Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سباق بين الفيلسوفين الفرنسي والإيرلندي لتأسيس فكر سياسي تنويري

مونتيسكيو أصدر رسائله الفارسية قبل سويفت بخمس سنوات فهل يعني هذا أن الأخير اقتبسه؟

 مونتيسكيو صاحب "الرسائل الفارسية" وجوناثان سويفت صاحب "رحلات غوليفر" (اندبندنت عربية)

ملخص

مونتيسكيو أصدر رسائله الفارسية قبل سويفت بخمس سنوات فهل يعني هذا أن الأخير اقتبسه؟

على عكس ما قد يوحي به عنوانه، لا بد من أن نشير منذ البداية إلى أن الموضوع الأساس في كتاب "رسائل فارسية" للمفكر التنويري الفرنسي مونتيسكيو (1689 – 1755) يتعلق مباشرة بقضايا السياسة والحكم "الديمقراطي" للشعوب في فرنسا وأوروبا نفسها، وكذلك على عكس الصورة التي قد ترسخ في بال القارئ المتسرع لرواية الكاتب الإيرلندي جوناثان سويفت (1667 – 1745) "رحلات غوليفير"، من المؤكد أننا هنا أمام عمل يتناول ذلك الموضوع السياسي نفسه حتى وإن ارتدت هذه الرواية "الترفيهية" طابع القص الغرائبي المسلي قبل أن يتنبه القارئ إلى البعد الفكري الذي تتناوله، ولعل اللافت في العملين أنهما صدرا في وقت واحد تقريباً مع فارق خمس سنوات يمكن القول دون مواربة أنه جاء في صالح مونتيسكيو الذي أصدر كتابه في عام 1721، فيما لن يصدر كتاب سويفت إلا في عام 1726. وحتى لئن كان الكتابان يختلفان عن بعضهما بعضاً في النوعية الأدبية وفي مقدار ما في كل منهما من قدرة على الترفيه إلى درجة أنه يحدث غالباً أن تعتبر رواية الإيرلندي رواية للصغار فيما يعتبر كتاب الفرنسي في رسائله الخلاقة، كتاباً سياسياً – أخلاقياً، لئن كانا كذلك فإن المؤرخين دأبوا منذ زمن بعيد على الربط بينهما اعتباراً لكونهما يؤسسان لفكر سياسي موارب في الحالتين هدفه تنويري قبل كل شيء آخر.

من أبناء العصر

ومع ذلك لم يقل أحد من هؤلاء المؤرخين إن المتأخر بينهما (سويفت) قد نهل من السابق (مونتيسكيو) بل كادوا دائماً يجمعون على أن الإثنين كانا من أبناء عصرهما وتحديداً من أبناء تلك الفورة السياسية – الفكرية التي لعل أهم ما حققته كان الشروع في التمهيد لولادة ذلك الفكر التنويري الذي ساد أوروبا حينها وأوصلها إلى اندلاع الثورة الفرنسية التي ستبدل من ذهنيات العالم وأفكاره، على رغم كل ما يكون قد رافقها وتلاها من الموبقات وضروب الإرهاب. وبالطبع ليس تحليل هذا الأمر وتبريره أو حتى تفسيره هو ما يهمنا هنا، ما يهمنا هو المقارنة بين عملين فكريين يزداد اكتشاف النقاد والمؤرخين للتشابهات بينهما وإن كان كل منهما يعبر عن موضوعه بشكل مختلف (يمتلئ أحياناً بتناقضات غير متوقعة). ففي نهاية الأمر نحن هنا أمام كاتبين يحاول كل منهما أن يقوم بدوره الفكري كما يحفزه فكره وموهبته وظروف بلاده.

مشكلة الكتاب الأول

منذ البداية لا بد من الإشارة إلى أن "رسائل فارسية" كان الكتاب الأول الذي وضعه مونتيسكيو الذي كان حينها عضواً في برلمان بوردو في الغرب الفرنسي، يسير بخطوات حثيثة لنشر نوع من التفكير النقدي السياسي في تلك المنطقة من العالم، وهو استخدم أسلوب أدب الرسائل للوصول إلى ذلك كما سنرى بعد قليل، أما سويفت فقد اتبع وقد سبقه إلى ما يشبه ذلك الإنجليزي دانيال ديفو في روايته الرائدة "روبنسون كروزو" أسلوب أدب الرحلات الذي كان مرغوباً حينها فكتب "رحلات غوليفر" على خطى عشرات من كتب الرحلات الكبرى التي كانت رائجة في ذلك الحين ومنذ تم "اكتشاف" القارة الأميركية وانفتح العالم على بعضه بعضاً. وما لدينا هنا نصان كبيران مؤسسان يتبع كل منهما أسلوباً أدبياً خاصاً به لكنه "على الموضة" في الحالتين، ولكن، وفي الحالتين أيضاً، كي يقدم فلسفة سياسية وأخلاقية همها البحث عن نمط حكم جديد يساير التطور الجغرافي والسياسي والفكري الذي كانت البشرية تعيشه. والحقيقة أنه على رغم ضروب التماثل في الإطار العام بين المشروعين والنوايا التي تكاد تكون مشتركة، قد لا يكون من المبالغة القول إن كلاً من المفكرين ينطلق من فلسفة خاصة به وإن كان الاثنان يصلان في نهاية الأمر إلى غاية واحدة. ولنبدأ هنا من الفرنسي الذي صدر كتابه أولاً.

