ملخص
ورشات العمل التشكيلي تقدم مساحات حرة لتجاوز القواعد
مؤسسة "مدرار" هي إحدى المؤسسات المصرية المستقلة والمعنية بعرض أساليب الفنون المعاصرة واستكشافها. تقدم "مدرار" العديد من الأنشطة الفنية، إذ يتسع فضاؤها للعروض وتجارب الفوتوغرافيا والفيديو، وغيرها من أساليب التعبير البصري. وتأتي الورش الفنية من بين أهم الأنشطة المقدمة فيها، وهي تمثل تجارب مكثفة لنقل الخبرة والمهارة أو مشاركتهما مع آخرين، كما تتيح مجالاً لتبادل الأفكار والعمل والتفكير جماعياً.
بين هذه الورش التي تنظمها "مدرار" تبرز هذه الورشة التي يشرف عليها الفنان هاني راشد للعام الخامس، وتقام تحت عنوان "مكتب نعيمة ينزف". عنوان لافت ومثير بالطبع لورشة عمل فنية، يحمل إيحاءً ساخراً، لكنه يعكس كذلك الأفكار التي تعتمد عليها هذه الورشة وأجواء الارتجال التي تميزها. لعل الطريقة التي تم بها اختيار هذا العنوان قد تسهل علينا فهم طبيعتها. ففي إحدى الجلسات التي كان يتم خلالها تدارس أهداف الورشة وقواعدها قبل انطلاق دورتها الأولى- والكلام هنا على لسان الفنان هاني راشد- انسكب كوب ملىء باللون الأحمر فوق أحد المكاتب. ولأن المكتب كان يحمل بين محتوياته صورة فوتوغرافية للفنانة نعيمة عاكف، فقد بادرأحدهم بهذه العبارة التي اعتُمدت كعنوان "مكتب نعيمة ينزف".
الورشة التي تنظم في مقر "مدرار" بوسط القاهرة أفضت كسابقاتها إلى معرض يضم نتاجها من أعمال فنية. على جدران مساحة العرض رُصّت هذه الأعمال بعضها إلى جوار بعض، في استقامة تتخلل فراغات المكان وانحناءات جدرانه. عشرات من الصور المعالجة بالرسم والتلوين وأسلوب القص واللصق والحذف والتوليف. تعكس الصور والمعالجات التي صيغت بها هذه الأعمال اختلافات وفروقاً واضحة بحكم اختلاف المشاركين وتعددهم. ضمت الورشة مشاركين مختلفي الأعمار، وكذلك خريجين ودارسين وهواة، وممارسين للفن أيضاً.
وسائل التواصل
في هذه الورش غالباً ما يستلهم المشاركون أعمالهم من وسائط حية ومعاصرة، كوسائل التواصل الاجتماعي وصور المجلات أو الإعلانات وغيرها. هذه المرة تبدو منصة تيك توك حاضرة، فهي وسيلة للبحث عن تأثيرات بصرية متباينة ومؤثرة. بعض المشاركين لم يختبروا هذه المنصة من قبل، لذا فقد مثلت لبعضهم اكتشافاً جديداً ومثيراً. يجمع المحتوى البصري لمنصات التواصل الاجتماعي طيفاً متبايناً من الصور والمقاطع الساخرة، وغيرها من العناصر المتناقضة، مما يتيح مجالاً للانتقاء والنقاش والتعاطي مع هذا المحتوى بأشكال مختلفة.
كان على المشاركين في هذه الورشة انتقاء عناصرهم من بين هذا المحتوى المتنوع لخلق مساحة بصرية متناسقة. يمكن أن يجمع العمل الواحد بين أكثر من عنصر، كما يمكن للمشارك ابتكار عناصره الخاصة المستلهمة من هذا المزيج، للخروج في النهاية بمحتوى بصري يصلح للعرض. متعة الخلق والابتكار هنا تفرض أجواءً من الحماسة، إلى جانب الدور الملهم الذي يقوم به الفنان هاني راشد، بأسلوبه الباحث عن مسارات جديدة ومختلفة للإلهام البصري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا تمثل هذه الورش بديلاً للسياقات المؤسسية المعنية بدراسة الفن ومهاراته الأساسية ولا تقارع دورها، غير أن لها أهمية لا يمكن إنكارها. قد تتبنى هذه الورش الأساليب والأدوات نفسها التي تعتمدها هذه المؤسسات ذات الطابع الأكاديمي، لكنها قد تتيح مجالاً أرحب للخروج عن القواعد. وهو أمر في غاية الصعوبة بلا شك، خاصة إذا ما تعلق الأمر بطلبة الفنون أو من انخرطوا من قبل في ممارسات أكاديمية. في ورشة "مكتب نعيمة ينزف" يتخلى المشاركون عن هذه الأفكار والقواعد المسبقة في ممارسة الفن، والبحث عن حلول جديدة ومصادر إلهام قد لا تبدو مألوفة، لكنها في الواقع أكثر ارتباطاً وقرباً للمشاركين مما نتصور، فالصور المتدفقة عبر منصات التواصل مؤثرة وذات جاذبية، وهي أكثر التصاقاً بذاكرتنا البصرية، أو هي التي تشكل اليوم هذه الذاكرة على نحو أوضح.
ينعطف بنا هذا النهج بالطبع إلى قضية أخرى أكثر إشكالية لها علاقة بطبيعة الفن، هذا السلوك الإبداعي الذي ينظر إليه البعض كممارسة جمالية بالدرجة الأولى. مثل هذه الورش المنفتحة على سياقات جديدة تتجاوز هذا المفهوم أيضاً في اعتمادها منظوراً آخر أكثر معاصرة، وهو منظور يتعامل مع الفن كآداة للتعبير وطرح التساؤلات. ربما لهذا وقع الاختيار على ذلك الوجه الذي يحمله الملصق الدعائي للمعرض كتيمة بصرية، وهو وجه غير متقن، كما يقول الفنان هاني راشد، كأنه يقارع فكرة الجمال التقليدية أو يعاندها.