ملخص
يرى متابعون أن الأغنية الوطنية التي قدمت بصدق وبنية خالصة تعيش وتبقى وتتوارثها الأجيال
بدأ ظهور الأغنيات الوطنية منذ عصور عدة، وفي العالم العربي تحديداً، كانت في بدايات القرن الـ20، إذ ظهر عدد من رواد هذه الأعمال التي خاطبت الجماهير وهي تحت الاحتلال، مثل أغنيات سيد درويش في مصر، الذي غنى في عام 1919 أغنية "قوم يا مصري".
وفي عامي 1946 و1947 شهدت الأمة أحداثاً جساماً مثل أحداث فلسطين ودمشق، حتى بدأ عصر الثورة التي حققت كثيراً من الإنجازات مثل السد العالي، فظهرت مجموعة أغانٍ مثل "خمس فدادين" التي غنتها المجموعات الغنائية.
كما لا يخفى على أحد أن كثيراً من المطربين الذين لم يقدموا أنفسهم كمطربين وطنيين تحمسوا لغناء أغنيات وطنية، مثل العندليب الراحل عبدالحليم حافظ وأم كلثوم التي كان لها عديد من الأعمال الوطنية، والتي أعطت من خلالها الحماس للجماهير العربية، ومثلها حصل في لبنان مع "الأخوين الرحباني" ومن عاصرهما.
ومع مرور الزمن، تغير مفهوم الأغنية الوطينة، وأصبحت موسمية وملاحقة لأحداث معينة، وانتشارها لا يستمر إلا لأسابيع قليلة. أما السؤال الذي يطرح نفسه فهو: هل ما زالت الأغنية الوطنية فعالة ولها تأثير في وجدان الشعوب؟
الأغنية الوطنية في مصر
الناقد الموسيقي المصري أحمد السماحي يروي لـ"اندبندنت عربية" تاريخ الأغنية الوطنية في مصر، ويقول إن "مرت بمراحل عدة عبر تاريخها الفني، حيث ازدهرت في الثورات والحروب، وخفت صوتها في أيام السلم والاستقرار، فالمتابع لتاريخ الأغنية الوطنية يجد أنها لم تكن موجودة في مصر قبل ثورة 1919، حيث كان الغناء المصري محصوراً في هذا الوقت على الترفيه والتسلية، لا أكثر".
ويضيف السماحي "لكن مع اندلاع ثورة 1919 لعب الغناء دوراً مهماً لأول مرة في تاريخه، فكانت ثورة 1919 بعثاً جديداً للعزيمة والإرادة المصرية التي لا تهز أبداً، وقد خاض الفن والفنانون هذه المعارك، وانطلق الفن والغناء متحدياً أسلحة الاحتلال، وانتفض الشعب معه بسبب الفن ضد الاحتلال من أجل حياة جديدة فاضلة وكريمة".
ويوضح "لم يأخذ انفعال الشعب شكل التظاهرات فقط، ولا شكل الصراع المسلح، لكن الشعب كان يغني في هذه التظاهرات وكل الاجتماعات، وكان ملحن هذه الانتفاضة الغنائية الراحل سيد درويش الذي كان يلتقط ألحانه الحقيقية من واقع الناس المنفعلة الثائرة، ويحمل عوده ويركب (حنطوراً) ويقود التظاهرات بهذا العود، حيث كان يعزف ويغني والناس من ورائه يرددون ما يغنيه".
ويسترسل السماحي في سرد تفاصيل تاريخ الأغنية الوطنية في مصر، إذ يقول "في الليل كان الفنان الراحل نجيب الريحاني من خلال أعماله المسرحية التي كتبها بديع خيري، ولحنها سيد درويش، مثل (قولوله) و(انس) و(ولو) و(رن ديسمبر)، وغيرها، تشعل الثورة وتغذي الوعي لدى الجماهير، واستطاع الشعب أن يلتقط من أغنيات هذه الاستعراضات مادة تاريخية حية".
ويؤكد أنه بعد ثورة 1919 ظلت الأغنية الوطنية موجودة، لكن على استحياء، وخفت صوتها حتى قامت ثورة 1952، وبعد إذاعة بيان ثورة 23 يوليو (تموز) في تلك السنة، تلقى الشعب الخبر بسعادة بالغة، وهرع كثير من المطربين إلى الإذاعة يغنون للجيش ورئيس الحركة المباركة محمد نجيب، وحمل كثير من أغنيات الأيام الأولى للثورة اسم "العهد الجديد" وكان روادها لور دكاش وشافية أحمد وإبراهيم الحجار وفايدة كامل وعبدالحليم حافظ، وغيرهم.
ويتابع السماحي أن من الأغنيات الوطنية المهمة التي وصلت بكل سلاسة إلى الشعب وأحيت الحس الوطني فيه "نشيد التحرير"، وهو مأخوذ من أول شعارات ثورة يوليو، وتغنت به ليلى مراد ومحمد قنديل. وفي الخمسينيات والستينيات توالت أغنيات القومية العربية، وعندما حدث العبور العظيم في عام 1973، ردد الشارع المصري أغنية "بسم الله الله أكبر بسم الله" و"أنا على الربابة" و"عبرنا الهزيمة" و"يا مصر يا عظمة".
