Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في تأبين ربيع أوروبا الثوري

1848 كان عاماً فارقاً فالقارة العجوز لن تصبح بعده كما كانت من قبله

مشهد إعدام لويس السادس عشر خلال الثورة الفرنسية (الموسوعة البريطانية)

ملخص

 في كتابه "الربيع الثوري" الصادر حديثاً يعارض كريستوفر كلارك أستاذ التاريخ بجامعة كامبريدج الحكم بتفاهة عام 1848، فما هي وجهة نظره؟

في منتصف القرن الـ 19 مرت أوروبا بعام لم يكن يدور بخلد أحد أن تشهده، ففي غمرة الاستكانة إلى هدوء الأوضاع وثباتها جاء عام 1848 ليكون العام الذي لن تصبح أوروبا بعده كما كانت من قبله.

وخلال ذلك العام كانت أوروبا أقرب إلى قارة مؤلفة من إمبراطوريات وممالك لا من دول قومية مثل التي نعرفها اليوم ومنذ عهد بعيد، وبين عشية وضحاها بدأ المشهد يتغير، وبوتيرة يقارنها مونرو برايس ]فايننشال تايمز- 25 أبريل (نيسان) 2023[ بسرعة عصر الإنترنت، فمن ثورة في الـ 12 من يناير (كانون الثاني) على ملك صقلية البربوني الرجعي فرديناند الثاني، إلى ثورة في الـ 24 من فبراير (شباط) تطيح الملك الفرنسي لويس فيليب، ومضت ألسنة نيران الثورة تسري في فيينا وبرلين وبودابست وميلانو، وبدا أن القارة تمضي في طريقها إلى تغيير جذري.

فلم تحل نهاية مارس (آذار) من ذلك العام إلا وقد بدا أن ملكيات القارة المحافظة استسلمت للمطالب الشعبية بالحقوق السياسية والحق الوطني في تقرير المصير، فصدرت الدساتير في بروسيا وكبرى الولايات الألمانية، وبدا أن الرعايا الإيطاليين والهنغاريين التابعين لإمبراطورية هابسبيرغ متعددة الأعراق على بعد خطوات من الاستقلال، وإذا بالأفكار الثورية التي بقيت مكبوتة منذ سقوط نابليون أصبحت على حين غرة هي التي تكتب المستقبل.

غير أن ذلك كان ظاهر الأمر فقط، وفي الباطن مضت تطورات أخرى تختمر، فلم يمض أكثر من عام إلا وقوى النظم القديمة، أو هو النظام الواحد بتنويعات بسيطة، قد رجعت إلى السيطرة في كل مكان، وإذا بالبرلمانات الوليدة وقد حلت، وانسحقت الحركات الوطنية في إيطاليا وهنغاريا سحقاً دموياً.

على أعتاب منعطف

ونتيجة لذلك بات عام 1848 عند المقارنة مع عام الثورة الفرنسية 1789 أو عام الثورة البلشفية 1917، لا يلقى من المؤرخين إلا اهتماماً عابراً، فيهمله لويس ناميير معتبراً أنه كان "ثورة مثقفين" أو يراه جي أم تريفيليان "نقطة التحول التي لم يتحول عندها التاريخ".

لكن ذلك العام الذي يظهر بأثر رجعي قليل الأهمية، لم يكن يبدو كذلك على الإطلاق في حينه ولمعاصريه الذين استشعروا خطورته، حتى أن الدبلوماسي البروسي جوزيف فون رودفيتش حذر في فبراير عام 1848 بقوله "إننا على أعتاب منعطف في حظوظ أوروبا كاملة".

والحق أن ثورات عام 1848 تحتل مكاناً غريباً في علم التاريخ الأوروبي، فقد يكون مقبولاً أن يختلف على مدى التغير الذي حدث لأوروبا بسببه، لكن العام نفسه يستحق ما هو أكثر من حضوره المغمور في الوعي الأوروبي.

هل كان "عاماً تافهاً"؟

في كتابه "الربيع الثوري" الصادر حديثاً عن دار "ألن لين" في قرابة 900 صفحة، يعارض أستاذ التاريخ بجامعة كامبريدج كريستوفر كلارك الحكم بتفاهة ذلك العام، فقد يكون صحيحاً أنه على المدى القصير قد فشل فشلاً ذريعاً، لكن على المدى البعيد كان بمثابة "غرفة صدام تقع في مركز القرن الـ 19 بأوروبا"، وفيها رأينا قوى متنوعة من قبيل الاشتراكية والراديكالية الديمقراطية والليبرالية والقومية "يناطح بعضها بعضاً فتندمج أو تتشظى".

