ملخص
أعادت حرب غزة إلى الذاكرة "عمليات التهجير" التي عاشها الفلسطيني طول ثمانية عقود
في منزله داخل مخيم "نهر البارد"، يتسمر الحاج أحمد نجيب عودي (85 سنة) أمام شاشة التلفاز. يتابع أخبار الحرب في غزة، لا يتفاجأ بالعدوانية الإسرائيلية، فهو سبق له أن خبرها، مرات عدة، في فترات الطفولة والشباب والكهولة، تستفز ذاكرته الأخبار التي تتحدث عن "معابر آمنة"، واستعادة فكرة "الترانسفير" و"ترحيل الفلسطينيين من أراضيهم"، ويعود عودي إلى عشية "التغريبة الفلسطينية" وخروج العائلة من بلدة صفورية، شمال فلسطين على مقربة من مدينة الناصرة، ويروي أنه "في أحد الأيام، زارنا خالي، الذي كان يعمل طباخاً لدى البريطانيين، في منزلنا الذي يقع عند أطراف البلدة، أبلغ أمي بأن العصابات اليهودية تدخل القرى، وتهجر أهلها بقوة السلاح، ولا بد من أن نقوم بتجهيز بعض الحاجات الأساسية لحالة الضرورة".
يجزم أنه عايش عمليات التهجير التي عاشها الفلسطينيون. ويقول "كنت طفلاً (11 سنة)، وكانت على مقربة من دارنا مدرسة تجمع فيها مقاتلون من أجل المواجهة، كانوا يمتلكون سلاحاً خفيفاً، أما في الناصرة القريبة، فكان يوجد جيش الإنقاذ العربي الذي لم يقم بواجباته التي كنا نتطلع إليها، وكان هناك جسر يفصل القرية عن المحيط، وقام المقاتلون بتفخيخه، ووضعوا حجارة في الطرقات، ولكن طلبوا منهم إزالتها بحجة القدوم للمساعدة في صد الغزو، لكن ذلك لم يحدث".
فصول التهجير المتكررة
ويتحدث عودي عن فصول التهجير المتكررة التي عايشها منذ عام 1948 تاريخ إعلان دولة إسرائيل، ولغاية 2007 إبان معركة "فتح الإسلام" وتدمير مخيم نهر البارد (شمال لبنان).
ففي أحد الأيام، كانت العائلة تعيش حياتها العادية "في ذلك النهار، كنا صائمين، فجأة عند المغيب، ارتعدت أرض القرية، وعشنا خوفاً شديداً بسبب الأصوات غير المعهودة"، وبحسب عودي الذي يشكل جزءاً من التاريخ الشفوي الفلسطيني في مخيمات لبنان، "حاول المحاربون صد العدو لكنهم لم يتمكنوا، فقام العدو بتطويق صفورية من جهات ثلاث، وترك منفذاً واحداً للسكان للخروج، وكأن الماضي يتكرر اليوم، اتجه بعض السكان إلى الناصرة، فيما عائلتنا المؤلفة من أبي وأمي والإخوة الأربعة، اتجهت شمالاً، استمر المسير أياماً عدة، في الطريق، رأينا بيوتاً مدمرة، ولم تصمد إلا القلعة التي كان على سطحها جنود من اليهود".
وبعد ثلاثة أيام، وصل المهجرون إلى منطقة في جنوب لبنان. ويقول "قضينا أشهراً عديدة في البرية وفي مشاعات بنت جبيل، لم يكن لدينا إلا كسرات من الخبز لنأكله، وكنا أطفالاً صغاراً نسرق الماء لنشرب من آبار البلدة بسبب صعوبة الحصول عليه"، مضيفاً "دفعت المعاناة بعض العائلات للعودة إلى صفورية وصفد، لكن آخرين رفضوا العودة من منطلق عدم العيش تحت حكم الأعداء".
بعد ذلك، قامت منظمة "الأونروا" بنقل مجموعات النازحين إلى "بريكسات الفرنسيين" في البقاع، "قضينا ثلاث سنوات قاسية، مات البعض من شدة البرد، واضطررنا إلى دفن زوج خالتي في الثلج"، وبعد ذلك، بدأت مرحلة جديدة من حياة المهجرين، "نقلت الأونروا الفلسطينيين نحو شمال لبنان، حيث شهدت خمسينيات القرن الماضي نشوء مجتمع المخيم بدءاً من منطقة البارد"، ويستذكر عودي "لقد وزعوا علينا الخيام التي كان يتفاوت حجمها بحسب عدد أفراد العائلة، وفي الليلة الأولى، أدت الرياح القوية إلى انتزاع جميع الخيم، فقضى الأهالي ليلهم في العراء".
