Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما الأفلام التي ستبقى من مسابقة مهرجان "كان"؟

أعمال بين الماضي والحاضر بأبعاد اجتماعية وسياسية ونفسية تتأمل في عالمنا من بقع جغرافية ومفاهيم متعددة

من الفيلم السنغالي"بانيل وأداما" الأول لمخرجته في مسابقة المهرجان (ملف الفيلم)

ملخص

أعمال بين الماضي والحاضر بأبعاد اجتماعية وسياسية ونفسية تتأمل في عالمنا من بقع جغرافية ومفاهيم متعددة

ختام مهرجان "كان" السينمائي بعد 12 يوماً من المشاهدة النهمة، لا يعني نهايته. الحديث عنه متواصل في أشكال مختلفة. المهرجان حاضر طوال العام عبر الأعمال التي اختارها، سواء تلك التي كان من البديهي أن يختارها أو التي نبشها واكتشفها في أماكن مختلفة من العالم. الأفلام التي تجاوز عددها الـ100 في الدورة السادسة والسبعين (16 - 27 مايو/ أيار)، ستخرج تباعاً في الصالات التجارية أو تشارك في المهرجانات حول العالم على مدى الأشهر المقبلة، وستكون حديث الإعلام والمشاهدين. بعض تلك الأفلام ستُعرض على نطاق ضيق نظراً إلى طابعها الفني، فيما سيحظى بعضها الآخر بتوزيع أوسع. 

وفي الصالات التجارية، قوانين وأحكام ليست هي نفسها المعتمدة في المهرجان. بمعنى أن الفيلم الذي يحمله الإعلام وأهل الاختصاص على الراحات، لا يتعامل معه الجمهور بالحماسة نفسها عند وصوله إليه، والعكس صحيح. أفلام كثيرة نالت أرفع الجوائز في "كان"، وكان نصيبها التجاهل - كي لا أقول الفشل - عند نزولها إلى الصالات التجارية. في العقود الثلاثة الأخيرة، تراجع الاقبال على الأفلام الفائزة بـ"السعفة الذهبية". آخر فيلم "مُسعَّف" حقق إيرادات عالية في شباك التذاكر الفرنسية كان "بالب فيكشن" لكوانتن تارانتينو في عام 1994.

21 فيلماً عُرضت هذا العام في مسابقة "كان"، فيها اتجاهات سينمائية مختلفة مع حضور قوي لـ"سينما المؤلف" وغياب شبه تام للأنواع الفيلمية. أفلام تتجول بين الماضي والحاضر، وبين الاجتماعي والسياسي والعاطفي والنفسي، للتأمل في عالمنا من بقع جغرافية وأزمنة ومفاهيم متعددة. هذه الدورة طغت أيضاً عليها تيمة الشباب، من خلال عدد من الشخصيات التي كتب السينمائيون داخلها هواجسهم وتطلعاتهم المستقبلية. السينما الشاعرية الحساسة الرقيقة وجدت مكاناً لها وسط أعمال أكثر عنفاً وقسوةً وتطرفاً، في حين عانقت السينما الملتزمة قضية الإنسان وصعوبة عيشه في عالم متأزم، نظيرتها الأكثر اهتماماً بالشكل على حساب المضمون. في النهاية، وضعتنا المسابقة أمام 21 رؤية مختلفة للعالم.   

أجيال متعددة

حملت هذه الأفلام تواقيع فنانين وفنانات من مختلف الأجيال. المخرج البريطاني كن لوتش، 86 سنة، كان أكبر المشاركين في المسابقة، أما أصغرهم سناً فهي الفرنكو سنغالية راماتا تولايي سي ابنة الـ35 سنة التي صعدت إلى المسابقة بفيلمها الروائي الطويل الأول. أحدهم كتب أن المخرجة السنغالية لم تكن قد ولدت بعد، عندما كان لوتش سينمائياً مكرساً، وهذا صحيح. فالمهرجان، هو، من بين أشياء كثيرة، منصّة لاطلاق المواهب الفتية. يصعب إحصاء عدد السينمائيين والسينمائيات الذين انطلقوا من هنا، بخطوات خجولة ولكن واثقة، قبل أن يعودوا مراراً إلى "كان". 

