توحي الأسطر الأولى في الكتاب السردي الجديد للشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي "الهروب إلى سمرقند"، الذي صدر بالعربية عن دار الرافدين بترجمة لافتة لأنطوان جوكي، بأن هذا النص الأدبي سيكون فضاءً شاسعاً للتأملات والتداعيات وسرد خبرات الحياة المتعاقبة. فما إن انطلقت السردية من موضوعة الطقس باعتبارها مدخلاً لمعظم الحوارات التي تجمعنا مع الآخر الذي لا نعرفه، حتى طرحت في صفحتها الأولى أسئلة العودة إلى الماضي، واستعادات الطفولة، فضلاً عن تيمتي الحلم والاغتراب وظاهرة رهاب الكتابة، أو التهيّب منها، إضافة إلى التوقف عند موضوعة الموت التي خيمت على حياتنا خلال فترة انتشار الوباء. ولعل مثل هذه المداخل السردية ستجعل القارئ متأكداً من أن عبداللطيف اللعبي سيكون حاضراً في كتابه ذلك الحضور الذي يجعل نقط التلاقي بين الواقع والخيال غزيرة، ويجعل الكتابة ترجمة لتجارب حقيقية عاشها الكاتب، وفي طريق نقلها إلى القارئ يبحث لها عن أقنعة.
لا يتعلق الأمر في الضرورة بسيرة ذاتية مباشرة ينقل فيها اللعبي حياته إلى القارئ، وإن كانت حياة اللعبي في حد ذاتها رواية، بما عرفته من تقلبات في الزمن السياسي والفكري المغربي، ومن انتقالات جغرافية واجتماعية كانت بمثابة محك واختبار لخيارات رجل ظل يهتدي بكلماته، مؤمناً بأن الأدب هو تفسير مختلف للوجود الإنساني. لكننا في المقابل أمام نص سردي طويل ينقل إلينا بشكل ضمني تصورات اللعبي وثقافته ومرجعيته الفكرية، في تقاطع مع تفاصيل مجتزأة من تجربة ذاتية.
صناعة الكُتّاب
تفتح صورة السيد ناظم بطل رواية اللعبي مجالاً هائلاً للنقاش، وتلمس بالتالي جراح معظم الكتّاب المعاصرين. فناظم كاتب مشهور، لكن شهرته محدودة، قد يكون حضوره قوياً في الوسط الثقافي، الضيق في كل الأحوال، لكن تداوله خارج هذا الوسط لن يكون بالقوة ذاتها. لذلك يصفه اللعبي بجملة دالة: "نصف مكرّس، على رغم وضعه نحو أربعين مؤلفاً، ونيله عدة جوائز أدبية رنانة". ينتقد اللعبي بعض العبارات التي يلوكها النقاد حين يصفون ناظم بأنه "أحد أهمّ كتّاب جيله" أو "أحد أبرز الأصوات الشعرية"، لكنه يتساءل بالمقابل عن مدى تداول مؤلفاته، ويقف بالتالي متحسراً على عدد النسخ التي تباع منها. يقول في جملة لاسعة: "إن حسبنا عدد النسخ المبيعة من جميع كتبه على مدار ما يقارب خمسين عاماً لحصلنا على رقم يبقى ما دون عدد النسخ الصادرة والمبيعة من آخر رواية لغيوم ميسو أو مارك ليفي".
