ملخص
يعمد كتاب وشعراء إلى كتابة أدب الشذرة، الذي يجمع بين اللحظة التأملية واللحظة الأدبية، سواء كانت خاطرة أو حكمة او سطراً شعرياً. وهذا النوع من الكتابة عريق جداً ويعود إلى الفترات الحضارية القديمة.
يعيدنا الكتاب الجديد للشاعر والقاص المغربي سعيد السوقايلي "النّثَرات"، الصادر عن بيت الشعر في المغرب لأدب الشذرة، لنوع أدبي وفكري يكتبه المبدعون العرب في عصرنا الراهن حيناً تلو آخر، والراجح أن هذا النوع من الكتابة، وإن بدأ يختفي من وسائل النشر التقليدية، فهو يعود بالتدريج إلى الظهور عبر وسائط التواصل الحديثة، إذ صارت الصفحات الإلكترونية تغص بنصوص قصيرة، وهي في الغالب عبارة عن اقتباسات من أعمال أدبية وفكرية أو مقتطفات من تصريحات الكتّاب والمفكرين، وإن كان النشطاء على هذه الصفحات لا يتحرون الدقة في ما يخص المصدر والملكية الفكرية.
وربما غدت الكتابة الشذرية اليوم الجنس الأكثر تلاوماً مع طبيعة طرائق التواصل والتداول الحديثة ومع إيقاع الحياة الجديدة، ولعل تدوينات كثير من الكتّاب اليوم على حساباتهم في منصات "فيسبوك" و"إكس" وغيرها، وإن بدت عابرة، تتزيا في كثير من الأحيان بطابع جمالي، وتصير بقصد أو بغير قصد نصوصا أدبية وجيزة. لكنّ ما يقترحه سعيد السوقايلي يدخل ضمن اشتغال التزم به الكاتب منذ أعوام، وأصدر تحت يافطته أعمالاً سابقة، فبعد تأليفه لأعمال نثرية وأخرى شعرية ارتأى أن يمزج الجنسين في كتب يستعصي على القارئ والناقد تصنيفها، فهي بقدر ما تحفل بالصور الفنية وبنى المفارقة والجماليات اللغوية، بقدر ما تنحاز إلى النثر في إرساليته وفي إيقاعاته الخفيضة.
بحثاً عن التوازن الروحي
شذرات الكاتب المغربي تتخذ من الشعر مرجعيتها الأولى والأساس، غير أنها تنحو بالقارئ في حالات كثيرة إلى خارج الشعر، خصوصاً أن القارئ العربي اعتاد على وجود إيقاع في النص مهما اختلفت درجاته. لكن السوقايلي لا يغذي شغف القارئ ولا يتماهى مع توقعاته، بل يباغته بنصوص ستبدو له في الغالب هجينة، وخارج الجنس الأدبي أو واقعة بين جنسين على الأقل.
تقطع هذه التجربة مع نظرية "صفاء النوع" التي مهّد لها أرسطو داخل الجنس نفسه في قراءته للشعر التمثيلي عند الإغريق، إذ وضع حدوداً فاصلة بين الملهاة والمأساة، مرسخاً قواعد كل نوع. وامتدت نظرية التفريق بين الأجناس الأدبية زمناً طويلاً إلى أن شرع الرومانسيون في خلخلتها لينتصر لها لاحقاً نقاد من قبيل برونوتيير وكروتشي وبلانشو وبارت، باعتبار أن الأدب ليس بالضرورة حقولاً مسيجة ومفصولة عن بعضها، بل يقتضي التجديد الأدبي هدم هذه الحدود والأسيجة. ويشكل العنوان الرئيس للكتاب مع عنوانه الفرعي نوعاً من التمويه للقارئ: "النثرات. وتليها نصوص"، كما لو أن النثرات التي شكلت الجزء الأكبر من محتوى الكتاب ليست نصوصاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن القارئ سينتبه في نهاية الكتاب إلى الاختلاف الواقع بين النصوص والنثرات، إن على مستوى البناء أو على مستوى الحجم، وإن كان يجمعها الطابع التأملي الذي يميز كتابات السوقايلي. ويحس القارئ أنه أمام تجربة رصينة غير منبهرة بالعالم وغير منقادة وراء العابر والسريع والزائل، فثمة دائماً تلك النظرة التي تُسائل الأشياء والعناصر المشكلة لمحيطنا والمؤثرة في حياتنا، ثمة أيضاً رفض دائماً لما يحد إنسانية الإنسان وحريته وتطلعه وحلمه وما يتوق إليه من إشراقات وانعتاقات وهرب مستمر نحو مناطق الضوء، وإن كانت هذه المناطق المضيئة لا تتجلى لدى الشاعر إلا في الداخل الإنساني المنسي والمهمل، كما لو أن الشاعر يدعو بشكل صريح وضمني إلى العودة للباطن، من أجل العناية بالصحة الروحية لإنسان اليوم.