ذكر عناوين هذه الأفلام قبل مشاهدتها، وهي لا تزال حبراً على ورق، ضمن مقالات تعرض ما ينتظرنا على الكروازيت، يختلف عن ذكرها بعد المشاهدة. علاقة الناقد بها تختلف جذرياً. قبل انعقاد المهرجان، عناوين الأفلام ليست سوى حروف على شاشة كمبيوتر أو أسماء تفتح الشهية وتحض على الانتظار. أما بعد الانعقاد، فهي قصص ووجوه وتفاصيل درامية وموسيقى ولمسات إخراجية، بعضها سيصمد في الذاكرة وبعضها الآخر سيسقط منها بأسرع وقت.

يصعب إعطاء تقييم شامل للدورة. لا يوجد صحافي أو ناقد يستطيع أن يدّعي أنه شاهد كل الأعمال المعروضة في الأقسام كافة، خلال فترة لا تتعدى الـ12 يوماً. لذلك فإن تقييم الدورة بمجملها فور انتهائها، بتعابير مختزلة ومستهلكة من نوع "دورة مخيبة للآمال"، عمل غير مهني وغير جاد، خصوصاً إذا كان الرأي انفعالياً وشديد السلبية ويبتعد عن التحليل مكتفياً بالأوصاف. لكن، من الممكن الإتيان بتقييم نهائي شامل بعد مشاهدة كل الأفلام، وهذا يتطلّب بضعة أشهر من التجوال في المهرجانات التي تستعيد أفلام مهرجان "كان" لعرضها على جمهورها. ما فاتنا في "كان"، تتيح لنا مهرجانات أخرى اللحاق به.

في المقابل، تقييم المسابقة عملية ممكنة وسهلة، للعدد المحدود من الأفلام التي تنطوي عليها. تكفي مشاهدة فيلمين كل يوم على مدار أيام المهرجان. وهذا ما يفعله معظمنا في أي حال. المسابقة أولوية لكل ناقد يراسل جريدته الورقية أو موقعه الإلكتروني، فهي قلب التشكيلة ولا يمكن تجاهلها، تجذب الأسماء الكبيرة من تلك التي ينتظرها هواة الفن السابع. لكن، المسابقة التي تخضع لاعتبارات معقدة ليست دائماً فنية، لا تتضمن بالضرورة أفضل الأعمال المعروضة في المهرجان. أفلام من أقسام أخرى، كـ"نظرة ما" أو "أسبوعا السينمائيين والسينمائيات" أو "أسبوع النقاد" نعثر فيها دائماً على جواهر وأعمال طموحة وبدايات متألقة. 

إعجاب وهجوم

ما يقارب نصف أفلام المسابقة نالت هذا العام الإعجاب. وهذا يعني أن النصف الثاني تعرض للهجوم الذي تراوحت درجاته بين معتدل وعنيف. لنبدأ بالأسوأ: "ذباب أسود" للفرنسي جان ستيفان سوفير، وهو من الأفلام التي أضيفت لاحقاً إلى المسابقة، أكثر فيلم أزعجني في دورة هذا العام. الفيلم عن مسعفين في ليل نيويورك المملوء بالعنف، من تمثيل شون بن الذي مُرِّغ أحد أفلامه السابقة، "الوجه الأخير"، في وحول "كان". مجلة "تيليراما" نشرت عن الفيلم مقالاً سلبياً معنونة إياه بـ"عذراً، سنطلق النار على سيارة الإسعاف"! 

أفلام أخرى لم تحدث صدى إيجابياً: "العودة" للفرنسية كاترين كورسيني الذي يعيدها إلى جذورها الكورسيكية، وهو مستوحى من زيارة قامت بها إلى الجزيرة على غرار الشخصيات، عندما كانت في الخامسة عشرة. الفيلم واكبه جدال في ما يتعلّق بظروف التصوير وطاولت المخرجة اتهامات بالتحرش الجنسي، الأمر الذي أثّر سلباً على الاهتمام بالفيلم على المستوى الإعلامي. 

"نادي صفر" للنمسوية جيسيكا هاوزنر هو الآخر لم يكن من الأفلام المحبوبة لدى النقاد. الفيلم هجاء لتوتاليتارية النظام الغذائي وهوس الحمية المفروضة على الشباب بحجة الحفاظ على صحتهم وصحة الكوكب. تجري الأحداث داخل مدرسة لأولاد الأثرياء، حيث بعض الطلاب يقعون في شباك السيدة نوفاك، المدرّسة، خبيرة التغذية، التي تعتمد منهجاً "ثورياً" أطلقت عليه "التغذية المسؤولة". الفيلم من النوع الذي يسعى إلى إثارة الجدال، لكونه يعالج مواضيع تحمل اتجاهين من التفكير، إلا أن المأخذ الأكبر على هاوزنر هو سخريتها من الشخصيات. 

