Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لا شيء من وراء الكتابة سوى "ملذات المنفى"

كتاب جديد يرصدها بوصفها مسعى إنسانياً لا يخضع لحسابات الربح والخسارة ويقدم نصائح إلى الكتاب بتحمل الفشل

روبوت للكتابة يظهر في الجناح الإسباني خلال معرض فرانكفورت الـ23 للكتاب (أ ف ب)

ملخص

الكتابة لا تخضع لتقييم النجاح والفشل ومعايير الرواج والربح، فهي مكافأة في حد ذاتها.

للشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي، ويصر بعضهم على تعريبه ببوكوسكي، قصيدة إلى من يريد أن يصبح كاتباً، يقول له فيها "لو كنت تفعلها [أي الكتابة] طلباً للمال أو الشهرة، فلا تفعلها".

وفي مستهل كتابه عن الكتابة والفشل يحكي الروائي وكاتب المقالة وأستاذ الكتابة الإبداعية الكندي ستيفن مارش هذه الحكاية

"سألتني كاتبة شابة أخيراً ’هل يسهل الأمر بمرور الوقت؟ هل يحدث أن يسمك جلدك ويتبلد؟‘ وكانت تعاني لأنها كتبت مقالة عن وفاة والدتها فرفضها كل منبر مناسب لنشرها. ولم أجد جواباً، فحكيت لها قصة. قبيل اندلاع جائحة ’كوفيد‘، انتقل الروائي وكاتب القصة القصيرة ناثان إنغلاندر ليقيم في الحي الذي أقيم فيه بتورنتو، فكنا نجلس أحياناً قرب نار نضرمها في فناء بيتي الخلفي لنشرب ونتبادل الشكوى. وسألته ذات ليلة ’هل يسهل الأمر بمرور الوقت؟ هل يحدث أن يسمك جلدك ويتبلد؟‘ فلم يجد إنغلادر جواباً لكنه حكى لي قصة. كان ذات مرة في عشاء مع فيليب روث، فوجه إليه سؤالاً قائلاً إن ’جلد المرء يسمك ويتبلد مع كل كتاب، صح؟‘ فلم يحتج روث إلى قصة، إذ كانت لديه الإجابة، وقال ’بل يرق جلده ويرق إلى أن يمكنهم أن يرفعوك ويعرضوك للضوء فتنفذ أبصارهم إلى داخلك‘".

وتلك ليست حكاية بقدر ما هي دوامة، بل سباق تتابع، وما تحكيه حقاً هو أن كل كاتب يتسلم، ربما مع موهبة الكتابة، المعاناة من سابقيه، مع الحراس القائمين على بوابات النشر الذين يملكون سلطة السماح بمرور بعض الكتابات دون بعضها الآخر. أو هذا هو المشهد كما يراه كثيرون. وقد يكون هذا مقبولاً بوصفه جانباً من معاناة الكاتب مع كتابة تمت فعلاً، فضلاً عما يعرفه كل كاتب من ألوان المعاناة مع الكتابة قبلها وفي أثنائها، ثم بعد نشرها إن نشرت. معاناة طبعاً، معاناة ولا شك، لكن لماذا نخطئ ونسميها الفشل؟

صدر حديثاً في 128 صفحة عن دار بيبليواسيس، وهي دار نشر كندية مستقلة صغيرة، لستيفن مارش كتاب عنوانه "عن الكتابة والفشل: أو، عن الدأب الفريد اللازم لاحتمال حياة الكاتب (ملاحظات ميدانية)". وأحسب أن عنواناً كهذا العنوان الفرعي يصلح عنواناً لسيرة حياة أي كاتب.

تكتب مورين كويغان في موقع "إذاعة أميركا الوطنية" في الـ14 من فبراير (شباط) 2023 أن ستيفن مارش "بوصفه كاتباً لا يمكن أن ينكر أن الكتابة عمل شاق، وهو يعرف جيداً أن العيش من الكتابة مرهق للذهن وشاق على النرجسية وأن المردود المالي له مؤسف إلى أبعد حد، لكنه لا يفتأ يكرر في كتابه أن ’لا مجال للأنين‘، وأنه على الكتاب، الناشئين بصفة خاصة، أن يعتادوا".

