ملخص
في مسرحية "شتات" يلعب المخرج المصري سعيد سليمان على الطقس ويبني بالصورة
في العرض المسرحي "شتات" يحيلنا كل عنصر من عناصر العرض إلى معنى كلمة شتات، النص والديكور والتمثيل، كل شيء مشتت ومنثور هنا وهناك، وإن كانت الرؤية الإخراجية قد حاولت جمع كل هذا النثار في جسد مكتمل له ملامحه شبه الواضحة، ومثير للتأمل والسؤال.
العرض يقدمه مركز الهناجر للفنون بدار الأوبرا المصرية (مؤسسة تابعة لوزارة الثقافة) تأليف رشا فلتس، وإخراج سعيد سليمان، وهو من المخرجين الأكثر ميلاً إلى التجريب، وكذلك الأكثر ميلاً إلى العروض التي تعتمد الطقس أساساً لها.
أول مايلفت النظر عند الدخول إلى المسرح لمشاهدة العرض هو ذلك الفضاء الغريب والمقبض الذي صاغته مصممة الديكور نهاد السيد، الذي سنكتشف بعد ذلك أنه تعبير دقيق عن الحالة التي يجسدها العرض، وكذلك عن الأجواء النفسية التي يعكسها، فالخشبة محتشدة بأشياء متنافرة لا جامع بينها، لكنها تشكل معاً صورة واضحة الدلالة. أقفاص من الجريد، إطارات سيارات فارغة، مزلقان (منطقة عبور المركبات والمشاة لخطوط السكك الحديدية) شاسيهات لما يمكن اعتباره حوامل حديدية لأحد الجسور القديمة، سلم خشبي، وهكذا كل شيء على الخشبة غريب عن الآخر، وإن تم استعماله وتوظيفه في خدمة العرض الذي ضم أربعة ممثلين كل منهم غريب عن الآخر كذلك.
هكذا يمكن اعتبار الديكور عتبة للدخول إلى العرض، ومعيناً على فك شفراته. كان بمثابة الرؤية البصرية أو المعادل البصري لما يسعى العرض إلى طرحه، وهو على رغم الحالة المزرية التي جسدها، فقد شكل عنصراً جماليا يوحي بإمكان فكرة التعايش بين المتناقضات، وقد أسهمت الإضاءة (صممها أبو بكر الشريف) بتنوع مصادرها وألوانها، في إبرازه وتعميق دلالته بشكل لافت.
حركة مضطربة
ثلاثة رجال نعرف أنهم محبوسون في قبو، أو هكذا يطلقون على المكان الذي تواجدوا فيه، لكن الحركة المضطربة، وربما العشوائية، والحوار التليغرافي، والمبتور أحياناً، بينهم، ربما أشار إلى أنه ليس مجرد قبو، بل إنه الحياة نفسها التي دفعوا إليها دفعاً من دون رغبة أو إرادة منهم.
الرجال الثلاثة كل منهم يهيم في واد، ويرفض الآخر ولا يستطيع التواصل معه. أحدهم مادي يعتقد أن الحقيقة الوحيدة هي المال والنساء، والآخر أقرب إلى المتصوفة يرى أن المادة هي أصل كل الشرور، أما الثالث فهو دائم السؤال والبحث عن حل، وثلاثتهم مشتتون لايعون ذواتهم ويبحثون عنها طوال العرض.
لاتوازن بين الروح والعقل والجسد عند الشخصيات الثلاث، لذلك فهم لايلتقون أبداً، ولايسعون إلى التعايش معاً باعتباره الحل الوحيد لقبول كل منهم لاختلاف الآخرين عنه كما يلح على ذلك الرجل الأقرب إلى المتصوفة.
أما المرأة التي ظهرت واختفت، فهي أيضاً باحثة عن الحرية، متطلعة إلى ممارسة حياتها بعيداً من ملاحقة أعين الآخرين لها، تحمل مفاتيح في حقيبتها، تقول إنها مفاتيح بيتها القديم الذي لاتذكره، وكأن العرض يقدمها هنا باعتبارها تمتلك مفاتيح الحياة، وقادرة على إحداث ذلك التوازن في العالم، أو هكذا يمكن قراءة شخصيتها لأننا بصدد عرض قائم على الاحتمالات ومتعدد التأويلات.