ويرى كنان مالك في استعراضه لكتاب "الربيع الثوري" ]غارديان - الثامن من مايو (أيار) 2023[ أن كلارك لديه براعة خاصة في كتابته عن تصادم الأفكار التي أنتجت عام 1848، ويعد تحليله للتعقيدات والقوة التدميرية للقومية يمثل أهم فصول الكتاب، وهو "حدوس النظام" الذي لم يزل صالحاً للقراءة اليوم، "في معرض تأريخه لتصادم الأفكار، ينشأ لديه ربما أهم خيط ينتظم كتاب ’الربيع الثوري’ وهو ’العلاقة المشحونة’، بل الصراع العلني في كثير من الأحيان بين الليبراليين والراديكاليين".

 

 

وفي تلك الحقبة كان معنى الليبرالية والراديكالية لم يزل في طور التكوين، فلعب عام 1848 دوراً مهماً في المساعدة على بلورتهما، على النحو التالي: "كان الليبراليون في الأساس كتاباً ومفكرين وساسة يرون أنفسهم واقعين في شرك ما بين الثورة والاستبداد، ويتمنون لو أن بوسعهم أن يسلكوا طريقاً ثالثاً بين امتيازات وهيراركيات نظام الحكم التقليدي وبين ما كانوا يرونه استبداداً وتطرفاً اجتماعياً من الراديكاليين".

"ميزة الثروة"

الليبراليون، على حد قول كلارك، "رفضوا مزايا الميلاد" في حين قبلوا "ميزة الثروة" وطالبوا بـ "المساواة السياسية دونما إصرار على المساواة الاجتماعية"، وأكدوا "مبدأ السيادة الشعبية" في حين "وضعوا حدوداً لتلك السيادة خشية أن تهدد الحرية"، ولم يكونوا ديمقراطيين وإن "طمحوا إلى الكلام باسم الشعب"، لأن ما كانوا يقصدونه بالشعب أصلاً هو "نسبة صغيرة من دافعي الضرائب الذكور المتعلمين"، أي أن الليبراليين ظهروا في ذلك العام في أفضل الحالات باعتبارهم "ثوريين على مضض".

أما الراديكالية فكانت أقل تحديداً في ذلك الوقت، فهي سلسلة مبادئ وفلسفات من الـ "يوتوبيا" إلى الماركسية الناشئة، وقد أقام الراديكاليون مجمل مواقفهم بالأساس على ما بات يعرف بـ "المسألة الاجتماعية"، أي النقاشات حول كيفية تحسين الظروف المروعة التي تواجهها الطبقة العاملة والفقراء، والتي نشأت منها مطالب الحق في العمل والحد الأدنى للأجور وضبط أسعار المواد الغذائية الأساس وما إلى ذلك، في حين انصب تركيز الليبراليين على مسائل الحرية السياسية، مثل حجم الامتيازات ومداها وحرية الصحافة ومساواة المرأة وإلغاء العبودية.

وبوضع الراديكاليين للمسألة الاجتماعية في صدارة النقاش كانوا غالباً ما يذهبون أبعد بكثير مما كان الليبراليون على استعداد لفعله في القضايا السياسية، فطالب كثير منهم بالاقتراع للجميع، وقدراً أكبر كثيراً في حرية صحافة وأشكال أكثر شمولاً للديمقراطية، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك بكثير في استعدادهم لاستخدام القوة والعنف لتغيير المشهد السياسي.

ولو لم يثمر عام 1848 أكثر من تحديد هذين الاتجاهين من الاتجاهات الفكرية والسياسية في أوروبا، فقد أثمر ما يجعل قول بعض المؤرخين بتفاهته حكماً جائراً، لكن الحقيقة أنه فعل ما هو أكثر من ذلك.

إعادة تشكيل

يقول مونرو برايس في مقالة "فايننشال تايمز" إن التصادم بين هذه القوى المتنوعة أدى إلى "تعديلها أو تغييرها تماماً في بعض الأحيان، فبرزت لتعيد تشكيل السياسة والمجتمع على نحو عميق، وبحلول عام 1900 كانت الدول الأوروبية قد تبنت شيئاً من الدستورية، وتبنى بعضها حق التصويت المطلق للذكور، وبدأ القليل منها يضع أسس دولة الرفاه، وتحققت مطامح الإيطاليين والألمان بعد إحباطها عام 1848، مع إنشاء مملكة إيطاليا والرايخ الثاني".