وتضيف أن "هدف الكاتب من هذا الكتاب هو أن يتحدث عـما يجب على المرء كي يعيش كاتباً في هواء خال من بخور المجد. ليست الموهبة أو الحظ فحسب، فالشيء الوحيد الذي يحتاج إليه الكاتب هو اعتياد الفشل، المرة تلو الأخرى".

تكتب كويغان أن "الكتاب لا يهتم بالتأمل المعياري في فن الكتابة أو نبل هذه الحرفة، فالغلبة فيه إنما هي لنوادر عن إخفاقات احتملها كتاب لم تعرف عظمتهم إلا بعد فوات الأوان، فلم تجر عليهم شخصياً أي نفع، وكتاب استوطنوا الاكتئاب أو الرفض"، وتستشهد هنا بنادرة من الكتاب عن هرمان ملفيل صاحب "موبي ديك"، لكن ما لنا بملفيل وعندنا يسوع نفسه؟ ففي مقتطف من الكتاب نشرته "نيويورك تايمز" (في الـ11 من فبراير 2023)، يكتب مارش

"طبعاً، سقراط وكونفوشيوس ويسوع كانوا جميعاً فاشلين. وإخفاقاتهم كانت الأعمق، والأشمل. فلم يستطع الفيلسوف العظيم أن ينطق بما ينجيه من الإعدام. ولم يستطع الباحث الأعظم في السياسة العملية أن يتولى منصباً لفترة وجيزة ولا استطاع الحصول على وظيفة. ويسوع المسيح قد يكون أبهى الكتاب فشلاً على مدى التاريخ، فقد وعظ بالحب، وفي المقابل خانه أصحابه وأدار شعبه ظهورهم له وصلبته السلطات".

بعيداً من تلك الفقرة التي لا تعدو كونها نكتة، ضحلة في حالة سقراط اختزالية في حالة كونفوشيوس ووقحة في حالة يسوع، ولننظر مثلاً في النادرة التي يستهل بها كتابه والتي استهللنا بها مقالتنا هذه، أعني نادرة الكاتبة الشابة التي فشلت في نشر مقالتها. فنظرة ثانية إلى هذه النادرة تكشف عن أن الكاتبة ومارش وإنغلاندر وفيليب روث نفسه، لم يفشلوا في الكتابة وإنما في النشر، أما سقراط وكونفوشيوس ويسوع، فقضاياهم بلا شك أسهل إلى كل قارئ لديه القدر الأدنى من القراءة النقدية.

تسويق الكتابة

"الكتابة" قد لا تكون أصلح الكلمات عنواناً لهذا الكتيب، فلعل "تسويق الكتابة" أصلح وأصدق، ويكتب مارك أثيتاكيس (واشنطن بوست – في السادس من مارس/ آذار 2023) أن "الكتابة طريقة شاقة لاكتساب العيش، ولهذا السبب يوجد نظام بيئي كامل يساعد في الإشعار بما يشبه النجاح فيها. يتألف هذا النظام من ’هاشتاغات‘ من قبيل #amwriting [أي أكتب حالياً] توفر التشجيع لمن يخوضون أوحال المسودات الأولى. وإعلانات مريبة في ’فيسبوك‘ تروج لمناهج يسيرة لبيع آلاف النسخ من كتابك من دون حتى أن تضطر إلى تأليفه، ومعتزلات كتابة قد تكون أقل ريبة لكنها بلا شك أغلى ثمناً توفر فرصاً للاشتغال على روايتك مع إرشاد احترافي تحت الشمس التوسكانية أو ما يضاهيها" وكل ذلك ليقول لك إن "بوسعك أن تفعلها"، لكن علام تعود هذه الهاء حقاً، على الكتابة، أم على النشر، أم على النجاح؟

تكتب مورين كويغان أن "مارش، وهو بأغلب المقاييس كاتب ناجح، يحكي أنه ظل يحتفظ بسجل دقيق لما قوبل به من رفض إلى أن أحدث فيه ألفي علامة، وكان ذلك قبل قرابة 20 عاماً، لكن له في هذا رفقة جيدة طبعاً من الكتاب أمثال جاك لندن الذي يقال إنه كان يحتفظ برسائل الرفض مغروزة في مغزل، إلى أن بلغ ارتفاع الكومة أربع أقدام أو قرابة 600 رسالة، فلو أنك تنتظر إلهاماً عظيماً من هذه السلسلة من الإخفاقات فانسَ الأمر. بدلاً من ذلك يصر مارش على أن تحدق بعينين مفتوحتين".

