على رغم إطلاق الحريات السياسية والفردية في تونس بعد انتفاضة 14 يناير (كانون الثاني) 2011، لا يزال بهائيو تونس يسعون إلى ضمان حقوقهم من خلال الحصول على مقبرة، ومنحهم ضوءاً أخضر لتشكيل جمعية ينشطون في إطارها.
وبدأت مواجهة قضائية بين السلطات والبهائيين في البلاد قبل أشهر عندما رفضت الحكومة منحهم رخصة تأسيس جمعية استناداً إلى اتهامات رسمية لهم بالردة والكفر.
وجاءت المواجهة بعد محاولات عدة من
البهائيين للحصول على اعتراف رسمي بهم من دون تصعيد، إذ راسلوا في 2017 الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي ليشتكوا مما سموه تمييزاً على أساس ديني لرفض منحهم ترخيصاً لتأسيس جمعية.
مواصلة النضال
لا يوجد أرقام رسمية بشأن البهائيين، لكن بحسب تصريحات غير حكومية فإنهم يقدرون بـ 25 ألفاً، ويشكلون بذلك
أقلية في بلد يؤكد في دستوره سواء السابق الذي تمت المصادقة عليه في عام 2014 أو الجديد الذي أقر في 25 يوليو (تموز) 2022 على حرية المعتقد.
ويعود ظهور البهائية في تونس إلى 1921 مع قدوم محيي الدين الكردي، وهو بهائي مصري من شيوخ الأزهر، إلى البلاد في مهمة لنشر رسالة بهاء الله مؤسس الدين البهائي بحسب موقع "البهائيون في تونس".
التضييق على الأقليات الدينية أو الجنسية في تونس قد يشكل تحديا أمام السلطات التونسية (أ ف ب)
يقول عضو المكتب الإعلامي للجمعية البهائية في تونس محمد بن موسى، إن "البهائيين في البلاد طالبوا بأمرين، الأول يتعلق بمقبرة خاصة والثاني بتأسيس جمعية، وقوبل المطلبان بالرفض في البداية، لكن مع توجهنا إلى القضاء الذي أنصفنا في ما يخص الجمعية سيتم نشر القرار لاحقاً في الجريدة الرسمية، لكن المقبرة رفضت السلطات منحنا مقبرة خاصة".
وأردف بن موسى لـ "اندبندنت عربية" أنه "لذلك لجأنا إلى القضاء أيضاً لتمكيننا من حقنا في مقبرة، سنواصل نضالنا من أجل ذلك لأن هدفنا في النهاية في إرساء دولة القانون والمؤسسات التي تحمي الجميع وترسخ دعائم مواطنة ترعى حقوق الإنسان، وتضمن للكل الكرامة كما نص عليها دستورنا ونصت عليها المعاهدات الدولية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشكلت عشرينيات القرن الماضي مرحلة مفصلية في نشر الدين البهائي في تونس بعد زيارة الكردي، حيث تولى معتنقو هذه الديانة الحديثة في العالم نقل رسائلها إلى الأصدقاء والزملاء في العمل من دون التعرض إلى تضييقات تذكر.
لكن المنعرج الحاسم في العلاقة بين السلطات والبهائيين كان عام 1969 عندما أقر قانون حول "الاجتماعات العامة والمواكب والاستعراضات والتظاهرات والتجمهر" الذي تم بموجبه حل المحفل الروحاني الإقليمي في شمال أفريقيا الذي كان يتخذ من تونس مقراً له.
لكن المحفل أعيد فتحه في عام 1972 الذي شهد انتخابات في تونس، قبل أن يغلق المركز البهائي مجدداً في عام 1984.
ويرى بن موسى أن "نضالات البهائيين لا يمكن أن تكون بمعزل عن الديناميكية الإصلاحية التاريخية التي مرت بها تونس في العصر الحديث، إذ مرت بلادنا في تاريخها المعاصر بمراحل متتابعة من الإصلاحات الجوهرية التي أثرت في تطور المجتمع".
