ملخص
اضطر سكان غزة إلى استخدام "الجاروشة" لطحن حبوب القمح وهذه قصة أقدم الأدوات التراثية الفلسطينية.
في ساحة بيته المزين بالقماش التراثي ذو اللون الأحمر والأسود، جلس الحاج أمجد أمام "الجاروشة"، وبيده اليسرى كمش القليل من حبات القمح، وبدأ يسقطها في ثقب صغير، ويده اليمنى كانت منشغلة في تدوير حجر البركان عكس عقارب الساعة.
وبعد عدة دورات سحق الجد حبوب القمح وحوله لطحين جاهز لإعداده خبزاً طيباً يأكله مع أسرته الجائعة. يقول أمجد "بعد ما زادت معاناة أسرتي في الحصول على الطحين الجاهز الذي نفد من قطاع غزة، لجأت إلى استخدام الجاروشة التي تعد من الأدوات التراثية القديمة".
"الجاروشة" هي المصطلح الفلسطيني الذي يطلق على حجر الرحى، الذي يعد أقدم الأدوات التي صنعها الإنسان واستخدمها في طحن الحبوب كالقمح والبرغل، وتصنع يدوياً ومن حجارة بركانية سوداء، ووزنها ثقيل يصل إلى 20 كيلوغراماً. وعلى رغم ذلك إلا أنها تدار بسلاسة بين اليدين وعكس عقارب الساعة.
تتكون "الجاروشة" من حجرين ضخمين مستديرين يوضعان فوق بعضهما، يتم تثبيت الحجر السفلي، أما الحجر العلوي فيوجد فيه ثقب لسكب الحبوب، وبه عصا خشبية ليدور ليطحن الحبوب، كما يمكن التحكم بدرجة خشونة الحبوب المطحونة خلالها بزيادة الكمية أو إنقاصها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعد "الجاروشة" من الأدوات التراثية الفلسطينية، ويعود تاريخ بدء استخدامها لعام 1930، ولم تتوافر قديماً في كل المنازل ويعد الحصول على قطعة منها شيئاً ثميناً، ولا يزال يحتفظ بها معظم كبار السن في منازلهم.
توقف مطحنة الدقيق الوحيدة
وفي ظل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المحاصر، لجأ الكثير من العائلات التي تمتلك جاروشة لاستخدامها، وكانت الحل الأمثل لتوفير الطحين، الذي بات شحيحاً، بعد أن توقفت مطحنة الدقيق الوحيدة في غزة عن الدوران، إذ تعرضت لقصف إسرائيلي وأوقفت تروسها عن العمل.
وفي الواقع، يعاني سكان غزة من أزمة جوع حادة، وبالكاد يحصلون على وجبة طعام كل يومين، وفيما تتوافر حبوب قمح في القطاع لا تتوافر كهرباء أو مطاحن لتحويله لطحين لصناعة الخبز.
جزء من التراث
كان يحتفظ أمجد بالجاروشة كجزء من التراث وحفظ الذاكرة، ووجد فيها حلاً لتحويل القمح إلى طحين يعد منه الخبز ويسد به جوع أحفاده الذين لم يأكلوا منذ يومين.
يضيف الجد، "بعد معاناة شديدة لا يتحملها أي إنسان، طلبت من حفيدي أن يجلب الجاروشة ويشتري بضع كيلوغرامات من أي نوع حبوب يجده في السوق لأصنع لهم خبزاً يأكلونه".
بصعوبة حصل الجد على حبوب القمح، واشتراه بسعر مضاعف، وهنا يشير إلى أن البحث عن الطعام ليس بالأمر السهل، ويحتاج لجهد مضاعف وأموال طائلة، لكنه يأمل في أن ينتهي هذا الكابوس وتعود الحياة إلى طبيعتها.
يبلغ عمر "الجاروشة" نحو 80 عاماً، يوضح الجد أنه ورثها عن والدها الذي جلبها معه عند هجرته من بئر السبع عام 1948، ولكن ما زال يحتفظ بها، وطالما أنها تحول القمح إلى طحين فهي كنز لا تفرط به.
عملية معقدة
عند بزوغ الفجر يستيقظ الجد أمجد ويجلس أمام "الجاروشة"، إذ يفضل أن يدور عجلها العلوي صباحاً، ويبرر ذلك قائلاً "عندما يستيقظ الصغار يجب أن يجدوا شيئاً يأكلونه، لذلك أعمل عليها قبل شروق الشمس".
ويكمل "الرغيف يسد الرمق، حتى من دون أي إدام معه (أي بلا طعام) خصوصاً بالنسبة لسكان قطاع غزة الذين يمرون بكوارث ومجاعات وعواصف كبرى، أعتقد أنها الأبشع والأعنف في التاريخ".
عملية طحن الحبوب على "الجاروشة" ليست بالسهلة، بل تستغرق جهداً ووقتاً طويلاً، إذ لإنتاج ثلاث كيلوغرامات من الطحين، ويحتاج الجد أمجد ساعتين لها. ويشير إلى أن "القمح يحتاج أكثر من دورة ليتحول إلى طحين ناعم يصلح لإعداد الخبز".
ليس بمجرد ما أن يتم سحق القمح يتحول لطحين، وإنما يجب أن يتم تصفيته وإعادة طحنه من جديد، وبعد ذلك يسكب في "الجاروشة" ويتم طحنه مرة أخيرة، ليتحول إلى دقيق جاهز لإعداده خبزاً.
ما إن بدأ الجد أمجد في استخدام "الجاروشة" ذيع صيتها في الحارة، وبسرعة تجمع حوله عدد من النسوة جيرانه، وطلبن منه استخدامها لأجل طحن حبوب قمح وإطعام صغارهن.
على باب منزل الجد تكدست أكياس الخيش الممتلئة بالقمح، ضحك أمجد من المشهد ثم فتح باب بيته على مصراعيه ليستخدم الناس آلة "الجاروشة" التراثية القديمة.