 

تستشهد كويغان بفقرة لمارش، "يحلو للإنترنت أن يحكي قصصاً عن الكتاب المشاهير إذ يواجهون العراقيل، لكن الغريب في نظري هو أن يكون غريباً في نظر أي شخص أن يوجد كل ذلك الرفض. فالمتوسط بالنسبة إلى مسوق عبر الهاتف أن يجري 18 مكالمة هاتفية قبل أن يجد شخصاً مستعداً للحديث إليه، وذلك وهو يبحث عن التافهين ممن يحتاجون إلى مكنسة كهربائية أو هاتف ذكي جديد، في حين أنه لا يوجد من يحتاج أصلاً إلى مخطوطة".

ثم تعلق، "ليتها زلة لسان كاشفة، أعني مقارنة الكاتب بـ’المسوق‘، لكنها على الأرجح لا تعدو قناعة راسخة، أو مجاراة للسياق العام الذي لا يكاد يقيس نجاح كاتب أو كتاب إلا برواجه في السوق كسلعة".

وتختم كويغن مقالتها بتلك الفقرة، "يريد مارش بكتابه أن يكون ’عزاء‘ لزملائه الكتاب، يطمئنهم به إلى أن لهم في شقائهم رفاقاً. فيا له من عزاء بارد لأن مارش لديه من الذكاء ما يجعله يعرف أنه ليس من بين الكتاب الذين ستثبط من عزيمتهم الحكايات التحذيرية أو إحصاءات مبيعات الكتب الكئيبة. ولا ينبغي لهم ذلك لأنه بين الحين والآخر، عندما يبتسم الحظ، يكتب كتاباً مثيراً وثاقباً وممتعاً مثل ’عن الكتابة والفشل‘، وقد تكون الكتابة في ذاتها هي مكافأتها، وذلك لأنها حقاً كذلك".

ضمن الفقرة الأخيرة في قراءة مورين كويغان للكتاب، يظهر أخيراً بصيص من الفهم الصحيح للكتابة بوصفها مسعى إنسانياً يوشك ألا يكون له هدف خارجه، وهو في هذا مغاير للغالبية الساحقة من مساعي البشر التي يمكن تقييم النجاح والفشل فيها وفقاً لمعايير الرواج والربح، فالكتابة خلافاً لذلك هي مكافأة ذاتها واكتمالها ـ ولا نقول كمالها ـ هي جائزتها الكبرى التي تعلو على أي جائزة أخرى من الجوائز والمكافآت التي لا شك في أنها موضع ترحيب من الكتاب وداعٍ أكيد لسعادتهم، لكنها تبقى في النهاية ثانوية القيمة قياساً إلى فعل الإبداع نفسه.

الفشل في القيمة

غير أن ثمة فشلاً آخر قد يكون أقوى أثراً على الكتاب، وقد يكونون أحوج إلى من يؤهلهم لتقبله أو لتحديه أو لتفاديه إن أمكن ذلك، وهو أيضاً فشل في الرواج، لكن ليس كسلعة، وإنما كقيمة.

يكتب مارك أثيتاكيس أن "مالمود كتب ما لا يقل عن نصف دزينة من القصص القصيرة الخالدة وبضع روايات من الكلاسيكيات. ومع ذلك بقي يشعر بأنه مغمور"، وربما يحق له الشعور بذلك، ففي النهاية، لا أتوقع أن كثيراً من قراء هذه المقالة يعرفون مالمود باسمه، فضلاً عن أن يكونوا قد قرأوا شيئاً له، بخاصة إذا ما علمنا أنه غير مترجم إلى العربية تقريباً.