رسائل لرحلة استطلاعية

فـ"رسائل فارسية" هي عبارة عن مجموعة من الرسائل يفترض الكاتب أن زائرين أتيا من فارس إلى باريس في رحلة استطلاعية، كتباها وأرسلاها إلى ذويهما في الوطن، يصفان فيها تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية في فرنسا عبر مقارنة ما "عندهم" بما "عندنا" – ولنلاحظ هنا أن ذلك هو النمط الذي سيتبعه المفكر المصري الطهطاوي حين كتب، بعد قرن ونيف من ذلك، نصه الأشهر" تخليص الإبريز في تلخيص باريس"، الذي يفرد على أية حال صفحات كثيرة فيه للحديث عن مونتيسكيو نفسه، لا سيما كتابه "روح الشرائع" دون أن يأتي على ذكر "رسائل فارسية"... غير أن هذا أمر لا يهمنا كثيراً هنا بالطبع!. ما يهمنا محصور في العلاقة بين كتاب الفرنسي وكتاب الإيرلندي من ناحية كونهما معاً، نصان أساسيان في الحكم وفلسفته. وبالنسبة إلى "رسائل فارسية" يمكننا أن نرصد تلك الفكرانية في عدد كبير من "الرسائل" التي يمكن أن نقول إن من بين أهمها، على سبيل المثال، التصوير الدقيق لمؤسسات الحكم الملكي الفرنسي، ومنها الرسالتان 24 و37 حول حياة الملك وحكمه بشكل خاص، والرسالة 29 حول مختلف أنماط الحكومات وتلك الخامسة والأربعين حول القضاء والقوانين والعدالة، والرسالة 29 حول الصراعات الدينية والعلاقة بين البابوية وفرنسا... الخ. ولعل ما يمكن ملاحظته هنا هو كيف أن تلك النظرة "الفارسية" تبدي انتقاداً ربما يكون عنيفاً في جوهره لتلك المؤسسات الفرنسية، متحدثة في المقابل عن ضرورة بل حتمية استبدالها بمؤسسات أكثر عدلاً وأقل تعسفاً (ولنفتح هلالين هنا لنذكر أن مونتيسكيو سيتبدى بعد صدور كتابه، من الإنصاف بحيث أنه ما إن انتقد الكتاب رسمياً حتى استقال من مناصبه الحكومية والتشريعية وانصرف إلى الكتابة...).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غايتان متشابهتان ولكن...

 الحقيقة أن انتقادات جوناثان سويفت للمؤسسات الرسمية في إنجلترا لم تكن في كتابه "رحلات غوليفير" أقل حدة، وهو هنا أتى كذلك، بالأسوب نفسه الموارب الذي نجده من خلال التوصيف الذي سيخص به الكاتب رحلات بطله المتنقلة من مكان إلى مكان في عوالم تلك الحقبة الزمنية، حيث نجد ذلك البطل يطل على ما يحدث في موطنه الأصلي ولكن من خلال ما يرصده من أساليب حكم في حياة المؤسسات الرسمية والاجتماعية، من خلال ما يرصده في شبيهتها في تلك البلدان الغريبة، ويقيناً أن الغايتين، غاية المفكر الفرنسي، وغاية المفكر الإيرلندي، قد تبدوان في نهاية المطاف متشابهتين، ولكن ليس إلى حد التطابق بالفعل، وهذا على الأقل ما يؤكده الباحث المعاصر أنطوني دانيلز الذي كتب نصاً لافتاً في المقارنة بين الكتابين استهلها بعبارة للمفكر روبرت برنز تكاد تفسر أهمية الكتابين معاً وفحواها أنه "إن حدث يوما أن قوة كونية ما  منحتنا قدرة أن نرى أنفسنا كما يرانا الآخرون، لا شك أن ذلك سيحررنا من الأوهام والأفكار المسبقة الحمقاء". ومهما يكن من أمر هنا، لا يفوت  دانيلز أن يختتم مقالته تلك التي نشير إليها قائلاً إن ثمة "في نهاية الأمر فرقاً أساسياً بين مونتيسكيو وسويفت يكمن في المجال الذي يتناول به كل منهما تلك التماثلات والحماقات وضروب العبث التي يرصدها في مجاله، إذ إن الفرنسي يرى أن وجود تلك المساوئ والهنات في السلوك البشري المرصود في "الرسائل" لا يمكن أن يكون قدرياً محتماً، بالتالي يمكن لمرور الزمن أن يحدث فيها تغييراً جذرياً، أما بالنسبة إلى زميله الإيرلندي فإنها إنما تشكل جزءاً أساسياً من الطبيعة البشرية نفسها، بالتالي ليس ثمة أي مجال لإصلاحها حتى وإن كان ثمة ألف طريقة وطريقة لتفاديها"!

ومهما يكن من أمر، في نهاية المطاف، فإن المؤكد بالنسبة إلى دانيلز على الأقل هو أنه "إذا عاد مونتيسكيو اليوم إلى عالمنا، لا شك سوف يكتب نصاً مختلفاً تماماً عن الرسائل، أما إذا عاد سويفت فـ"لا شك أنه سيعيد كتابة رحلاته كما هي وذلك بكل بسلطة لأن عيوبنا وحماقاتنا لا تزال هي هي كما كانت في الأمس لن تتغير ولم تتبدل".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة