ملخص
العالم الأميركي يضع علماء وأدباء ومفكرين في دائرة الاتهام
بعد أن استكشفت أعماله السابقة بواعث الشر عند هتلر وحروب شكسبير العبقرية والقوة المروعة للانفجارات النووية، يفاجئنا الكاتب الأميركي رون روزنباوم بالخوض في أكثر الموضوعات استعصاء على البحث، في كتابه "دفاعاً عن الحب: حجة" الصادر حديثاً عن دار دوبل داي. وكما يبدو من العنوان، يتخذ رون دور الدفاع ضد من سماهم أعداء الحب الحقيقيين ووضعهم في قفص الاتهام، ومنهم علماء الأعصاب وفلاسفة البوب والماديون الديالكتيكيون الماركسيون الجدد الذين ينظرون إلى الحب كصفقة. ويمتد اتهامه إلى منشئي المحتوى الإباحي وعلماء النفس بتفسيراتهم المفزعة لتلك العاطفة، كدافع بيولوجي يشبه الجوع والعطش. والأكثر إثارة للجدل من كل هؤلاء، الشعراء ومنظرو الأدب الذين سعوا إلى تأريخه باعتباره "بناء" خيالياً، وكياناً مصنوعاً، مفترضين أن لغة الحب هي التي أوجدته ليس إلا.
الحب في ورطة
برزت الفكرة في ذهن رون أثناء حوار مع صديقته بيتسي كارتر: "كنا نتكلم عن أغاني الحب طوال الوقت، ونتساءل ما سر قوتها إلى هذا الحد؟ أعتقد أن ما قرع الجرس بالنسبة إلي، كان نقاشنا عن أغنية ليندا رونستادت (Long, Long Time)". أخبرته بيتسي وسط الكلام أن الممثلين والممثلات يسمعون هذه الأغنية في غرفة مغلقة لاستدرار الدموع أمام الكاميرا، وهو ما تردد صداه في تجربته كعاشق تعود أن يرسل إلى حبيبته أغنية حب كل يوم، وكان لهذا أكبر الأثر في تلوين الأثير حولهما، بجميع الألوان المفعمة بالحياة واستبقاء الذكرى في كل كلمة. أما ما يجري الآن فهو محاولة لتحويل الأغنية الجميلة إلى معادلات وأرقام وقياسات، والاجتراء على حل لغز لا يقبل الحلول لأنه ببساطة، خلق ليبقى جميلاً ومقلقاً ضمن غوامض الكون.
يبدأ الكتاب بمحاولة تعريف الحب قبل بدء التعامل مع أعدائه، ولكن، هل من الممكن بالفعل وضع تعريف للحب؟ يكشف ابن حزم الأندلسي قبل ألف عام في كتابه "طوق الحمامة في الألفة والآلاف" الذي وصف بأنه أدق ما كتب العرب في دراسة الحب ومظاهره وأسبابه، عن مدى الصعوبة التي تكتنف التعريف حين يقول "الحب –أعزك الله– أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله، عز وجل". يعتقد رون بدوره أنها أصعب مشكلة على الإطلاق. فما وصفه ابن حزم بالمعاني الجليلة المتعذر وصفها أطلق عليها في كتابه اسم "مشكلة الكواليا" أي الكيفيات المحسوسة، التي تتحدى طبيعتها، التعريف المتماسك. وهي من المواضيع المهمة والشائكة في الفلسفة، وتكمن الصعوبة في تفاوت قياس إحساس البشر لأن العقل البشري يفشل تماماً في وصف النكهة والصفات الحسية الأخرى المستخلصة من الأشياء التي توجد فيها. "نعم، تفاحة حمراء، ولكن ما هو الأحمر، ونعم، ضلع مدخن بنكهة الثوم، ولكن حدد لي نكهة الثوم. يمكنك تحديد الاسم، اللون أو النكهة ولكن ليس الخصائص الجوهرية...".
الهجوم من وادي السيليكون
يستجوب رون علم الأعصاب مستنكراً كل النظريات التي قامت بتفسير الحب، منها نظرية المستضد القائلة إن الحب يمكن تمييزه بالرائحة، ونظرية عدم التوافق النسيجي وما تدعيه من أن الانجذاب بين شخصين، هو بالأحرى ناتج من حساسيتهما تجاه رائحة بعينها، مما يجعل ذريتهما أكثر مناعة، لكن أكثر من يزعجه هو شعبية أعمال هيلين فيشر، عالمة الأنثروبولوجيا البيولوجية وكبيرة الباحثين في معهد كينزي، التي ادعت في كتابها "لماذا نحب" الصادر عام 2004، أن الحب الرومانسي ليس عاطفة كما كنا نظن، بل آلية للبقاء. يرد روزنباوم على تأكيد فيشر أن الحب "دافع بيولوجي" بأن هذا "لا يخبرنا شيئاً على وجه التحديد عن الطيف المتنوع والمتباين بمهارة من المشاعر الإنسانية".
فسرت فيتشر الحب كذلك على أنه كيمياء في كتابها "لماذا هو؟ لماذا هي؟" استناداً إلى التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وتحليل سمات الأفراد الممددين على طاولة الفحص، وخلصت إلى أن هناك "أنواعاً كيماوية تحدد من يمكنك أو ينبغي عليك أن تقع في حبه"، في حين يؤكد رون عدم معقولية ذلك، فهو لن يمنحك إلا آثار المواد الكيماوية في القشرة، لكن هل هذا حب؟ كتب يقول "أشعر أن الحب له كرامة أكبر من أن يمدد في المختبر ويعامل كحيوان تجريبي". فهو غير قابل للبحث العلمي، ولا يمكن اختزاله في معادلات كهربائية وكيماوية ورياضية.
