Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صناعة المفروشات مهنة كبار السن في طرابلس

ارتبطت بالمدينة وشكلت المورد الأساسي للسوق المحلية من أقصى الشمال إلى الجنوب

يحافظ الحرفي الطرابلسي على التقنيات اليدوية في صناعة المفروشات (اندبندنت عربية) 

صناعة المفروشات في طرابلس اللبنانية، خير شاهد على مهارة وموهبة فئة كبار السن من الحرفيين، وامتهان "فن الحفر على الخشب". فهذه الشريحة، تنتمي إلى زمن آخر، وفلسفة أخرى من العمارة، حيث كان تتعامل مع "إعداد الجهاز" الذي يتصف بالفخامة، والإرث العائلي، والعمر المديد. 

الجيل الأول

في أحد الشوارع المتفرعة من ساحة "الدفتردار" في المدينة القديمة، يخترق الحرفي محمد الديماسي رتابة المشهد بواسطة مدقة خشبية، ومجموعة من الأزاميل القديمة، محولاً قطعة خشبية صماء إلى منحوتة فنية حافلة بالجمال.

يفاخر الديماسي بقدراته في الحفر وأن المفروشات التي صنعها احتلت مكانة خاصة في أجمل البيوت اللبنانية وفي الخارج. فهو يعتبر واحداً من أولئك الذين قامت على عاتقهم صناعة المفروشات في المدينة. ولم تتمكن السنوات من قتل شغف العمل اليدوي المضني. إذ يؤكد أنه يعمل في حفر "الموبيليا" منذ ستة عقود وما زال حتى اليوم يفكر بتصاميم ورسوم جديدة، مشيراً إلى أن "لديه كثيراً من الأفكار التي يريد ترجمتها على الخشب، ولكن بدأ الوقت يضيق وكذلك قدراته الجسدية". ينظر الديماسي إلى القطع التي يصنعها نظرة خاصة فهي استغرقت كثيراً من الجهد والوقت، لذلك "يفضل في كثير من الأحيان عدم بيعها لمن لا يقدر قيمتها". في المقابل، ينجذب الحرفي إلى تحدي "ترميم القطع القديمة"، لأنها المحك لأصحاب الموهبة والخبرة، وهو نجح في إعادة كثير من التحف إلى الحياة. 

 

بؤر الفن 

ارتبطت صناعة المفروشات بمدينة طرابلس، وشكلت المورد الأساسي للسوق المحلية من أقصى الشمال إلى الجنوب، ومصدر أمان للدورة الاقتصادية. وازدهر هذا النشاط الحرفي إلى حد بعيد حيث سيطر على ما سواه في مناطق الزاهرية والتربيعة وأجزاء من التبانة وباب الرمل، وبالتأكيد مدينة الميناء. ولعبت هذه الحرفة وما زالت دوراً إيجابياً في تحسين الوضع المالي والاقتصادي للعائلات التي تعمل فيها. في شارع بور سعيد - الميناء، تنتشر أعداد كبيرة من متاجر المفروشات، وتشكل واجهة للمصانع في المدينة. 

يتحدث الحرفي عبد الكريم مرعش (58 عاماً) عن "حرفة أصيلة ذات هوية ثقافية تقاوم المنافس الأجنبي"، حيث يشير إلى أن "لهذه الحرفة مكانة كبيرة في وجدان أبناء الميناء، لأنها تمكنت من تحسين أوضاعهم الاقتصادية منذ القدم، ولذلك تجدهم إما يعملون في البحر أو في صناعة المفروشات". يقول مرعش "يعود الفضل في ترسيخ صناعة الموبيليا في الميناء إلى عائلتي الجم والقرق وفران حيث تعلم أكثرية الحرفيين لديهم، والذين استقلوا أسسوا بدورهم  محترفات خاصة بهم"، مضيفاً "عاش العاملون في هذه المهنة مرحلة العز، وتمكنوا من شراء بيوت ومنازل، وتأمين حياة كريمة". وينوه إلى علامة بارزة في هذه المهنة "تأخذ هذه الصنعة الطابع العائلي في الظاهر، ولكن ليس فيها سر مهنة على خلاف الحرف الأخرى، لأنها تحتاج إلى العمال وهؤلاء العمال سرعان ما يكتسبون المهارة والقدرة على الإنتاج والتسويق". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عدة مهن في مهنة 

يستند عبدالكريم مرعش على أحد الكراسي، ليدافع عن أهمية الحفاظ على هذه المهنة. ويلفت إلى أنه "يحتاج إلى إنجاز صالون أو غرفة نوم إلى العشرات من الوظائف والعمال"، فهي تؤمن العمل للنجار، والدهان، والحفار، والخياط، والفراش، والحمال، وغيرهم الكثير والكثير. لذلك لا بد من تأمين الدعم لها، وتثبيت العاملين فيها ضمن محترفاتهم. 