ويواصل "استمرت ثورة الأغنيات والأناشيد الوطنية على مدى السنين والأحداث، لكنها تحولت في عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك، وعلى مدى 30 عاماً، إلى أغنية مناسبات تذاع بتكليف رسمي من وزارة الثقافة والإعلام، بالتالي فقدت الأغنية الوطنية دورها، ولم يعد يسعد بها رجل الشارع العادي، لكنها صحت من كبوتها مع أحداث يناير عام 2012، حيث استعاد الشارع المصري موروثه من الغناء الوطني. وفي الثالث من يوليو 2013، كان الملايين يغنون (تسلم الأيادي)، وتوالت بعدها أغاني الفرحة والنصر التي أشعلت الشارع المصري وعبرت عن آرائه".
ويستكمل السماحي "على رغم أن الساحة الغنائية أفرزت منذ قيام أحداث يناير 25 وثورة 30 يونيو عدداً كبيراً من الأغنيات الوطنية العربية أكثر مما تم تقديمه بهذه الكثافة على مر تاريخ الغناء المصري، فإن كثيراً منها جاء دون المستوى، حيث إن لدى كثر من المغنين والمطربين الحاليين اعتقاداً خاطئاً بأن الأغنية الوطنية لا تعيش، وأنها أغنية اليوم الواحد، وعلى الأكثر تعيش أسبوعاً ثم تندثر، لكن الحقيقة أن الأحداث التي مرت على مصر في السنوات الأخيرة، وبخاصة منذ عام 2011، أثبتت أن الأغنية الوطنية التي قدمت بصدق وبنية خالصة تعيش وتبقى وتتوارثها الأجيال".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأغنية الوطنية في لبنان
أما للحديث عن تاريخ الأغنية الوطنية في لبنان، فكان لا بد أن نسأل الشاعر نزار فرنسيس الذي يعد أحد رواد الأغنية الوطنية في التسعينيات، فقال إن "الأغنية الوطنية أو الحماسية في لبنان قديمة العهد، وكانت في البداية مختصرة على المرجلة والحماس، وتستعمل لشد العصب وتحفيز المقاتلين من أيام الخيالة وليس الجيوش المنظمة منذ عهد الأمير فخر الدين المعني وما قبله، وكان يطلق عليها اسم (الحدا والحوربة)، وبعد ذلك تم استعمالها وأصبحت من الفولكلور، وقدمها الأخوان الرحباني في مسرحية (فخر الدين) لما كان المحاربون في معركة عنجر، وحينها قالوا (يا مهارة العلايلي فرسانك حاضرين)". وأضاف أن "هذا النوع من الحوربة يعود لمئات السنين، ويصنف في خانة أغاني الانتماء والتحفيز".
أما عندما سألنا متى تطورت الأغنية الوطنية اللبنانية؟ فأكد فرنسيس أنه "عندما حصل لبنان على استقلاله تبدلت المعطيات، بدءاً من النشيد الوطني اللبناني، وهو نشيد الانتماء الذي كتبه رشيد نخله ولحنه وديع صبرا، وأصبح النشيد الرسمي، ومن ثم تلاه كثير من الأغنيات التي دعت إلى الحماس والتعاضد والتكاتف من أجل الأرض والوطن".
وتابع نزار فرنسيس كلامه عن مرحلة دخول "الأخوين الرحباني" إلى الساحة الفنية في الخمسينيات، فقال "أدخل الأخوان الرحباني الشعبية إلى الأغنية الوطنية التي صاغوها بطريقة جديدة، وأحدثوا فيها نقطة تحول أساسية، وانتقلت من الفولكلور والحوربة التي كانت تعنى بنوع من الزجل مليء بالكلام الوطني. وهنا أصبح للأغنية اللبنانية أركانها وأسسها بفضلهما وبفضل من عاصرهما".
وأضاف "لا أريد أن أنسى مرحلة الأخوين فليفل اللذين كان لهما بصمة كبيرة بالأناشيد الوطنية اللبنانية والعربية، التي ملأت الدنيا. أما الرحابنة فقد صنعوا أغنيات وطنية مختلفة، كلماتها تغنت بحب الأرض وأهميتها، وكانت سلسة وشعبية بعيدة عن النشيد العسكري، كما أن الراحل الكبير زكي ناصيف كانت له محطات كثيرة بالأعمال الوطنية، ومثله إيلي شويري ووديع الصافي، كلهم قدموا أعمالاً ترسخت في ذاكرة كل لبناني لديه انتماء وشغف بحب أرضه". وأشار إلى أن "هذه الأغنيات كانت تنتج دون سبب أو مناسبة، ولم يكن صناعها ينتظرون أزمة، أو مدافع، أو حرباً حتى يتذكروا واجبهم تجاه بلدهم، فالعنوان الكبير كان حب الأرض".
وعن مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية التي أنتجت عديداً من الأغنيات الوطنية، أكد نزار فرنسيس أن "مثل هذه الأغنيات لم تكن جامعة الوطن، بل كانت متقوقعة في زوايا الفئات والأحزاب والمناطقية، وكان ذلك أمراً مؤسفاً".
أما عن الفترة التي بدأ فيها هو كشاعر في أوائل التسعينيات فقال "بقيت حريصاً على الأعمال التي تجمع على حب الوطن البعيدة عن الفئوية والحزبية، وأنا أدعو جميع المطربين إلى تقديم مثل هذه الأعمال لأنها الأبقى".