ويفتخر عودي أنه كان من ضمن النواة التي أسست مجتمعاً فلسطينياً متعلماً في لبنان، وأنه شارك في تدريس أجيال ضمن مدارس "الأونروا"، كما أنه "أسهموا بقيام حركة القوميين العرب، وإعادة الخطاب النضالي على رغم القمع الذي تعرضوا له على يد المكتب الثاني والاستخبارات (أجهزة أمن لبنانية)، وحرمانهم من الوظيفة بصورة موقتة، وإبعادهم نحو مدارس الجنوب".
وعاش مخيم "نهر البارد" مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية، وحياة غير مستقرة بعد الاجتياح الإسرائيلي، ومن ثم خروج "أبو عمار" (الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات) من لبنان، وتحول المخيم، خلال تلك الفترة، إلى متنفس تجاري لسوريا.
ويتحدث عودي عن "دخول مفاجئ لحركة فتح الإسلام إلى المخيم حيث حاولوا التقرب من الأهالي، في البداية، قبل محاولة فرض نفسهم عليهم"، مضيفاً "كنت أشعر بحذر تجاههم، ورفضت التعامل معهم، وقد مهد هؤلاء إلى نكبة جديدة"، ولا تغيب عن ذاكرة الرجل الثمانيني تلك اللحظات، فقد عاد مهجراً بعد سبعة عقود، قائلاً "كنت وحيداً في المنزل، وتركنا خلفنا جميع مقتنياتنا، اعتقدنا أن إخلاء المخيم هو للضرورة، وسيكون لفترة قصيرة، ثلاثة أيام فقط، ولكن طالت المدة، وكانت أشبه بما عشناه عند مغادرة صفورية، عندما تحولت الأيام السبعة إلى 70 عاماً من التهجير".
الهوية "فلسطينية"
تحضر فلسطين في ذاكرة كبار السن، وكذلك في التفاصيل اليومية لحياة أبناء المخيم، في جدرانها، وأزقتها، وداخل منازلها، ففي مخيمي "البارد" و"البداوي" في شمال لبنان، تستقبل الزائر صور "الشهداء" وقادة الفصائل في مقدمتهم "أبو عمار"، والشيخ أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي، وغيرهم من وجوه الكفاح الفلسطيني المسلح، فيما لا تغادر صور "قبة الصخرة"، و"مفاتيح العودة"، وخريطة فلسطين، أي جدار من جدران البيوت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي رسالة شديدة الوضوح، تحمل المدارس أسماء البلدات الفلسطينية نظراً لأهميتها في الوجدان والذاكرة الجماعية، وتعتبر مدرسة غزة إحدى أكبر مدارس "الأونروا"، وتضم 1800 طالب فلسطيني، وكذلك مدارس عمقا إحدى قرى الجليل، وطوباس، وعين كارم، ومجدو، وجبل طابور، وبتير (بيت لحم)، والمنارة (الجليل).
مع غزة
كان لعملية "طوفان الأقصى" أثر كبير في الوجدان الفلسطيني العام، إذ تشهد المخيمات كثافة في التحركات الشعبية، و"استعادت الكوفية مكانتها لدى طلاب المدارس".
ويشبه فرحان المعاري القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية هذه العملية بـ"معركة الكرامة"، عام 1967، و"سلسلة الانتصارات التي حققها الكفاح المسلح بقيادة أبو عمار وغيره من القادة"، مشيراً إلى "الأثر النفسي الشديد لهذه العملية على الصديق والعدو"، وكذلك "توحيد الصف الفلسطيني في مواجهة العدوان وحرب الإبادة"، وفي المقابل "تأكيد أهمية استقرار لبنان وعلى العلاقة مع مؤسساته الشرعية، واستمرار التحركات الشعبية المنددة بالعدوان والجرائم".
في موازاة ذلك، يزداد قلق أهالي المخيم الذين لهم أقارب في قطاع غزة لأنه "لا يمكن تحديد اللحظة التي يمكن أن يستشهد فيها هؤلاء، أو يقضوا تحت الركام"، ويتحدث أحدهم "كنا في اتصال فيديو مع أحد الشبان من أقاربنا في غزة، كانت الأصوات تفوق كل التوقعات".