"مدينة أسترويد" للأميركي وس أندرسون مر بلا أثر. بأسلوبه المعتاد، الخالي من كل محاولة لخلق انفعالات عند المتلقي، حملنا المخرج إلى مدينة صغيرة في أريزونا، مستخدماً عدداً من أشهر نجوم السينما الأميركية. ولكن كما قالت مجلة "بروميير"، فالسينما التي أصبح أندرسون ينجزها، "محصورة في بعض الهواجس وتدور في الفراغ". في حين كتبت "ليبراسيون" أن "الحكايات التي يسردها أندرسون ما عادت تصلح إلا لسد جوعه الخاص". 

"بنات ألفة" للتونسية كوثر بن هنية، الفيلم العربي الوحيد داخل المسابقة، لم يكن في مستوى بعض الأفلام الكبيرة التي نافسته. قصة أم انضمت اثنتان من بناتها الأربع إلى تنظيم "داعش" الإرهابي. ولسرد القصة، لا تسلك بن هنية أسهل الطرق. لمَ السهولة عندما في مقدورنا توظيف الصعوبة، علماً أن الفكرة الأولى للمخرجة كانت أن تنجز فيلماً أكثر تقليدية، قبل أن تفشل في ذلك. الفيلم مزيج من الروائي والوثائقي، ومن العام والخاص، لكن الخلطة المفتعلة لم تقنع كثيرين.

فيلم آخر ينتمي إلى النوع الوثائقي، "شباب (ربيع)" للصيني وانغ بينغ، انقسمت حوله الآراء، بين قلة رأت فيه أهلاً لـ"السعفة"، وأكثرية أثار الفيلم شخيرهم وهم يشاهدون الدقائق الـ212 التي يستهلكها الفيلم ليصوّر عمالاً صينيين في معامل الخياطة، في محاولة لتسجيل موقف من قضية استغلال اليد العاملة الرخيصة في بلاده في ظلّ الرأسمالية. 

آراء متناقضة

"فايربراند" للبرازيلي الجزائري الأصل كريم عينوز نال أيضاً نصيبه من النقد. الفيلم قصة كاثرين بار الزوجة السادسة والأخيرة من زوجات الملك هنري الثامن. ثريللر سياسي ذو طابع نسوي يحشر شخصياته في البارانويا. نظراً للمصير الأسود الذي نالته الزوجات السابقات للملك، ثمة خطر يحدق بها. يعيد عينوز قراءة شخصيات تاريخية في ضوء المفاهيم الحديثة، لكن النتيجة لم تحمّس كثيرين. 

"شمس المستقبل" للإيطلي ناني موريتّي، أعطانا أقل ممّا كنا متوقعين منه، خصوصاً أن إيطاليين من الذين كانوا شاهدوه قبل الوصول إلى كان (الفيلم بدأت عروضه في الصالات الإيطالية)، جعلونا نرفع من سقف التوقعات بسبب كلامهم الإيجابي عنه. ولكن تبين أن موريتّي، بتركيزه المفرط على نفسه، يدور في فراغ كبير منذ بضعة أفلام، على نحو يبدو أنه فقد إلهامه. الفيلم عن مخرج يحاول إنجاز دراما تاريخية عن الحزب الشيوعي الإيطالي وانشقاقه عن الاتحاد السوفياتي أثناء الثورة المجرية، لكن الأمور تفلت من يده تدريجاً. موريتّي يأخذها حجة للحديث عن إيطاليا الحالية تحت سلطة اليمين. مواطنه ماركو بيللوكيو، ثاني أكبر المخرجين سناً في المسابقة، عرض "رابيتو" عن اختطاف الكنيسة لطفل يهودي في القرن التاسع عشر، بناءً على طلب من البابا لجعله يعتنق الديانة المسيحية. كل شيء متقن الصنع في هذا الفيلم الباروكي، وفي مقدمه الإخراج، ولكن للأسف كل شيء يتبخر فور خروجنا من الصالة. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الياباني هيروكازو كوريه إيدا هو الآخر لم يصنع مفاجأة هذا العام، وعلى رغم أن فيلمه "وحش" نال جائزة السيناريو، فكان الاستقبال الذي ظفر به فاتراً، علماً أنه يحكي قصة صبيين والعلاقة بينهما في إطار لا يخلو من الأكاذيب وتشابك وجهات النظر. نحن بعيدون عن "سارقو المتاجر" الفيلم الذي كان فاز عنه بـ"السعفة"، إذ إن الدراما تغرق في بعض العاطفية. 