إن ذلك العام كان بمثابة التربة التي نشأت منها أوروبا التي نعرفها اليوم، وصحيح أنه "قد لا تكون إيطاليا الآن مملكة، وقد لا تكون ألمانيا من حسن الحظ هي الرايخ الذي كانته من قبل، لكن المؤكد أن الأصول الحديثة للدولتين ترجع إلى عام الثورات".

ويكتب كنان مالك في صحيفة "غارديان" أن كلارك ينطلق في تأريخه من "وصف تفصيلي دقيق للخلفية المادية للثورة، أي الضعف الاقتصادي لأعداد كبيرة من الأوروبيين الذين اجتاحهم الجوع والطاعون وجشع أصحاب العمل وأصحاب الأراضي والحكام وفساد أخلاقهم، لكنه يخلص إلى أنه على رغم ذلك إلا أن الثورة لم تكن نتاج السخط على تلك الأوضاع الاجتماعية، فجغرافيا الجوع على حد تعبير كلارك لا تطابق جغرافيا الثورة، ولقد كانت اعتبارات سياسية أكثر منها اقتصادية هي التي دفعت إلى التمردات"، فكأن كلارك في موقفه ذلك يطابق كتاباً وصحافيين كانوا يتحرجون من ثلث شعار ثورة يناير المصرية، فيتباهون بمطالبة الشعب بالحرية والعدالة الاجتماعية، لكنهم يسترون عورة مطالبتهم بالخبز في صدر الشعار.

الهدف الأساس

يكتب مونرو برايس أن الهدف الأساس للمنهج الذي يتبعه كلارك في كتابه "هو أن يجعل الشعب في المركز، فهو يصف ببلاغة الظروف المريعة التي عاشت فيها أعداد هائلة من الناس، والتنوع الضخم في المظالم والمثل التي دفعتهم إلى الثورة، وفي حين أن هذا المنهج يعطي الكتاب زخماً أكيداً لكن كلارك يهمل السياق، فثمة حاجة إلى مزيد مما يتعلق بالوضع القائم الذي أراد الثوار تغييره أصلاً".

ويضرب برايس مثالاً لذلك بتسوية فيينا التي أنهت الحروب النابليونية، بما لتلك التسوية من مزايا وعيوب وما نجم عنها من توترات داخل كل دولة أوروبية وبين هذه الدول جميعاً مما تسبب في الظروف المواتية لثورات عام 1848.

ويعلق برايس، وهو أستاذ فخري للتاريخ بجامعة برادفورد، بقوله عن حق "إن هذه الخلفية قد تكون معروفة للمتخصصين، لكن القارئ العام لا يمتلكها ومن ثم فهو معرض للارتباك".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شبح عام 1789

يكتب مونرو برايس أن "شبح عام 1789 كان يخيم على عام 1848، ففي البداية كانت ذكريات الثورة الفرنسية تثير الذعر وسط الحكام الأوروبيين وتدفعهم إما إلى تقديم التنازلات أو إلى المسارعة بالفرار"، لكن ما تبرزه سردية كلارك هو مدى كفاءة غالبية الملوك بعد تخبط البدايات في تعاملهم مع التحدي وتعلمهم الواضح من الأخطاء التي ارتكبت قبل 60 عاماً، فقد حرصوا على ولاء جيوشهم وتفادوا أن يبقوا سجناء عواصمهم، وأظهر أفراد أسرة هابسبورغ الحاكمة أنهم سادة هذه اللعبة، فقد رحلوا عن فيينا عندما أصبح الوضع فيها خطراً واستبدلوا بإمبراطورهم الضعيف ابن أخ له أشد منه قوة، ثم رجعوا بقوات يمكن الاعتماد عليها فسحقوا خصومهم".

وفي محاولة لتفسير هذه الهزيمة النكراء التي لحقت بثورات الربيع الأوروبي، ويعلم الله كم مرة زلت أصابعي في هذه المقالة فكتبت "الربيع العربي" بدلاً من "الأوروبي"، ينقل كنان مالك عن كرستوفر كلارك قوله إن الارتداد عن الحريات السياسية والاجتماعية المكتسبة نجم عن عجز الثوريين عن إقامة تضامن دولي قوي بالقدر الكافي من شأنه أن يصمد "للخطر المتمثل في أممية الثورة المضادة".

ويستهل صمويل موين استعراضه للربيع الثوري ]نيوستيتسمان ـ الـ 16 من مايو 2023[ بإشارته إلى الليبرالية الآن في عام 2023، المتواطئة مع الهيراركية والمال، المهللة بالأمس القريب بانتصارها على الاتحاد السوفياتي ثم إفسادها له من خلال "حكم النخب بالنخب وللنخب، وسلسلة لا نهاية لها من التنازلات السياسية الوسطية والتمجيد للاقتصاد النيوليبرالي".