هناك ممارسات تسعى أيضاً لتحويل الحب إلى خوارزمية، بإدراج جميع العشاق والباحثين عنه في تكوينات عددية. إن كلمة "رقمي" يتردد صداها كالصفعة على طول الكتاب، ويبدو أنها تشعره بالإهانة وتحفزه على الرد، إذ كيف سولت لهم أنفسهم أن يعيدوا تعريف الأشياء الجميلة والغامضة وفقاً لخوارزميات تحاول أن توفق بين شخصين بناء على تفضيلاتهما. يذهب رون إلى أن تطبيقات المواعدة التي تجلب الشريك لا علاقة لها بإمكان العثور على الحب، بل بإنشاء نظام يستفيد من فكرة حل لغز غير قابل للحل. وبينما يمرر العملاء أو الجمهور المستفيد إلى اليمين واليسار، يتحول لغز الحب من لقاء شخصي إلى تغذية خوارزمية، ويتحول الحب نفسه إلى شيء يباع أو يتم توفيره لنا بدلاً من رعايته، وهو ما يصفه بالهجوم من وادي السيليكون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يحاجي المؤلف إذن كل النظريات والتفسيرات والممارسات الخطأ، لإثبات وجهة نظره، المنطلقة من خبرته الشخصية (77 سنة) كعاشق قديم والتي عرفت الحب كـ"زائل وعرضي ولا يمكن التنبؤ به". إنه كما يقول "نوع من التضافر بين وعيين".
الثلاثية المظلمة
يعتمد الكتاب على مجموعة واسعة من المصادر منها علم الأعصاب وفلسفة أفلاطون وتوماس ناجل، وشعر سافو وشكسبير وييتس ولاركين، وأعمال تشيخوف وليتون ستراشي، من بين مصادر أخرى. في فصل مخصص لليو تولستوي، الذي كتب في أواخر حياته ثلاث روايات تكشف عن ازدرائه الواضح للحب. يطرح رون إبادة الجنس البشري في مقابل الإروتكية. في "الأب سرجيوس" مثلاً، يخبرنا تولستوي أن المرأة التي حاولت إغواء الناسك في أعماق غابة روسية، كادت تنجح، لولا أن تناول فأساً وقطع أحد أصابعه "أسفل المفصل الثاني". وفي رواية "الشيطان"، يحكي عن إيفغني الريفي الثري الذي يعجز عن احتواء هوسه بخادمة داكنة العينين فيهم بإخراج مسدسه، مخيراً نفسه، إما أن يقتل الفتاة التي فتنته عيناها الضاحكتان، أو أن يطلق الرصاصة على رأسه ليحافظ على "شرفه". أما في "سوناتة كرويتزر"، يجد ركاب مقصورة مزدحمة أنفسهم تحت رحمة بايزدنيشف، قاتل زوجته الذي أطلق سراحه بدعوى الجنون، لكنه يصر على القيام برحلة طويلة في قطار لإقناع الركاب بوجهة نظره في تقطيع زوجته الخائنة إرباً. تكشف ثلاثية تولستوي عن الجانب المظلم من شخصية العبقري والقديس وحكيم الرومانسية الروسية، الذي يعرفه قراؤه بروايتيه "الحرب والسلام" 1869 و"آنا كارنينا" 1877. فما سر التحول في الشطر الأخير من حياته؟
على النقيض تظهر صوفيا زوجة تولستوي كمدافعة عن الحب الذي اجتهد زوجها للحط منه. لقد تسببت هذه الثلاثية التي حوت بعضاً من سيرته الذاتية في إحراجها، كتبت في يومياتها تقول: "لا أعرف كيف ولا لماذا ربط الجميع الرواية بحياتنا الزوجية، لكن هذا ما حصل لدى الأقارب والبعيدين، حتى شقيق ليو وصديقه العزيز دياكوف، يشعران بشفقة تجاهي". حينها قررت صوفيا الذود عن نفسها بكتاب عنوانه "من المذنب؟"، بطله كاتب يعاني من هواجس تجاه الجنس ويراه مخزيا، بل ويدعو بكل جدية إلى الموت البطيء بالتزام العفة الكاملة المعادية للجنس.
تذهب الأسطورة القديمة إلى أن الإله زيوس غار من فرط قوة البشر، وحتى يتمكن من إضعافهم، شطرهم نصفين، وعلى نفس الوتيرة خرجت حواء من ضلع آدم في قصة الخلق الأول، ليصبح البحث عن الكمال، أو بالأحرى، الالتئام، معلقاً بالعثور على النصف الآخر. في سياق آخر تفترض الناقدة لورا كيبنيس في كتابها "ضد الحب"، أن "المجتمع العلماني يحتاج إلى كيان ميتافيزيقي آخر ليخضع نفسه له بعد موت الإله، وكان الحب متاحاً لهذه الوظيفة". أياً ما يكن الدافع، فالحب قدر البشر، والشيء الوحيد الذي يمكن للمرء أن يتعلمه أثناء وقوعه فيه، هو مدى قلة ما يعرفه عنه، وهي من أهم النقاط في دفاعه المتحمس عن الحب.