"الصيف الماضي" للفرنسية المقلّة كاترين بريا، سجّل عودتها إلى السينما بعد عشر سنوات غياباً. الفيلم إعادة إنتاج لفيلم دنماركي (2019) لمي الطوخي، ويحكي عن إغراء تمارسه سيدة خمسينية على صهرها. المخرجة المعروفة بسينماها الجريئة التي لا تساوم على أفكارها واقتناعاتها، لم تلق الإجماع، ولكن هناك مجموعة من المعجبين بها أبدوا رأيهم الإيجابي. 

"مايو ديسمبر/أيار كانون الأول" للأميركي تود هاينز فيلم مربك، إذ لا تعرف أين تموضع نفسك منه، فموقفك منه يحتاج إلى بعض الوقت لتثبيته. لا شك أن هذا ليس أفضل أفلام صاحب "بعيداً من الجنة". هناك لمسة مخرج شاطر على المستوى التقني، لكن هذا لا يكفي لصناعة فيلم جيد.

أخيراً، تناول "بانيل وأداما" للسنغالية راماتا تولايي سي، علاقة حبّ ضمن بيئة أفريقية معادية لكل ما يخرج عن العادات والتقاليد. لكن، الفيلم لم يصل إلى مراتب عالية في تقييمات النقاد. 

في المقابل، انطوت المسابقة على ثمانية أفلام صنعت أهميتها. كل هذه الأفلام نالت جوائز لجنة تحكيم المخرج السويدي روبن أوستلوند، ما عدا فيلمين منها. الأفلام الستة الفائزة هي: "تشريح سقوط" لجوستين ترييه ("السعفة الذهبية")، "منطقة اهتمام" لجوناثان غلايزر (الجائزة الكبرى)، "أوراق ميتة" لآكي كوريسماكي (جائزة لجنة التحكيم)، "شغف دودان بوفان" لتران أن هونغ (جائزة الإخراج)، "أيام مثالية" لفيم فندرز (جائزة التمثيل الذكوري) و"فوق الأعشاب الجافة" لنوري بيلغي جيلان (جائزة التمثيل النسائي). وكنا تناولنا على صفحات "اندبندنت عربية" أغلب هذه الأفلام خلال تغطيتنا للمهرجان. هذه هي الأعمال التي ستبقى من هذه الدورة. أما الفيلمان اللذان استُبعدا عن قائمة الجوائز، فهما: "الوهم" للإيطالية أليتشه رورفاكر و"ذي أولد أوك" للبريطاني كَن لوتش.  

ما نستنتجه من الدورة السادسة والسبعين لمهرجان "كان": أفلام تفاوتت قيمتها، بين رديئة وجيدة ومتوسطة وممتازة، مع حضور بعض التحف السينمائية التي تسابقت جنباً إلى جنب مع أفلام لم نفهم سبب وجودها في المسابقة. ولكن كانت لجنة التحكيم نبيهة، فأعطت الجوائز لأفضل مَن يستحقها. صحيح أن الجوائز ليست هي الأهم في المهرجان، لكن إسنادها لمَن لا يستحقها، كما حصل أكثر من مرة في "كان"، صفعة للمواهب التي تراهن على هذه الجوائز كي تبرز على الساحة الدولية. هذا بالإضافة إلى أنه يترك عند الذين تابعوا الأفلام طعماً مراً. ولكن لا يوجد فيلم يصنع الاجماع في "كان"، المدينة التي تتحول طوال أسبوعين أرضاً للنقاشات الحامية تصل أحياناً إلى المعارك، سواء على صفحات التواصل الاجتماعي أو في المقاهي أو داخل طوابير الانتظار. وهذا أيضاً مما يصنع جمال "كان"، الذي على علاته وعيوبه، يبقى المهرجان بالألف واللام، لا تنافسه أي تظاهرة سينمائية أخرى. 

المزيد من سينما