وينقل موين عن كريستوفر كلارك قوله إن "من يكبدون أنفسهم عناء رفع حجاب الرضا الأناني عن الذات" سيرون أن هذا الرخاء ظاهري فقط، وأن الوضع الآن شبيه بوضع أربعينيات القرن الـ 19، إذ "كان يكمن من وراء مظهر النظام البرجوازي استياء عميق وخطر ثوري استيقظ عام 1848"، ثم إن موين يتساءل، كمن يحذر، إن كان الغرب بانتظار 1848 أخرى؟

فعلى رغم رسوخ الإمبراطوريات والأرستوقراطيات في أوروبا ذلك الزمن، ظهرت الليبرالية مدعومة ومستلهمة نموذج الثورة الفرنسية والحكم النابليوني، "داعية إلى حكم أقل تعسفاً وامتيازات أقل لطبقة النبلاء ومساواة بين التقدم البشري والحقوق المدنية وبرلمانات تمثيلية ودساتير مكتوبة.

ذلك التحذير من موين يعني أن كلا يغني على ليلاه، فهو ينظر إلى 1848 فيرى عام 2023 في الغرب، وأنا أنظر إلى 1848 فأرى حسرة 2011.

الربيع العربي

الحق أن كرستوفر كلارك وهو يبرز أهمية عام 1848 وعلاقته باضطرارات عصرنا نحن لم يجد "مثالاً لذلك أوضح من الربيع العربي، وهو سلسلة ثورات استشرت كالنار في الهشيم، ففشلت على المدى القصير لكن آثارها على المدى البعيد ستكون عميقة ولا شك".

ويشير كلارك إلى ملاحظة غريبة تعزز هذا التشابه بين عامي 1848 و2011، "ففي أغسطس (آب) عام 1849 سُحقت الثورة المجرية، وطلب أذكى الجنرالات وهو جوزيف بيم اللجوء إلى سوريا الخاضعة للحكم العثماني، واعتنق الإسلام وتسمى باسم مراد باشا، وبات حتى نهاية حياته حاكماً لحلب".

لا أفهم كيف لهذه الملاحظة أن تبرز التماثل بين الربيع الأوروبي والربيع العربي، ولا أفهم أيضاً لماذا تلزم ملاحظة لإثبات هذا التشابه، في حين أن تتابع الأحداث بين الربيعين يوشك أن يبلغ حد التطابق إلى حد أن القراءة عن الربيع الأوروبي بدت أشبه بمطالعة الربيع العربي، مرسوماً في لوحات أوروبية مرسومة بالزيت على التوالي بدلاً من مشاهدته مسجلاً في مقاطع الفيديو القليلة الباقية على الإنترنت، أو في ذاكرات الهواتف الشخصية.

وذلك التماثل يذكرني بقصيدة للشاعر السويدي توماس ترانسترومر يقول فيها إنه "يحدث في منتصف الحياة أن يأتي الموت ليأخذ مقاساتنا، وهذه الزيارة تنسى وتستمر الحياة، لكن الثوب يخاط بلا‌ علم منا"، وذلك تقريباً ما فعله الموت عام 1848 حين جاء إلى حمى أوروبا الثورية فأخذ مقاساتها، ثم إنه عاد بعد ذلك عام 2011، لا إلى أوروبا وإنما إلى العالم العربي، وتبين أن ما كان يخيطه للثورات لم يكن ثوباً، فقد رجع ومعه كفن.

قد يبدو لمتشائم أو مراقب واقعي عند النظر إلى الأعوام الماضية منذ عام 2011 أن هذا ما حدث للربيع العربي، لكن نظرة أخرى قد تدعو إلى شيء من التفاؤل، نظرة إلى الأثر الباقي بعد النجاح السريع والفشل السريع، وقد يجد بعض منا عزاء في قول كلارك بأن الحكم على الثورات لا يكون وفقاً لمقياس النجاح والفشل، وإنما مقياس الأثر والتركة، فبالمعيار نفسه قد لا يرى مؤرخو المستقبل، جميعاً في الأقل، ثورات الربيع العربي مثلما نراها الآن، إما نكبات واضحة أو حسرات واضحة.

العنوان: Revolutionary Spring: Fighting for a New World 1848-1849

تأليف:  Christopher Clark

الناشر:  Allen Lane

اقرأ المزيد

المزيد من كتب