صائبٌ خيار دار "غاليمار" الباريسية في تقديم الرواية الجديدة للكاتب المغربي الفرنكوفوني الطاهر بن جلون، "عشاق الدار البيضاء"، بفقرة مستقاة من بدايتها، لا تشكّل فقط خير مدخل لولوج قصتها، بل تعرّف أيضاً بدقة بشخصيتيها الرئيستين وبظروف انطلاق علاقتهما العاطفية، وتجعلنا بالتالي نحدس بما ينتظرهما.
في هذه الفقرة، نقرأ: "شاهدا معاً "مشاهد من الحياة الزوجية" لإنغمار برغمان. كانا يافعين وعاشقين. عاشقين جداً. وجدا كان هذا الفيلم قوياً ويائساً. كانا قد تزوجا منذ فترة قصيرة، بعد إتمام دراستهما، وباشرا في العمل، هو كطبيب أطفال، وهي كصيدلانية. والدها هو الذي اشترى لها صيدلية "درب غلف" في أحد أكثر الأحياء حيوية، في وسط مدينة الدار البيضاء. هو تولى عيادة عمه ومرضاها المخلصين. كانت الحياة سهلة، والسماء زرقاء صافية، والسلام يسود العالم. ضحكا في نهاية الفيلم، ليقينهما بأن ذلك لن يحدث لهما أبداً".
وفعلاً، نرى نبيل ولمياء في مطلع الرواية في علاقة زوجية متينة مضى عليها عشر سنوات. زوجان كانا يعيشان بيُسر في الدار البيضاء مع أطفالهما الثلاثة، حين رفّ يوماً رمش لمياء وانحرف بصرها فجأة، بلا سابق إنذار. وإذ بها تقع في حب دانييل، وهو زير نساء شاب، فتعيش معه بالسر علاقة جسدية محمومة تدوم ستة أشهر. وحين يضع عشيقها فجأة حداً لعلاقتهما، بدلاً من العودة إلى حضن زوجها، تطلب الطلاق منه بكلمتين لا أكثر، يتلقاهما نبيل كرصاصتين في القلب: "تركني، أتركك". رصاصتان، لا رصاصة واحدة، لأنه يعي عندها أن رفيقة دربه لا تتخلى عنه فقط، بل كانت تخونه أيضاً.
اختلاف مجتمعي
لفهم خيار لمياء هذا، والخيار الذي سبقه وقادها إلى خيانة نبيل، نتلقى في سردية بن جلون وجهة نظر كلّ منهما في حياتهما المشتركة، منذ انطلاقها. هكذا نعرف أن نبيل من عائلة فاسية متواضعة، إنساني وملتزم فكرياً، يعشق زوجته بقدر ما هو مولع بالأدب والسينما. ولع، حاول عبثاً نقله إلى زوجته، لكنه فشل لأنها تختلف كثيراً عنه، كي لا نقول إنها تشكّل نقيضاً له. فإضافة إلى كونها شابة مغربية متحررة، نشأت لمياء داخل عائلة فاسية ميسورة، وهو ما يفسّر جزئياً عدم اكتفائها بممارسة مهنة الصيدلة، مثلما اكتفى زوجها بمهنته، وإصغاءها إلى حسّ الأعمال لديها الذي يدفعها إلى تأسيس مصنع للأدوية لا يلبث أن يدرّ عليها أموالاً كثيرة ويجعل بالتالي مدخولها أكبر بكثير من مدخول نبيل.
أما لماذا أقدمت على خيانته وتجرأت على الإصغاء لرغباتها، حين التقت بدانييل، فنتلقى الجواب على لسانها، حين تكاشف نبيل بما عاشته مع عشيقها، وتلومه بعنف عمّا جرى لهما: "لقد نمتَ على حبّنا وأطفأته. خنقته بالرتابة والعادات. كنتُ بحاجة إلى هواء. ثقلك هو الذي رماني في أحضان رجل آخر. نعم، خنتك بسبب ما أصبحتَ عليه. رجل ثقيل، لا مفاجأة فيه، باهت وعديم الطرافة. رجل بيتوتي، تنحصر حياته داخل خانة واحدة، وعديم الخيال. لقد تمتّعت بين ذراعي هذا الرجل، حتى لو كان نذلاً ووغداً بعض الشيء. ردّني إلى الحياة وكشفني إلى نفسي ثم رحل. استيقظ! زواجنا فشل! أنا أستحق أفضل من هذه الحياة المضبوطة، التي تفوح منها رائحة النفتالين والتعاسة".
لمياء ونبيل يفترقان، لكن هذا لا يعني أن قصتهما تنتهي مع طلاقهما، فجذوة الحب الأول الذي جمعهما لا تنطفئ بهذه السهولة، خصوصاً بعد الفراق. وهذا ما تستكشفه رواية "عشّاق الدار البيضاء"، أي طبيعة المشاعر العاطفية داخل علاقة مبنية على حب أول، بمكامن قوتها ومكامن هشاشتها، ومعها مغامرة الزواج الكبرى، بالأمان والراحة اللذين يمكن أن توفّرهما، وبالمخاطر التي يمكن أن تتربص بالزوجين من جرائهما، والناتجة بشكلٍ رئيس من توقف أحدهما عن منح علاقته بالآخر ما تستحقه من جهد وعناية، لاعتباره إياه شيئاً مكتسباً. تستكشف الرواية أيضاً سلطة الرغبات، تقلّباتها، مختلف وجوهها، وبالنتيجة قدرة الإنسان الذي يقع تحت رحمتها على ضرب قيمه بعرض الحائط، ومعانقة تناقضاته، بغية تلبيتها.
اشتعال الرغبة
ولتصوير ذلك، يلجأ بن جلون إلى لغة فجّة تقول الرغبة في لحظة اشتعالها وتنقل رجفة الإثارة الناتجة منها، طارحاً بواسطتها سؤالين بديهيين يفسران سلوك لمياء وخيارات حياتها: لماذا لا نحب بشغف؟ لماذا نجهل ــ أو نتجاهل ــ إلى هذا الحد حسّيتنا وجسدنا الباعث على الرضا؟ وفي هذا السياق، يذكّر بحقيقة أن الهيام بشخص ما يتعذّر توقّعه، إذ يصعقنا ويقلب كل شيء في طريقه، خصوصاً إن كانت الرتابة مسلّطة على حياتنا. ولذلك لم تستطع لمياء تجنبه، بل استسلمت له وغرقت في علاقة حب جنونية، غير عابئة بخيانتها لزوجها، على الرغم من حبها له. وحول هذه المسألة، طرح أحد الكتّاب سؤالاً ثاقباً: بوقوعنا في غرام شخص آخر غير رفيق دربنا، هل نخون الحب، أم أننا نخون في الواقع موت الرغبة فينا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكنّ قيمة "عشّاق الدار البيضاء" لا تكمن فقط في تشريحها علاقة حب مأزومة بين زوجين، بل في قيامها بهذا التشريح داخل مجتمع شرقي ذكوري ممزق بين تقاليد ألفية متجذّرة في النفوس وحداثة زاحفة. مجتمع ما زال الكذب والنفاق فيه يشكّلان لكثيرين الوسيلة للخروج عن الأعراف، وتدفع المرأة الطموحة والمتحررة غالياً كلفة طموحها وتحررها، وتواجه الأمرّين إن تجرأت على التماثل في سلوكها بالرجل. وحول هذه النقطة، صرّح بن جلون: "أردتُ خصوصاً أن أشيد بالمرأة المغربية الحديثة، الجديدة، التي تكافح، تستولي على السلطة ولا تدع أحد يتحكم بمصيرها. طبعاً، الإمكانات المادية تساعد كثيراً" على إنجاز ذلك، كما هو الحال مع لمياء الميسورة والمسلحة بإرادة عيش حياتها كما تراه هي مناسباً، حتى لو تطلب الأمر الخيانة.
بالتالي، تُقرأ روايته الجديدة كإدانة للمجتمع الشرقي المذكور الذي يقمع الحريات الفردية والرغبات، خصوصاً لدى المرأة، وكنشيد احتفاء بالحياة التي تقع على نقيض الرتابة: "الحياة ليست برنامجاً مضبوطاً كالساعة، الحياة مصادفات". تُقرأ أيضاً كبورتريه دقيق، وبالألوان، لمدينة الدار البيضاء ولطبيعة الحياة فيها: "كازابلانكا مدينة عملاقة، قذرة، قاسية، يتجاور فيها الأشخاص الأكثر ثراء وأولئك الأكثر فقراً. مدينة تتجلى فيها الإحباطات في شكل صارخ، وتُسحق القيم بغرور المال والوصولية والفساد. في هذا المكان، نعرّي ثراءنا، ونحب الاحتفال. بعضنا يتنقل من حفلة إلى أخرى من دون استراحة أو طرح سؤال. الدار البيضاء مدينة مثالية لهذا النوع من النشاط. المال والجنس".
ولا يكتمل عرض "عشاق الدار البيضاء" من دون الإشارة إلى مراجعها الأدبية والسينمائية التي لا يخفيها بن جلون، بل يعمد إلى بعثرتها داخل سرديته، وأحياناً إلى التعليق عليها أو الاستشهاد بها، مثل "حسناء السيد" لألبير كوهن، "خفة الكائن التي لا تحتمل" لميلان كونديرا، "كازابلانكا" لمايكل كورتيس، وطبعاً "مشاهد من الحياة الزوجية" لإنغمار برغمان. ونظراً إلى الجانب الدراماتورجي لسرديتها بالذات، لن نفاجأ إن اقتُبِس سيناريو فيلم منها. نأمل فقط، إن حصل ذلك، أن يضفي المخرج على شخصيتيها الرئيستين جاذبية تفتقدانها مع الأسف في الرواية.