Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في مديح فوضى المكتبات

الكتب في الليل تصاب بالأرق إذا لم يتم فتحها وقراءتها

الكتب التي نكتبها كما تلك التي نقرأها تشبه أطفالنا لا نفضل هذا عن ذاك (أ ف ب)

ملخص

الكتب كائنات حية بعضها تعرض للإعدام وبعضها للحرق وبعضها للرجم، كمؤلفيها تماماً بتمامفي مديح فوضى المكتبات 

المكتبات العائلية الشخصية على صور أصحابها، شكلاً وتنظيماً وترتيباً وفوضى ومحتوى.

المكتبة هي صيدلية كل البيت، والبيت الذي تسكنه مكتبة تعشش فيه السعادة، السعادة الكبيرة التي لا يدرك سرها إلا من ذاق متع الفكر وبهجة الإبداع.

منذ نصف قرن تقريباً وأنا أجمع الكتب، يوماً بعد يوم، رحلة بعد رحلة، كتاباً فوق كتاب، كتاباً جنب كتاب، كلما سافرت إلى بلد إلا وعدت بحقيبة من الكتب قبل أي شيء آخر، ولا تزال هذه الرغبة المجنونة متواترة وهذه النار موقدة بعنف.

الكتاب جلد الكاتب ومأوى القارئ.

الكتب التي نكتبها كما تلك التي نقرأها تشبه أطفالنا لا نفضل هذا عن ذاك. 

البيت الذي ليست فيه مكتبة لا تدخله لا الملائكة ولا الآلهة ولا الشياطين؟ هو بيت من دون باب، من دون ضوء ومن دون عنوان، خلاء. 

البيوت التي بها مكتبات تغمرها رائحة عطرة سحرية مسروقة من باقة روائح الجنة، ورائحة الورق المكتوب بالحبر أبهى وأثمن العطور وأجودها على الإطلاق. 

والمكتبة العائلية أو الشخصية هي صورة عن مسار الشخص الذي جمعها عنواناً عنواناً، ولا يفقه سر فوضى هذه المكتبة إلا صاحبها.

ففوضى المكتبة العامرة الحية تشبه فوضى سرير العشاق عند الصباح!

كلما كانت المكتبة الشخصية منظمة ومصفوفة بإتقان، فهي أقرب إلى الزينة منها إلى متاهة القراءة والإبداع والمساءلة.

والقارئ في مكتبة حية بفوضاها شأنه شأن القط، يتحرك في خط غير مستقيم، يدور ويقلب هذا على ذاك ولا يضيع منه العنوان المقصود ولا الهدف المنشود.

وأمتع لحظات الضياع هي تلك التي نشعر بها ونحن نضيع في مكتبتنا الشخصية. 

كلما شاهدت على التلفزيون حواراً مع كاتب أو مفكر وهو في بيته وتبدو من خلفه مكتبة مرتبة بشكل قاسٍ، مجلدات وسلاسل مجلدات، أشعر بأن هذا الشخص لا يمارس العشق المجنون مع مكتبته، وتبدو لي هذه المكتبة في ترتيبها القاسي للكتب شبيهة بمقبرة قبورها منظمة بإحكام، حيث الأموات ينامون نوم الأبدية بلا حراك، لا أحد يقلبهم على ظهورهم أو جنوبهم، فالكتب ليست أمواتاً، إنها تحتاج إلى التحريك والتقليب والتوريق والفتح والغلق والتهميش والتنقيب، وترتيب المكتبة الشخصية ليس كترتيب مقابر الملوك والعائلات الأرستقراطية.

وكلما كانت المكتبة الشخصية عائمة في فوضاها الشعري، فاعلم بأن بها حياة تسري في مفاصل رفوفها وأن هناك يداً ساهرة عليها حتى لا تنام أو تغفو، فالكتب لا تنام أبداً، وأن خلف هذه الفوضى الإبداعية عقلاً يحاور وشخصاً قارئاً نهماً يحفر في كنوزها من دون توقف. 

