورد وهو ما فضل أن يبقى عليه طوال حياته، وكانت تلك اللحظة في صيف عام 1938، أي قبل عام تقريباً من اندلاع الحرب العالمية الثانية حين كان العالم يعيش في مناخ ما قبل العاصفة. العاصفة القاتلة التي مثلتها تلك الحرب بمجازرها ودمارها. كان معظم الناس يعرفون أن هناك حرباً مقبلة حتى وإن كان لا يمكن لأي منهم أن يخمن بأن تلك الحرب ستكون أشد ضراوة من الحرب العالمية الأولى التي كانت البشرية قد عرفتها قبل ذلك بنحو ربع قرن، وكان من المستحيل على أي كان أن يتنبأ بأنها ستحمل رقماً أولاً يتلوه رقم ثان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا أحد في العالم كان يمكنه أن يتصور أن الحرب الثانية مقبلة لا محالة. فالترقيم لم يكن وارداً. كل ما في الأمر أن مفكرين كباراً ومبدعين من شتى أنحاء العالم وبخاصة من أوروبا كانوا يتوقعون أن ثمة مهمة لا بد لكل منهم أن يقوم بها وهي التنبه ومن ثم التنبيه إلى أن ثمة شيئاً ما يرتسم في أفق أوهام الدعة والهدوء التي كانت تبدو لهم راسخة بعد لوعات العقد الثاني من القرن الجديد. وكانت العلامات تأتي بخاصة من ألمانيا حيث افتتح النازيون وزعيمهم هتلر أفكاراً جديدة ترتكن إلى العناد وتتهدد البشرية وإن بشكل فيه قدر كبير من الغموض. وهذه الأفكار ستكون هي نفسها تلك التي أدرك تولكاين خطورتها، إنما أول الأمر من خلال حكاية ظل يرويها خلال المراحل التالية من حياته باعتبارها شكلت العلامة الفارقة في اللحظة الثالثة التي افتتحنا بها هذا الكلام.
على محمل الجدية
وتبدأ الحكاية هذه بكل دلالاتها، في اللحظة التي اتصل الكاتب بناشريه الإنجليز شاكياً لهم مما كان يحصل معه، لم تكن غايته أن يمزح. كان ما يريده من شكواه أن ينبههم إلى ما يحصل معه هو بالذات وتحديداً في برلين عاصمة ألمانيا ومركز الثقل الفكري والسياسي فيها. لقد كانت شكواه تتعلق بضرورة إطلاع ناشريه الإنجليز على ما طالبه به زملاؤهم الألمان، حتى وإن كان هو شخصياً لم يأخذ الأمر على محمل الجدية، بل بدا عليه يومها وكأنه يعد الأمر أقرب إلى الفكاهة. أخبرهم يومها أن ناشريه الألمان قد طلبوا منه، في سبيل الحصول على إذن رسمي بترجمة روايته الكبيرة "سادة الخواتم" ونشرها في اللغة الألمانية أن يأتيهم بشهادات رسمية تثبت أنه من أصول آرية وإلا فإن السلطات الرسمية لن تسمح لا بالترجمة ولا بالنشر.
ولا شك أن الناشرين الإنجليز عدوا يومها أن الأمر لا يمكن أن يكون جدياً. ومها يكن فإن تولكاين خلال تقليبه الموضوع من كل جوانبه أخبرهم أنه حين فوتح بهذا الأمر أجاب الناشرين الألمان حينها بأنه من ناحيته لا يمكنه أن ينظر إلى أن غياب أية علاقة له بأية أصول يهودية لا يمكنه أن يكون دليلاً على نبل أصله، "فنبل الأصل، كما أخبرهم بحسب قوله، لا يأتي من هنا بل مما يفعله الفرد المعني نفسه ومما ينتجه" مضيفاً أنه في ما يعنيه هو شخصياً "لا يمكنني أن أتبنى أية فكرة أو أتبنى أية ممارسة يستشف منها أنه يؤمن أو يمكن أن يؤمن بأية فكرة عرقية أو نظرية عنصرية" بخاصة أنه يعد أن تبني فكرة من هذا النوع ليست سوى ممارسة تتناقض مع كل فكر علمي حمله في حياته.
النازيون لا يمزحون
بالتالي وبعد أن عبر بحماسة عن موقفه ذاك وقد أدرك أن الألمان لا يمزحون أطلع ناشريه الإنجليز على رسالتين قال إنه وجههما إلى الألمان وهو بين مصدق ومكذب، إحداهما جرى الاحتفاظ بها فيما فقدت الثانية لاحقاً، ويقول في الرسالة التي ظلت في حوزته لتشكل لاحقاً جزءاً من تراثه ومن رسائله المعروفة: "آسف أيها السادة لكنني لا أفهم على الإطلاق ما الذي تعنونه بأن علي أن أثبت آريتي. فالشيء الوحيد الذي يمكنني اليوم أن أثبته إنما هو أنني لست آرياً لا بشكل ولا بآخر. إن ما أعلمه علم اليقين في مطلق الأحوال هو أنني لست على حد علمي في الأقل، من أصول هندية، إيرانية وأن ما من جد بين جدودي عرفت عنه أنه يتكلم الهندوستانية أو الفارسية أو الغجرية أو أية لغة أو لهجة من تلك المرتبطة بها. أما إذا كنتم راغبين في أن تتأكدوا من أن أياً من جدودي لم يكن يهودياً، وهذا ما أفهمه من طلبكم الغريب هذا، فثقوا أنني آسف لأن أياً منهم لم يكن كذلك. وآسف طبعاً لعلمي أنهم شعب شاطر. فقط أود أن أحيطكم علماً هنا بأن واحداً من جدودي المنتمين إلى القرن الـ18 قد بارح مسقط رأسه الألماني في ذلك الحين وتوجه ليعيش في إنجلترا".
وهنا تابع تولكاين في تلك الرسالة قائلاً "فإذا كان هذا ما تودون أن أؤكده، فاعلموا إذاً، أن جد جد جدي قد ترك ألمانيا في ذلك الحين مؤسساً سلالة إنجليزية في وطنه الجديد. سلالة تجعل مني اليوم مواطناً إنجليزياً غير مهتم بأي انتماء ديني يخصني".
باختصار ختم تولكاين تلك الرسالة إذا بالقول موجهاً حديثه إلى ناشريه الإنجليز، إنه يعتقد أن هذا التأكيد يبدو بالنسبة إليه كافياً هو الذي يؤكد في السياق نفسه أنه دائماً ما كان ينظر إلى جرمانية اسمه نظرة فخورة إنما ليس لأسباب عرقية- عنصرية بالطبع، مضيفاً أنه كثيراً ما فعل ذلك طوال مشاركته في الحرب العالمية الأولى جندياً يقاتل في صفوف القوات الإنجليزية. وهو أمر علق عليه خاتماً الرسالة بقوله "بيد أنني في النهاية لا يمكنني أن أمنع نفسي إزاء هذا الواقع، من النظر إلى أنه إذا كان على المرء ولدوافع لا تتعلق بالفخار الوطني أن يقبل فكرة أن أموراً على هذه الشاكلة التي لا تحترم المرء وفكره وتبدو لي دائماً خارج السياق المنطقي، ستضحى في عالمنا من الآن وصاعداً، قاعدة التعامل المعتمدة في التعامل في عالم الأدب، لن يكون من الجيد في نهاية المطاف أن يشعر المرء بأي فخر لمجرد أنه يحمل اسماً ألمانياً كاسمي... وفي النهاية لا أشك في أنكم ستقدرون ما في رسالتي هذه حق قدره وتفهمون ما أرمي إليه".