نص فلسفي
لسنا أمام نص عرض عبثي، هو أقرب إلى أن يكون نصاً فلسفياً يسعى إلى الغوص في أعماق النفس البشرية وإبراز تناقضاتها، ويتساءل، هل يكون الحل بالتعايش وقبول الآخر بكل عيوبه واختلافاته كما تردد إحدى شخصيات العرض، أم أن هناك سبيلاً آخر لاستمرار الحياة على هذه الأرض، أو داخل هذا القبو الذي يصوره العرض؟
هي رؤية ليست قاتمة، لكنها عذابات النفس البشرية وأسئلتها الوجودية، التي تطرحها كاتبة النص رشا فلتس، في محاولة للوصول إلى أرضية ما مشتركة يتعايش عليها البشر على رغم اختلافاتهم، فالرحمة موجودة كما الانتقام موجود، وكذلك الخير والشر، والنور والظلمة، والفقر والغنى، والروح والجسد، ولا شيء يمكنه إنقاذنا من قسوة هذا القبو سوى الوعي بالذات والاتحاد الداخلي للنفس الذي هو طريق الاتحاد الخارجي بالآخر، أو على الأقل قبوله كما هو.
الروح والجسد
يبدأ العرض بكل شخصية من الشخصيات الأربع تحمل شمعتين، ثم تطفى الشموع. وينتهي بكل شخصية تحمل شمعتين مضاءتين من جديد، وتوزيعها على أركان المسرح. هاتان الشمعتان اللتان تحملهما كل شخصية، ربما أشارتا إلى الروح والجسد، وربما توزيع الشموع في أركان المسرح يشي بفكرة التوازن الذي يعني بدوره السلام النفسي، ذلك السلام الذي يمكنه تخفيف وطأة المكان الذي يصوره العرض كقبو دفعت إليه شخصياته على غير إرادتها.
وفضلاً عن استخدام الشموع، استخدم المخرج كذلك مايمكن اعتباره "طقس الرمل" الذي مارسه الرجل المادي على الرجل المتسائل والباحث عن حل، بأن ينثر فوقه حفنة من الرمال وكأنه يدفنه أو يقتله معنوياً، وكذلك الضرب الذي يستعذبه الرجل المتسائل والشاعر دائماً بالخطيئة.
هي أفكار نثرتها الكاتبة بوعي في نصها، وسعى المخرج إلى تجسيدها في صياغة مشهدية لانستطيع القول إنها درامية تقليدية تسير بشكل رأسي، فهي لاتلتزم بصرامة بذلك الشكل، بل تسير في أغلب الأحيان أفقياً تبعاً لطبيعة النص الذي يضرب هنا وهناك، وإن بشكل محسوب ومقصود، هو أقرب إلى التداعي الحر منه إلى البناء التقليدي المتصاعد الذي نعرف متى يبدأ ومتى ينتهي.
شعري ونثري
وإمعاناً في فكرة الشتات مزج نص العرض بين العربية الفصحى والعامية المصرية، وبين ما هو نثري وماهو شعري، وإن جاءت الأشعار ضعيفة ومختلة عروضياً، وحريصة أكثر على التقفية من دون مبرر، ومن دون تناسق مع طبيعة نص العرض الذي لا يلتزم التقاليد الصارمة.
وتجسدت فكرة الشتات كذلك في حركة الممثلين، وإن كسرها وضع الشخصية المادية المسيطرة في منتصف عمق الخشبة أغلب الوقت كواحدة من العلامات التي نثرها المخرج هنا وهناك.
لم يخل العرض، من لمحات كوميدية قدمها الممثلون، بخاصة ياسر أبو العينين الذي لعب دور الشخصية المتصوفة وأداها بخبرة ممثل متمرس، واعياً إلى طبيعتها وطريقة كلامها وحركتها وردود أفعالها، كأن يقوم مثلاً بتصحيح بعض أخطاء اللغة التي يقع فيها زملاؤه أثناء العرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعب حسن عبدالعزيز شخصية الرجل المادي المسيطر بشكل جيد، موظفاً إمكاناته الجسدية التي تماست مع طبيعة الشخصية التي يقدمها، وكذلك عمرو نخله في دور الرجل الحائر، كثير الأسئلة، الراغب دائماً في الخروج من القبو، ولعبت مصرية دور الفتاة الباحثة عن حريتها واستقلالها بأداء مقنع وواع إلى حسم الشخصية أمرها.
عرض "شتات" على رغم أنه ينتمي إلى العروض النوعية التي تحتاج دربة خاصة في المشاهدة والتلقي، فقد سعى إلى إقامة جسور بينه وبين المشاهدين، عبر الصورة التي حرص المخرج على استخدامها في بنائه، ليحول ذلك الشتات إلى جسد له قوام واضح، وإن احتاج فقط إلى انسحاب فكرة "قبول الاختلاف" على مشاهده ليتأمله بمحبة، رغبة في التواصل.