ينتقد اللعبي في روايته، من خلال شخصية ناظم، الروح التجارية التي غزت الحياة الأدبية، والأساليب التي تتم بها صناعة كتّاب من نوع خاص، والترويج لهم في مختلف وسائل الإعلام، والتسويق لمؤلفاتهم التي تحصد ملايين الأوروات في أسواق الكتب على رغم أنهم ليسوا بالضرورة أكثر موهبة وعمقاً من زملائهم في الكتابة. هذا الطرح النقدي يعززه الشكل الذي يحضر به ناظم الذي يحمل في رأسه "مقاطع مدوخة من ألحان لم يعد يدندنها أحد". إنه تقريباً ينتمي إلى كتّاب "السكة القديمة" الذين آمنوا بالكتابة، وظلت عيونهم على مشاريعهم الأدبية، لا على ما يوجد خارجها. لذلك ينعته المؤلف بصفة بليغة: "السيد ناظم منشد للكمال"، لقد عاش محناً جسدية ونفسية، وهو متريث في الكتابة وحريص على أن يكون العمل الأدبي عميقاً وصادقاً، و"كادح في ميدان اللغة"، لكنه يحس بالامتعاض والغضب، لأن الاعتراف به وبتجربته الأدبية يظل ناقصاً، في ظل هذا التداول المحدود لكتبه، مقابل ملايين النسخ التي يبيعها كتّاب آخرون يستسهلون الكتابة.
يشبّه اللعبي السيد ناظم بربة بيت من القرن الماضي، تتعب وتشقى من دون مقابل، ومع ذلك فهي حريصة على مواصلة عملها بدأب وإخلاص. ثم يضعه أمام المرآة لينتبه إلى شيخوخته، وليتساءل عن الأيام التي فرّت من بين يديه، وكيف قاده العمر إلى الشيخوخة بهذه السرعة. لقد أورثته الكتابة، بدل الشهرة والمال، تصلباً في فقرات عنقه. لكن ما يخلق لديه حالة من الإرضاء الداخلي هو أن "شجرة حياته صمدت أمام ويلات الزمن"، يعقّب الكاتب: "ومع أنها لم تعد خضراء، إلا أنها تستمد من الخريف ألوانها البرّاقة".
لا يرفع اللعبي شخصية ناظم إلى غيوم اليوتوبيا، بل يربطها أيضاً بأوحال الواقع. فناظم نفسه يعترف بأن حياته، على رغم ما طبعها من مكابدة وممانعة، وسمتها سلسلة من التنازلات، إلى حد أن سؤال التخلي عن قناعاته القديمة راوده مراراً، فكان يتجاذبه صوتان داخليان في ما يشبه الصراع النفسي، الأول يجره إلى ماضيه وإلى ما نشأ عليه من أطر ومرجعيات أيديولوجية، فيما الثاني يحاول سحبه إلى الانغماس في الحياة الجديدة والإقلاع عن ثقافة الزمن السابق.
قناع الكاتب
يعتمد ناظم على الذاكرة ويلوذ بطفولته باعتبارها المنبع الصافي الذي تكدرت المياه الواردة منه لاحقاً، وتتجلى معظم صوره المستعادة باللونين الأبيض والأسود، بما هما رمزان للماضي البعيد من جهة، وللوضوح من جهة أخرى، فكثرة الألوان قد تشوش على حاسة البصر. وقد ترمز هذه التعددية اللاحقة التي لم تكن في صور الماضي إلى تفرعات الحياة وتشعباتها بعد تحوّل أشكال وقنوات إدراكنا لها. وظيفة بطل رواية اللعبي هي تشييد الذكريات وتفكيكها.
تظل الأم الراحلة مع السيد ناظم، فهو يناجيها مراراً في محنه، حتى الصغيرة منها، بجملة تشبه التميمية "أنجديني يا أمي". وفي الغالب لا تتأخر النجدة. سترافق بطلَ اللعبي براءةُ الطفولة ودهشتها، فهو يعيش على الدوام في عالم حالم، ويحمل في داخله روح التمرد على التيار الجارف للحياة الجديدة، ورفض الانقياد وراء ما ينقاد إليه الآخرون. "ثمة شيء فاسد في حال العالم". هذه الجملة هي يافطة المحاكمة لدى السيد ناظم، محاكمة العالم، وهي ما يجعل المسافة قائمة بينه وبين الهوة المادية التي جذبت إليها الغالبية. يتحسر ناظم على تحول الخطاب من أفواه المفكرين والعلماء والحكماء إلى أفواه السذج والبلهاء والمؤثرين الجدد في الحياة العامة، إنه ينتقد "الذين استعمروا أجهزة الخطاب المنطوق والمصوّر الرهيبة".
