ملخص
لم يهتم البحث العلمي سابقاً بدراسة السحرة وعلاقتهم النفسية على رغم الطبيعة الفريدة من نوعها لإبداعهم.
دائماً ما ارتبط الإبداع بالجنون، وارتبط المبدعون بالاضطرابات النفسية على اختلاف أنواعها، والأمثلة كثيرة ومتعددة حول هذا الأمر على مدار التاريخ القديم والحديث. لكن أخيراً نشرت جامعة "كامبريدج" دراسة عن السحرة كمجموعة إبداعية لم يهتم البحث العلمي سابقاً بدراستها بشكل كبير، إذ كانت تجري غالباً دراسة الفنانين أو الشعراء والرسامين، على رغم أن فئة السحرة يقدمون إبداعاً من نوع خاص يستحق إلقاء الضوء عليه ودراسة تأثيره في صحتهم النفسية.
هناك تصور شائع بأن الإبداع يرتبط بالاضطرابات النفسية، وأظهر كثير من الدراسات أن المجموعات الإبداعية مثل الفنانين والعلماء يسجلون درجات أعلى من المعتاد في كثير من الأمراض العقلية والنفسية، كما أن العلماء في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات بشكل خاص يسجلون درجات عالية في سمات التوحد على وجه التحديد.
أجريت الدراسة على عينة مكونة من 195 ساحراً (164 رجلاً و30 امرأة) وضعتهم في مقارنة مع مجموعة إبداعية أخرى، ومجموعة من عوام الناس الذين يعملوا في مهن ليس لها جانب إبداعي، وأظهرت نتائج الدراسة أن السحرة كانوا أقل عرضة للإصابة بالأمراض النفسية والاضطرابات العقلية مقارنة بالمجموعات الأخرى.
أنواع مختلفة للسحر
كانت العروض السحرية شائعة عبر التاريخ ومنتشرة في كثير من الثقافات وتتعدد وتختلف أهدافها، فهنالك الألعاب السحرية البسيطة التي تعتمد على العملات أو البطاقات الورقية، إلى السحرة الذين يقومون بألعاب تعتمد على أوهام تتطلب معدات ومساحات كبيرة ودعم عديد من المساعدين وغيرها، لكن ما يجمع السحرة كمجموعة إبداعية هو أن طبيعة فنهم تتطلب تركيزاً شديداً ومهارات خاصة باعتبار أن الخطأ سيمثل أزمة كبيرة ولن يمكن تداركه.
فالممثل الكوميدي على سبيل المثال إذا أخطأ في النص يمكنه أن يتدارك الموقف عن طريق الارتجال، وقد لا يشعر الجمهور بالخطأ من الأساس طبقاً لمستوى مهارته، أما الساحر فإنه إذا وقع في خطأ فقد انتهى كل شيء في العرض الحالي، وربما يمتد الأمر لما هو أكثر من ذلك، فقد لا يستمر في تقديم عروضه في مكان بعينه، وعلى الجانب الآخر فإن العرض المبهر يؤدي لحال كبيرة من الاحتفاء والتقدير للساحر من الجماهير الحاضرة للعروض. كل هذه السمات جعلت السحرة مجموعة إبداعية جديرة بالدراسة والتعرف على خصائصها النفسية ومدى تأثرها بالاضطرابات النفسية المختلفة.
وليد هندي استشاري الصحة النفسية يقول لـ"اندبندنت عربية"، "يؤدي السحرة عملاً إبداعياً يتطلب ملكة التركيز الشديد، وهي أهم العمليات العقلية في عملهم مما يفصلهم أحياناً عن الواقع، بالتالي فإنهم لا ينخرطوا بشكل كبير مع الضغوط الخارجية والمجتمعية، مما يجعلهم في شكل من أشكال العزلة عنها، وفي الوقت ذاته يكونوا منغلقين على بعضهم بعضاً وأفكارهم متشابهة واهتماماتهم مشتركة، ولهم حياة لها طابع خاص يختلف عن بقية المبدعين مثلهم مثل جماعات أخرى، من بينها العاملون في السيرك باختلاف مجالاتهم، فهم غير منفتحين على المجتمع بدرجة كبيرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف "من جانب آخر يتميز السحرة بأنهم يحصلون على مكافأة وقتية وحاضرة تتمثل في الانبهار الشديد من الجماهير الحاضرة للعروض، بما يقدمه من أشياء مبهرة تفوق عقلهم وتثير خيالهم، فيسبب له هذا نوعاً من أنواع الرضا والتقدير والإحساس بالذات يدفعه للتركيز وتطوير قدراته الإبداعية غير العادية، وهذا يتطلب نمطاً معيناً من الحياة يتمثل في التدريب والحفاظ على اللياقة البدنية وغيرها، مما يجعل كثيراً من الأمور الحياتية التي تشغل عوام الناس ليست أولوية بالنسبة إليه ولا يشغل نفسه بالدخول في صراعات، وكل هذه الأشياء تجعله أقل عرضه للتأثر بالأمراض النفسية".
أثبتت الدراسة أن السحرة حصلوا على درجات منخفضة في السمات الفصامية والتوحدية، وقد يكون هذا مفيداً لعملهم، فعلى رغم أن السحرة غالباً ما يعملون في عزلة عند ابتكار سحرهم وممارسته، فإنهم يتعاونون بانتظام ويتواصلون اجتماعياً مع الآخرين داخل المسرح وخارجها، ويعمل السحرة مع زملاء آخرين لهم على تطوير حيلهم وتدريب بعضهم بعضاً وتبادل الأفكار معاً، وقد يستخدمون مساعدين للأداء على المسرح.
هناك أيضاً الجانب التجاري من السحر، إذ يتعين على السحرة العثور على أماكن للأداء، والتفاوض في شأن أتعابهم مع مديري الأندية، وغالباً ما يسافرون مسافات طويلة، وفي الوقت ذاته لا يوجد تعليم رسمي للسحر، وكان دائماً على السحرة الطموحين العثور على معلم والحفاظ على العلاقة معه للحصول على تعليم السحر، وكل ذلك يتطلب مهارات اجتماعية متنوعة واهتماماً وتركيزاً دقيقين، فمن الصعب جداً التعامل مع كل هذه التعقيدات بالنسبة إلى السحرة الذين يسجلون درجات عالية في السمات الذهانية والتوحدية.
الإبداع والمرض النفسي
الأمثلة كثيرة لمبدعين من مجالات مختلفة عانوا أمراضاً نفسية، منهم الرسام فان جوخ والكاتبة فيرجينا وولف وتوني هانكوك وروبين وليامز، وروبرت شومان الذي توفي في مصحة للعلاج العقلي، وآرنست هيمنجواي الذي أطلق النار على نفسه، وداليدا التي عانت الاكتئاب وانتحرت، وغيرهم كثير من جميع عصور التاريخ وصموا بالجنون أو عرف عنهم إصابتهم باضطرابات عقلية.
ووجدت الدراسة أن العلاقة التي يشار إليها على نطاق واسع بين الإبداع والمرض العقلي قد تكون أكثر تعقيداً مما كان يعتقد سابقاً، وقد تعتمد على نوع العمل الإبداعي الذي يتم القيام به، وسجل السحرة في الدراسة درجات أقل في معظم سمات الفصام والتوحد مقارنة بعينة عامة، على عكس ما وجد في الدراسات التي أجريت على مجموعات فنية أخرى.
يشير الاستشاري النفسي إلى أن "ربط الإبداع بالجنون والاضطراب العقلي قديم قدم التاريخ، فعلى سبيل المثال ساد الحضارة اليونانية اعتقاد بأن الآلهة تمس المبدع بشيء من السحر يدفعه للإبداع، وحتى في الحضارة العربية نجد الشيء ذاته، فكلمة عبقرية التي يوصف بها المبدعون اشتقها العرب من ’وادي عبقر‘ الذي كانوا يعتقدوا أن الجان تسكنه، ومن يتوجه إليه يصاب بمس من الجنون، وأشهر من ارتبط به هم شعراء الجاهلية الذين كتبوا المعلقات الشهيرة".
ويضيف "بشكل عام هناك رؤي نفسية وفلسفية وبعض النظريات المفسرة التي تؤكد علاقة الإبداع بالمرض النفسي، فالمبدع غالباً يرى العالم من زاوية مختلفة، ويعتمد في رؤيته الإبداعية على جانب مبتكر، بالتالي يكون عنده اتساع للخيال يجعله يرى أشياء لا يراها غيره، ويكون لديه عالمه الخاص المختلف عن بقية البشر، لذلك نقول إن للإبداع ضريبة خاصة، وفي كثير من الأحيان فإن الضغوط النفسية تكون مسببة للإبداع لأنها تجعل الشخص ينفصل عن الواقع، وكثير من المبدعين عانوا لفترات من حياتهم من الإحباطات المتوالية والاغتراب الاجتماعي والفقر والاضطهاد والصدمات النفسية، وبشكل عام فإن الأمراض النفسية التي ارتبطت بالإبداع أكثر هي الاكتئاب والفصام والتوحد ومتلازمة القلق وفرط الحركة ونقص الانتباه والاضطراب ثنائي القطب".
وجدت الدراسة أن السحرة أكثر تشابهاً مع العلماء، مما يجعلهم مجموعة إبداعية فريدة تستحق مزيداً من الدراسة، وقد يكون ذلك مرجعه إلى التشابه في طبيعة العمل، فكلاهما يحتاج إلى الانتظام والمثابرة والتدريب بدقة، ويشترك السحرة مع العلماء أيضاً في أن كليهما يسعى إلى تحقيق هدف محدد مبني على عديد من الخطوات الصغيرة التي غالباً ما يمكن الوصول إليها بطرق متعددة، وبمستويات متفاوتة من الإبداع، وغالباً ما يرتبط هذا الجهد المركز والتفاني أيضاً بمستويات أعلى من سمات التوحد، وهو أمر موجود بين علماء الرياضيات والعلماء، ولكن لم يعثر عليه لدى السحرة في الدراسة الحالية.