تعود بنا كتابة سعيد السوقايلي إلى أدب السوترا، حيث تلك التعاليم الهندية المقتضبة التي توجه الإنسان عبر التركيز على الجانب الروحي. ثمة طهرانية ما بالفعل يسعى الكاتب إلى ترسيخها، وهي ليست بالضرورة ذات جذور دينية بل هي ممتدة خارج كل إطار ثقافي، وإن كان لها من إطار فهو الإطار الإنساني الشاسع والمنفتح، وغايتها ليست النزوح بما هو إنساني نحو الملائكية، بل تحقيق التوازن الروحي.
كتابة حالمة
يطغى الطابع الوجودي والنظرة التراجيدية للعالم على غالبية النصوص: "البحر دمعة كبيرة، لا نعرف من أيّ عين سقطت"، "سؤال يعمق كآبتي: ماذا يضيف الأشرار للعالم؟"، كما تحضر السخرية بشكل وامض، لكن باعث في الآن ذاته على التأمل والاستغراق في تفكيك الحال: "الطوق وسام الكلب الوفي". ويجنح الشاعر أيضاً إلى بناء صور شعرية انطلاقاً مما نراه يومياً على مقربة منا، غير أنه يعمد إلى تشكيل هذه الصور بطرائق أخرى تدهشنا: "المروحة يد الريح"، "الجليد شيخوخة الماء"، "الأعمى بعكازته يقرأ الطريق"، "أيامنا أكواب قهوة بالحليب".
يضم الكتاب أكثر من 300 شذرة تصل فيها درجة التكثيف أحياناً إلى أقصاها، حيث الجملة القصيرة التي لا تتجاوز ثلاث كلمات، وتكاد تكون معظم الشذرات قراءة للعالم، وهي قراءة تتأرجح بين التأمل والنقد، وتنحو أحياناً إلى المحاكمة، فالشاعر ينشد التطهر مما سمّاه أوساخ العالم: "ابكِ ثم ابك علّ دموعك تغسل نظراتكَ التي لطختها أوساخُ العالم"، وهو بذلك يبحث عن عالم بديل أقرب إلى اليوتوبيا، وقد يكون هذا ديدن كل شاعر، فالشاعر في الغالب إنسان حالم، وربما الفرق بينه وبين الآخرين هو أنه حالم أكثر منهم، ولذلك يحتفي سعيد السوقايلي في كتابه "النثرات" بثيمات تتقاطع مع الحلم: التخلص من المادة والحرية والكتابة و الطبيعة والعدالة والزهد والسفر ورفض الحدود والتسامح والنقاء وعدم الخوف، وغيرها من الثيمات التي تشكل إحداثيات التجربة الشعرية عند سعيد السوقايلي في هذا الكتاب، وهي إحداثيات تروم ترسيخ الصفاء الروحي في عالم تسعى فيه المادة الطاغية إلى خلخلة كل توازن.