هل كتب اللعبي حياته في "الهروب إلى سمرقند"؟ إن لم يكن الرد بالإيجاب المطلق، فإنه على الأقل سرّب الكثير منها إلى الرواية، وسرّب الكثير من شخصيته إلى ناظم. ويمكن الوقوف عند العديد من نقاط التلاقي. فاللعبي من مواليد 1942، وناظم عاش طفولته ما بين الأربعينيات والخمسينيات، بل إنه يشير في الصفحات الأخيرة من الكتاب إلى أن بطله خرج إلى الوجود في العام ذاته الذي ازداد فيه الكاتب، كلاهما ولد في فاس، ويكتب بلغة ليست لغته ويعيش في بلد لم يولد فيه. كلاهما يؤلف الكتب وينال الجوائز ويعيش حياة الكتابة بكامل تفاصيلها من السفر والترجمة إلى حضور الندوات والمشاركة في اللقاءات الإعلامية. كلاهما يقيم في "عاصمة الأنوار" ويطرح "الأسئلة الحارقة" (عنوان كتاب للّعبي)، وكلاهما يحمل رقم الاعتقال ذاته 18611، ثم إن حادثة طعن ناظم بسكين في عنقه وقعت بالفعل للعبي قبل سنوات قليلة، إثر اقتحام شاب لبيته في ضواحي الرباط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عاش ناظم تجربة السجن لمدة ثماني سنوات، وهي الفترة التي عاشها اللعبي في زمن الاعتقالات التي طاولت عدداً من النشطاء في السياسة والثقافة لأسباب أيديولوجية، وإن كان ناظم يسمي السجن "قلعة المنفى" فإن اللعبي ألف كتاباً عن تلك التجربة يحمل عنوان "يوميات قلعة المنفى".
يختفي اللعبي خلف قناع يحمل اسماً له تأثير على شخصيته، فهو يشير داخل الرواية، في نسختها العربية، إلى الشاعر التركي ناظم حكمت باعتباره من الأسماء "التي حررت ذهنه من أي قيد وغذّت غضبه وتمرده". ويضيف إليه أسماء أخرى: دوستويفسكي، ماياكوفسكي، إيمي سيزير، إدريس الشرايبي وكاتب ياسين، راسماً بذلك الإطار المرجعي الذي شكّل انعتاقة بطله، البطل الذي لا يختلف عنه إلا في الاسم ربما.
ثمة أيضاً احتفاء في رواية اللعبي بستيفان زفايغ ومحمد ديب وجبران خليل جبران وسعدي يوسف، والرسام صخر فرزات وغيرهم. في سياق المضامين الكبرى لكتابه السردي يرصد اللعبي مظاهر الحصار والضيق التي فرضها وباء كورونا، ويتحسر على رحيل أصدقائه من الكتاب وعلى رأسهم الكاتب التشيلي لويس سيبولفيدا. يحفل الكتاب بالعديد من التيمات: الموت، الدين، السياسة، الحرية، الهوية، الفن، التلفزيون ، السينما، القيلولة، السفر، العائلة، التصوف، الموسيقى، المستقبل والصداقة، وغيرها.
لكن ماذا عن سمرقند؟ إن سمرقند، المدينة العظيمة والنبيلة على حد وصف ماركو بولو، هي المقابل الرمزي للحُلم، بالتالي فهروب السيد ناظم، ومعه هروب اللعبي، كان نحو أرض الأحلام، هذا ما تقوله الرواية: "فلنهرب. فلنهرب إلى عالم آخر أقلّ إرهاقاً، عالم الحلم، وإن كان هو أيضاً مأهولاً بالوحوش التي يبدّدها الفجر".