هل كان مالمود جديراً بمثل الجائزة الجليلة التي حصل عليها بيلو؟ أو إلى جانب في الأقل من جوانب المجد الوحيد الذي يجدر بكاتب أن يحلم به، وهو أن يكون الجهل به وبأعماله نقصاً في الثقافة؟

مؤكد أن هذا المجد ليس مشاعاً لكل كاتب، ومؤكد أنه مهما بذل بعض الكتاب من جهد، فسيبقون هامشيين، سواء لأن إنتاجهم نفسه محدود القيمة، أو لأنه لم يصادف السياق الملائم لبروزه، لكن الخبر الطيب أن هذا الحكم القاطع، غير القابل للاستئناف أو النقض إلا في حالات نادرة، لا يصدر في حياة الكاتب، إذ طالما الكاتب على قيد الحياة، يبقى دائماً احتمال بكتاب تالٍ يغير كل شيء.

وهذا ما يرجع بنا إلى استعارة النظام البيئي الكامل المحيط بالكتابة التي يكتب عنها مارك أثيتاكيس، فثمة في هذا النظام البيئي جزر معزولة بعدد الكتاب، بعضها مهجور تماماً، يتركه الكتاب إلى المقاهي والمؤتمرات ومواقع التواصل الاجتماعي، سواء لعمل ثقافي جاد وحقيقي أو لمحض الترويج لأنفسهم، لكن من هذه الجزر ما هو مأهول أيضاً، وفيه ينفرد الكاتب بنفسه مجرباً مع كل مشروع كتابي طريقة أخرى في السعي إلى القبض على المستحيل، دونما يأس، ودونما أمل.

يكتب مارش "لعلكم تحدثون أنفسكم قائلين إن كل ما في الأمر هو أنه لم يحقق النجاح الكافي ولم يصل إلى أرض الميعاد"، ولذلك فإنه يؤلف كتاباً عن الكتابة والفشل، "ولقد خطر لي مثل ما خطر لكم، عن نفسي، في أغلب حياتي، لكنني لم أعد أومن بذلك. فما من أرض ميعاد، ما من شيء غير المنفى، ولكن للمنفى ملذاته وفرصه السانحة".

في الهزيع الأخير من كتابه القصير والطريف على رغم كل شيء، يكتب مارش هذه الكلمات. يقول إنه يعيش من الكتابة، ولم يعد مرغماً على التدريس، ولا يكاد يمر يوم من دون أن يتلقى رسالة إعجاب من قارئ والناس بفضل بعض الإعلانات تعرفه حين يسير في الشارع، فهو إذاً ناجح، لكنه يقول أيضاً إنه ليس ذا حضور دولي، ولم يحصل على جوائز، وهو منعزل تقريباً عن الوسط الأدبي في بلده. ومن ثم فهو فاشل، لكنه، بغض النظر عن حسم موقعه على منحنى الفشل والنجاح، ينتهي إلى أنه ما من أرض ميعاد، إن هو إلا منفى. وأهم من ذلك أنه ينتهي إلى أن للمنفى ملذاته أيضاً.

وربما هذا ما يحتاج كل كاتب مبتدئ إلى أن يعرفه حقاً عن الكتابة والفشل، ستكون مشقة الكتابة جزءاً من متعة الكتابة، سيكون كدح البحث عن المفردة المناسبة والفكرة السديدة والشخصية المقنعة والمشهد الصادق والصورة الأصيلة المغنم اليومي. لا تنتظر لتعرف أنك كاتب ناجح أن تسمع تصفيقاً، أو ترى زيادة في حسابك المصرفي، أو تتلقى رسائل من ناشريك بنفاد طبعاتك لأن هذه ليست الكتابة. سيكون كل ما عليك هو أن تكتب جملة، وتنظر إليها في رضا، كمن حصل على جائزة نوبل لأفضل جملة أدبية كتبت هذا الصباح، ثم تبدأ أوديستك العسيرة اللذيذة، تارة أخرى، سعياً إلى الجملة التالية.

لا يحبطك فشل عن السعي إلى النجاح، ولا يخلصك نجاح من خوف الفشل.

عنوان: On Writing and Failure: Or on the Peculiar Perseverance Required to Endure the Life of a Writer (Field Notes)

تأليف: Stephen Marche 

الناشر: ‎ Biblioasis

المزيد من كتب