الكتب لا تنام على الرفوف، والرفوف ليست أسرّة بمطارح وثيرة، الكتب تحدق فينا، تصرخ فينا وعلينا إذا ما غفلنا عنها.

الكتب تحزن كما يحزن الإنسان إذا ما هي شعرت بأن لا أحد يدلك مفاصلها ويفتت رسم كلماتها.

الكتب تتكلم بفصاحة عالية، تخاطب الأذن التي تحسن الاستماع إلى أصواتها وتفهم أسرار لغتها، وأصوات الكتب مختلفة، فلا صوت يشبه الآخر، بعض الكتب أصواتها ناعمة وبعضها موحشة وبعضها حادة وبعضها مرتفعة وبعضها خافتة.

الكتب مثل البشر تصاب هي الأخرى بالزكام والروماتيزم والحكة إذا ما غفلنا عن صحتها التي في محاورتها وقراءتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حين كنت مديراً عاماً للمكتبة الوطنية الجزائرية، مرات كنت أصعد ليلاً إلى الطابق السابع حيث المخازن الكبرى للكتب، أمشي بين الرفوف الطويلة العالية العامرة التي تمتد على مئات الأمتار، أمشي تحت أضواء إنارة خافتة تنزل من الأطراف، أصغي إلى المكان فأسمع أصواتاً حقيقية واضحة، نعم أصوات حقيقية ومؤكدة، هي أصوات مؤلفي الكتب التي تجلس على الرفوف، أسمعها تهتف في أذني، أميزها تماماً، هذا صوت المعري وذاك صوت المتنبي وذلك الآتي من الرف الآخر صوت أبو حيان التوحيدي، وغير بعيد منه ينبعث صوت ابن حزم وابن زيدون ومحمد ديب ونجيب محفوظ والماغوط وآسيا جبار وشكسبير وموليير وأحمد شوقي ونازك الملائكة وبودلير وسعيد عقل وزولا وأحمد شوقي وفيكتور هوغو ومولود معمري وسعد الله ونوس ومحمد أركون والطيب تيزيني... جوقة في تناغم وتناسق، إنها تذكرنا بوجودها الأبدي، بانتصارها على الموت، أصوات مقبلة من مئات السنين، من مختلف الجغرافيات، كلما توغلت في عمق المخزن بخطوات بين الرفوف تتكاثر الأصوات وتتعدد بمختلف اللغات واللكنات، هي أصوات ما بين النداء والصلاة، وكأن كل صوت يبحث عن قارئ أو رفيق ليل لكتابه، ترغب كل يوم في النزول من على الرفوف لتجلس بين الأيدي وتحت العيون القارئة الساهرة.

الكتب في الليل تصاب بالأرق إذا لم يتم فتحها وقراءتها، أرق الكتب أكثر ألماً من أرق الإنسان.

هي أصوات كتاب تألموا وهم يكتبون الصفحة تلو الصفحة وكتاب سجنوا لرأي أثبتوه في كتاب وكتاب اغتيلوا لموقف فلسفي أو اجتهاد ديني أو سياسي وكتاب عشقوا حتى الموت فأصبحوا شهداء العشق، وكتاب خانوا وآخرون عاشوا في المنافي سنوات وما برئوا من حب أوطانهم... 

الكتب كائنات حية بعضها تعرض للإعدام وبعضها للحرق وبعضها للرجم مثل مؤلفيها تماماً بتمام.

كلما حدقت في فوضى مكتبتي أردد ما قاله الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، "أتخيل دائماً الجنة على شكل مكتبة"، وكم تكون هذه الجنة سخية حين تكون في فوضى عارمة، الفوضى التي تبدع المفاجأة في كل لحظة وفي كل لمسة.       

اقرأ المزيد

المزيد من آراء