وأضاف أن "لكل فرد أياً كان معتقده وأياً كان جنسه أو لونه هو مواطن شريك في عملية بناء المدنية والحضارة الجديدة، ونحن نؤمن أنه علينا أن نرى كل إنسان ككائن نبيل حباه الله بقدرات ومهارات يحتاج مجتمعنا إلى أن يثمنها ويوجهها نحو الصالح العام دونما إقصاء".
ترسيخ العيش المشترك
وعلى رغم أنهم لا يحظون باعتراف رسمي من السلطات، إلا أن البهائيين في تونس يتحركون على أكثر من صعيد وينخرطون في النقاشات الدائرة في الفضاء العام في بلد تطغى فيه الخلافات السياسية والصدمات الاقتصادية على بقية القضايا.
ومع ذلك ساهموا مثلاً في توقيع ميثاق للعيش المشترك بين مختلف الديانات العام الماضي في مسعى إلى نبذ أي تعصب ديني في تونس التي عرفت بعد انتفاضة 14 يناير (كانون الثاني) تزايداً في أعداد المتشددين الذين قاموا باعتداءات سواء داخلها أو في الخارج.
ينخرط البهائيون في مسار الحوارات السائدة في المجتمع بغية التعلم منها والمساهمة في إثرائها (رويترز)
وقال بن موسى "نحن نجزم أن مسألة العيش المشترك وإدارة التنوع هي من أكبر التحديات الحضارية الراهنة على مستوى العالم عامة وعلى مستوى بلدنا خاصة". وتابع "لذا ينخرط البهائيون في مسار الحوارات السائدة في المجتمع بغية التعلم منها والمساهمة في إثرائها مستلهمين من مبادئ الدين البهائي وتجربتهم العالمية والمحلية، ومن الطبيعي جداً أن يقابل مسار الإصلاح في بدايته بمعارضة بعض ولكنه يجد طريقه إلى أرض الواقع في نهاية المطاف، ويصبح مقبولاً لدى العام والخاص، وهذا مآل كل التغييرات العظيمة في التاريخ".
تحد للسلطات والبهائيين
ويرى البهائيون أن دينهم هو الأحدث في العالم بعد ظهوره في إيران في عام 1844، مما جعلهم يواجهون رفضاً واسع النطاق في العالم العربي والحكومة الإيرانية نفسها التي واجهت ولا تزال هؤلاء بقبضة من حديد.
وستبقى المقبرة بحسب بن موسى مطلباً أساسياً من مطالبهم، لما لهم من طقوس خاصة في الدفن، تختلف عن بقية الأديان.
في سياق متصل يقول الباحث السياسي التونسي محمد صالح العبيدي إن "ما يحدث مع البهائيين يشكل تحدياً لهم وللسلطات على حد السواء، لإثبات قدرتهم على الصمود باعتبار أن التاريخ يخبرنا أنه ليس من السهل بالمرة التبشير بدين جديد".
ويوضح العبيدي "أما السلطات فهي ستكون على محك احترام حقوق الأقليات وقوانينها ودستورها نفسه الذي ينص على حرية المعتقد، والثابت أن اللجوء للقضاء سينصف بشكل كبير البهائيين".
وأكد أن "تونس دولة منفتحة وكانت سباقة في احترام البهائيين بخلاف بعض الدول العربية أو إيران التي لجأت إلى سرديات المؤامرة لمواجهتهم، لذلك أعتقد أنه في النهاية سيتم تمكينهم من حقوقهم ولو بعد جولات من التقاضي".
وكانت تونس محل إشادات دولية واسعة بعد انتفاضة 14 يناير (كانون الثاني) 2011 للمكتسبات التي أفرزتها، لكن السجالات والتضييق على الأقليات الجنسية على غرار مجتمع الميم والدينية مثل البهائيين قد يمثل تحدياً بالفعل أمام السلطات الحالية.