يؤكد مرعش أن استمرار هذه الحرفة مهدد بفعل عدة مخاطر، فمن جهة، يتقاعد عدد كبير من الحرفيين المهرة بسبب السن والمرض، كما أن البعض منهم بدأوا يفضلون الاستيراد على تشغيل معاملهم ومصانعهم، ناهيك عن فقدان مقومات الصناعة والتطور في لبنان، وغياب الحافز لدى الحرفيين، ولا يغفل مرعش في حديثه عن "تجار دخلاء إلى السوق"، حيث قامت مجموعة من المتمولين بتأسيس بعض المتاجر التي تبيع "الموبيليا" وهم ليسوا من أبناء المهنة وكل همهم تحقيق الربح، و"إن كان أحياناً على حساب الجودة". 

ويضيف "تأتي إلى لبنان بعض الموديلات الأجنبية الجميلة التي يرغبها الجيل الجديد، فهؤلاء في الخارج يمتلكون فرق كبيرة في مجال التصميم"، ويستدرك "ولكن يجب الأخذ في الحسبان أن القطعة الأجنبية ستكون أعلى سعراً، وإن كانت في سعر مشابه للمحلي فهي ستكون أقل جودة، وقوة"، منوهاً "تجد بعض القطع الأجنبية ضخمة، وذات مظهر عظيم، ولكن عند معاينتها تكتشف أنها من الكرتون المضغوط أو الخشب السيئ، ولا تعيش إلا لسنوات قليلة"، مؤكداً أنه يمكن لصاحب المصلحة التحكم بمواصفات القطعة، حيث تتوافر أنواع مختلفة من الأخشاب، والقماش، والإسفنج، أو حتى الطلاء، ولكن يحرص صاحب المهنة على مصارحة زبائنه من أجل الحفاظ على الثقة والصدق في التعامل". 

يضيف مرعش "في السابق كان كل صاحب متجر يمتلك مصنعاً موازياً وفريقاً خاصاً به، ولكن بتنا حالياً نضطر إلى الاستعانة بالعمال على القطعة بسبب حالة الركود الاقتصادي، وتردد الناس في تجديد منازلها وفرشها لأن هناك أولويات أخرى للعائلة اللبنانية متوسطة الدخل".

 

الأذواق المتعددة 

شهدت صناعة المفروشات نقلة نوعية على مستوى الأدوات، والتصاميم، فهي تنحو أكثر فأكثر نحو "الموديلات" العصرية أي القطع المريحة والواسعة. ويظهر هذا التوجه إلى حد كبير في سوق التربيعة الذي تسود فيه "المفروشات البسيطة"، التي تصنف "في متناول الجميع"، وربما هذا ما يفسر الإقبال عليها، وكان لافتاً للأنظار قدوم "مقبلين على الزواج من مناطق لبنانية بعيدة من أجل فرش منازلهم"، حيث يعبرون عن ثقتهم بأنهم سيجدون طلبهم بأسعار منافسة. 

ولكن على الرغم من ذلك، يرفض الحرفيون إعلان وفاة "الستيل" والمفروشات المحفورة يدوياً. في منطقة الزاهرية، ما زالت أعمال الحفر بارزة في المحترفات، وإصرار كبار السن للحضور إلى المصانع لمراقبة الأعمال وإبداء الرأي بالعمل.

ينتظر الحرفي أنيس حمدون (70 عاماً) أمام محله قدوم الزبائن. تتلمذ أنيس على يد والده، حيث تعلم أصول الحفر، وصناعة المفروشات بمختلف أشكالها. ويصف المفروشات المصنوعة يدوياً بـ"القلعة"، حيث يمكن أن تعيش 100 عام من دون أن تتلف. 

يقر أنيس أن القطع المصنوعة يدوياً مرتفعة الكلفة، لذلك لن يشتريها إلا المقتدر مادياً. ويقول حمدون "تتراوح كلفة كرسي الصالون الحفر بين 140 و160 دولاراً، ولا بد له أيضاً من تنجيد ودهان لذلك فإن كلفة الصالون الستيل قد لا تقل عن ثلاثة آلاف دولار أميركي". 

وقد تأثرت سوق هذه المفروشات بالوضع الاقتصادي، إلا أن "الطلب ما زال مستمراً على التصميم الفرنسي أي الكراسي التي تتميز بخطوط الحفر الناعمة". ويتخوف حمدون من نهاية هذه الحرفة، بسبب رحيل الحرفيين كبار السن، وامتناع الجيل الجديد عن تعلمها لأنها تحتاج إلى جهد جسدي وذهني كبيرين، وتفضيلهم التعليم الأكاديمي أو تعلم مهنة بسيطة. 

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير