Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كنزابورو أوي الروائي الذي كسرته هيروشيما وإعاقة ابنه

الياباني الرائد سليل "الجيل الضائع" يرحل عن 88 سنة و5 روايات بالعربية

الروائي الياباني الكبير كنزابورو أوي  (رويترز)

ملخص

عندما اعتلى #كينزابورو_أوي الروائي الياباني منصة الأكاديمية السويدية ليتسلم #جائزة_نوبل التي فاز بها عام 1993، انتقد حال "التغرب" في بلاده، ومات وهو يحمل هذه المسألة في أدبه

رحل الروائي الياباني الكبير كنزابورو أوي عن 88 سنة، الروائي المتفرد بجوه ولغته الجديدة وشخصيته ومواقفه السياسية والتزامه حقوق الإنسان، وارث الروائيين الرواد الذين سبقوه وفي طليعتهم تانيزاكي وكواباتا وميشيما، والمنتمي إلى جيل أدبي بارز في مسار الأدب الياباني الحديث هو "الجيل الضائع" كما يسمى، جيل ما بعد الحرب أو ما بعد الهزيمة، الذي عانى، كما الشعب كله، من ويلات هيروشيما وآثار الهزيمة اليابانية التي أعلنها الإمبراطور بنفسه غداة انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

عندما اعتلى أوي منصة الأكاديمية السويدية ليتسلم جائزة نوبل التي فاز بها عام 1993، انتقد حال "التغرب" في بلاده التي اعتمدت يسرعة أساليب الحياة الغربية التي حلت بعد الحرب الثانية. وكان مثله مثل بعض الروائيين والشعراء اليابانيين، يخشون حال الانفتاح الياباني السريع والسطحي على تقاليد الغرب المعاصر، متخطين هويتهم الضاربة الجذور في تراث عريق. لكن أوي لم يكن محافظاً تقليدياً، فهو درس اللغة الفرنسية ورافق الثورات الأدبية الجديدة في العالم وتأثر بالأدب الفرنسي الكلاسيكي والحديث، وتحدث مرات عن شغفه بذاك الأدب ورواده بدءاً بفولتير وباسكال وانتهاء برائد الوجودية جان بول سارتر. ظل أوي يابانياً ولم ينحز مثل الروائيين الجدد إلى الثقافة الغربية، كما فعل مثلاً هاروكي موراكامي الذي حظي بشهرة كبيرة في اليابان والعالم. وكان أوي الروائي الملتزم، قام خلال سنواته الأخيرة، بحملة شرسة ضد سباق التسلح النووي هو المناضل من أجل حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ورفض "وسام الثقافة الياباني" عام 1994، وأوضح رفضه بالقول: "لن أعترف بأي سلطة أو قيمة أعلى من الديمقراطية".

إعاقة الإبن

كينزابورو أوي من الإعاقة التي أصابت وليده وحلت عليه كاللعنة القدرية، وظل طيف ابنه المعوق يطارده منذ أن ولد وربما قبل أن يولد، وحتى بدايات خريف عمر الأب، وكان الطفل المعوق بمثابة الامتحان العسير الذي لم يستطع أوي أن يتجاوزه، فاستسلم لليأس موقناً كل اليقين أنه هو نفسه واحد من المعوقين والمشوهين. لكن الابن الذي يحضر في أكثر من رواية بات أقرب إلى الرمز الذي يشي بالإنسان الحديث وشايته بالحضارة الحديثة واليابان الحديثة أيضاً، اليابان التي فقدت ماضيها وأصالتها ولم تعد تلك الأرض الأزلية كما تخيلها الروائي الياباني ميشيما الذي قضى انتحاراً، ولم يكن من المستغرب أن يصخب أدب أوي بالجنون والهذيان والشر والموت واليأس، وأن تمعن شخصياته في مواقفها السلبية من الحياة والعالم والتاريخ والعائلة وسائر القيم التي شهد الكاتب موتها.

لم يتوان أوي عن نسج الجو الطفولي القاتم والسوداوي الذي عاش فيه ابنه، عامداً إلى استعادة جزء من طفولته القاسية والمقفرة في قريته النائية، يغية مواجهة الآثار التي تركتها في سريرته غربته المدينية وقسوة المجتمع الحديث والهزائم والخيبات الكثيرة التي مني بها. ويعترف هو شخصياً بالصدمة التي أحس بها في طوكيو إذ يقول: "حينما استقررت في طوكيو شعرت أنني انحرفت عن حياتي الحقيقية وأنني صرت مجنوناً، وما برحت أشعر حتى اليوم أنني انفصلت عن بيئتي الحقيقية ولست أكتب إلا لأتحرر من ذاك الشعور".

لم تغب طفولة أوي عن أدبه ولا الطبيعة الأولى التي نشأ فيها ولا الغابات ولا الأشجار، فهو في نص روائي عنوانه "الجزاء" ضمه كتاب "علمنا أن نتجاوز جنوننا" يروي على لسان فتى مغامرة البحث عن بقايا العظام في إحدى المحرقات في وادي القرية. وفي نص آخرهو "يوم يكفكف دمعي بنفسه" يعمد الراوي الخاضع للعلاج في أحد المستشفيات، إلى إحياء صور من ماضيه تتعلق تحديداً بالمرحلة التي سبقت الهزيمة، هزيمة الحرب العالمية الثانية، وكان آنذاك صحب أباه "المجنون" في رحلة خطرة في قلب المعارك.

5 روايات بالعربية

ولئن كان كاواباتا وموراكامي حاضرين في المكتبة العربية من خلال الترجمة أكثر من أوي على رغم فوزه بـ "جائزة نوبل"، فقد نقلت له إلى العربية (حتى الآن) خمس روايات كانت آخرها روايته "إقتلعوا البراعم أقتلوا الاولاد" الصادرة العام الماضي عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ترجمة ديمتري أفييرينوس، وقد سبقتها روايته البديعة "الموت غرقاً" عن الدار نفسها، ترجمة أسامة أسعد (2019)، وتعد من أهم رواياته بحسب النقد الياباني، وكانت آخر رواية له بعدما قرر الانكفاء عن الكتابة بعد صدورها، كما صرح، وكان حينذاك في الـ 84 من عمره.  

أتت هذه الرواية بعد ثلاث روايات له ترجمت سابقاً وهي "مسألة شخصية" التي ترجمها الشاعر اللبناني وديع سعادة وصدرت عام 1987 عن "مؤسسة الأبحاث العربية" في سلسلة "ذاكرة الشعوب" وصدرت لاحقاً بعنوان آخر هو "هموم شخصية"، ورواية "علمنا أن نتجاوز جنوننا" التي ترجمها الكاتب المصري كامل يوسف حسين وصدرت عن دار الآداب عام 1988 في سلسلة الروايات اليابانية، ورواية "الصرخة الصامتة" التي ترجمها الشاعر العراقي سعدي يوسف وصدرت عن "دار المدى" عام 1998.   

 

ومعروف أنه ليس من السهل ترجمة هذا الكاتب الياباني من نواح عدة، ومنها صعوبة أسلوبه الذي لا يخلو من التعقيد ورحابة عالمه وتقاطع الشخصيات داخله ونزعته السردية التي تجمع بين الكلاسيكية والتجريب الحداثي والبعد التراثي والفلسفي الياباني داخل النسيج الروائي.  ومعروف أن هذه الروايات ترجمت عن الفرنسية والإنجليزية مثل كل الروايات اليابانية.

تبدو "مسألة شخصية" رواية مستقلة تنتمي إلى أدب السيرة الذاتية، أما مجموعة "علمنا أن نتجاوز جنوننا" فهي تضم روايات قصيرة وليست رواية واحدة أو مجموعة قصصية، وقد اختارت الدار فعلاً روايات قصيرة من بين أجمل ما كتب أوي مستوحياً تجربته الحياتية الخاصة ومعاناته والصراع العميق الذي عاشه بين انتمائه إلى الماضي وانجرافه القسري في الحاضر.  

أما الروايات القصيرة التي ضمها الكتاب فهي "علمنا أن نتجاوز جنوننا" و "يوم يكفكف دمعي بنفسه" و"الجزاء" و"أجوي المسخ السماوي"، وأهمية هذه المختارات أنها تمثل عالم أوي وتختصر سيرته الخاصة والروائية وأسئلته الميتافيزيقية وتأملاته، وبدا واضحاً الأثر الذي تركه في حياته وفي أدبه على السواء ابنه الذي ولد معوقاً عام 1963، وكان بمثابة الكابوس الذي تحقق فعلاً بعدما هجس به طويلاً متأثراً بالقنبلة الذرية التي ضربت هيروشيما وشوهت ما شوهت ومن شوهت.

وفي الرواية الطويلة "مسألة شخصية" والروايات القصيرة يتبدى أيضاً بوضوح موقف أوي من العصر الحديث وتبرز دعوته للعودة للطبيعة الأولى إلى "غرائب الغابة " كما يعبر، بحيث يمكن للإنسان أن يتطهر من الشرور والآثام والتلوث الذي أصابه.

خلف قناع البطل

يتوارى كينزابورو أوي في روايته "مسألة شخصية" خلف قناع بطله السلبي "بيرد"، ويعمد إلى سرد قصته الشخصية (قصة ابنه المعوق) ولكن عبر توهمه ظروفاً مختلفة وشخصيات مختلفة وواقعاً مختلفاً، غير أنه يجعل من الطفل المعوق ركيزة للأحداث والشخصيات التي يبتدعها، ومنها تلك التي تلبسها هو بنفسه ليفعل عبرها أو ليحقق من خلالها ما لم يستطع أن يحققه من أفعال شنيعة وشرور.

إنها سيرة ذاتية ولكنها مبعثرة وناقصة بل ومختلقة ومتخيلة تهيمن عليها الغريزة وليس العقل والكابوس ولا الحلم، و"بيرد" في الرواية مدرس ومثقف كان يحلم بالسفر إلى أفريقيا حين وافاه الخبر الأليم ومفاده أن زوجته وضعت طفلاً معوقاً.

تبدأ الرواية في لقطة جميلة، فـ "بيرد" يتنهد أمام خريطة القارة الأفريقية في أحد مكاتب السفر وكان جاء يسأل عن سعر البطاقة التي تخوله تحقيق حلمه القديم الذي لن يتحقق إلا في ختام الرواية، ولكن عبر عينيه المغمضتين حين راح يتأمل السفينة التي أبحرت نحو زنجبار حاملة عشيقته "إيميكو"، وبين الخريطة التي تأملها في مفتتح الرواية وبين صورته التي رآها في عيني طفله، في مرآة تينك العينين يلفي "بيرد" نفسه غامضاً إلى حد أنه لم يعرف نفسه، ولعل ما حدث بين ذينك الزمنين، أي بين مستهل الرواية وختامها، يسهل اختصاره، فيجد "بيرد" نفسه متردداً وضائعاً بعدما أنجبت زوجته الطفل المعوق أو المسخ الذي يحمل كما قال الطبيب فتقاً في دماغه .

كان عليه أن يغامر سعياً وراء حلمه، لكن ولادة الطفل معوقاً حالت دون المغامرة، إلا أنه يصر على تحقيق حلمه محاولاً قتل الطفل ومتعاوناً مع الطبيب الذي يقترح خطة سرية تقضي بإضفاء الماء على الحليب الذي يغتذي الطفل به.  

مغامرات مجنونة

ليست الاحداث هي المهمة في الرواية وإنما الجو الذي نسجه أوي وشاءه حافلاً بالارهاصات والكوابيس والمغامرات الصغيرة المجنونة والخطرة، فلقد جعل البطلين (بيرد وعشيقته) مثقفين وغير عاديين، فالعشيقة المتحررة كل التحرر والقادرة على استيعاب القتل تحقيقاً للحلم تحب مثلاً وليم بليك وكانت أعدت عنه أطروحة جامعية، أما الوالد الشقي والحالم فلن يتمالك إبراز ثقافته الفرنسية خصوصاً حين يشبه رأس ابنه المضمد برأس الشاعر الفرنسي أبولينير في احدى صوره الشهيرة، فهل كان أوي يتمنى أن يموت ابنه عوض أن يولد معوقاً؟ ألم يدفع هو ببطله إلى تلك المواقف المضطربة والمضطرمة ليعبر عما اعتمل في دخيلته من دون أن يفصح عنه أو من دون أن يجرؤ على الإفصاح عنه؟

لكن البطل لن يلبث أن يصحو من هذيانه فيسترجع ابنه المعوق ويعود لعائلته عودة الابن الضال، من غير أن تغيب العشيقة من ذاكرته.

إنه قرين الكاتب أو شبيهه، ألم يقل أوي يوماً إن ابنه هو الشخص الأهم في العالم؟ أولم تكن الكتابة في نظر أوي إلا محاولة للإجابة على سؤالين طرحهما معاً، ماذا استطيع أن أفعل لابني، وماذا نستطيع أن نفعل لمستقبل كوكبنا؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يستحضر أوي شخصية الابن المعوق في روايات أخرى ومن ابرزها الرواية القصيرة التي صدرت عن دار الآداب تحت عنوان "علمنا أن نتجاوز جنوننا"، لكن أوي يختلق هنا بطلاً مختلفاً تماماً عن الأب "بيرد" في الرواية السابقة، ويختار له كنية لا اسماً، فهو "البدين" المتأرجح بين والد مجنون وولد معوق، أي بين ماض سلبي وحاضر أو مستقبل لا يقل سلبية عنه، و"البدين" هو بدوره كاتب يشرع في كتابة سيرة والده انطلاقاً من بيان أمه، وكان والده أمضى أيامه الأخيرة وحيداً منقطعاً إلى نفسه وصامتاً ومتأملاً، والأم التي اتهمت الوالد بالجنون حين استغربت عزلته وصمته، لن تلبث أن تتهم ابنها "البدين" بالجنون أيضاً رافضة تسليمه ما تخفي من مخطوطات ومذكرات.

وفي حين يغرق "البدين" في كتابته سيرة أبيه يجد نفسه فجأة أمام وليده المعوق، فينقطع عن أبيه الذي يجهله ليدخل زمن ابنه المجهول بدوره، وهو الذي حاول إحياء صورة والده ليتعرف من خلاله إلى ماضيه، ويحاول أن يحيي حاضر ولده المعوق ليتعرف من خلاله إلى حاضره هو، وفي الختام يدرك "البدين" أن ما من جدوى لكتابة سيرة أبيه بعدما فقد علاقته بابنه، فيحرق الأوراق التي ضمت كل ما كتبه عن أبيه وحينذاك يعلم زوجته أنه لم يعد يعارض إيداع ابنه في معهد للأطفال المعوقين.

"الموت غرقاً"

أما رواية "الموت غرقاً" فتدور أحداثها في جو يجمع بين الأسطورة والفانتازيا والتاريخ والسيرة الذاتية، وهذه الرواية التي يرجح أن تكون آخر رواية لصاحبها المولود عام 1935 فتسعى إلى استكشاف الأعماق المضطربة الكامنة في الروح الإنسانية الفردية والجماعية، إنها أشبه برواية داخل رواية، فالبطل كوغيتو شوكو روائي يصاب بحال من الاضطراب جراء السر الذي اكتنف موت أبيه غرقاً، ويعجز عن إكمال رواية كان بدأها وتدور حول هذا السر الذي يخفيه الصندوق الأحمر ومحتوياته، ومن دون هذا الصندوق الذي يحفظ السر لن يتمكن من أن يتحرر من عقدة الذنب التي تسيطر عليه وتجعله يشعر أنه تهرّب من إنقاذ أبيه، والمفارقة تكمن في أن الصندوق الأحمر كان بحوزة أمه التي أصرت على حجبه عنه حتى بعد رحيلها لئلا يتسبب في إحداث فضيحة غير متوقعة، ولعل حال الاضطراب هذه تجعل شوكو عاجزاً عن وضع حد فاصل بين ذكرياته وتخيلاته وأحلامه، فهو لا يعرف أين تبدأ الحقيقة وأين يبدأ الحلم، ويجهل الدور الذي يؤديه الذنب في طمس الذكريات، وقد حاول شوكو اكتشاف السبب الذي دفع والده إلى الإبحار بقاربه في النهر وسط الفيضان الجارف الذي كان يهدد القرية كلها بالغرق، وفشل في اكتشاف السبب.

 ويبرز هنا سر آخر وهو سر "مخطط" الثورة الذي تردد على مسامعه ويهدف إلى شن هجوم على الإمبراطور ميكادو، ولعل المفاجئ في هذه الرواية القائمة على لعبة السرد داخل السرد والمسكونة بمسائل الفن وقضايا الأمل والموت هو استعانة الروائي بأسماء غريبة داخل السياق السردي مثل الشاعر تي إس إليوت والموسيقار بيتهوفن والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد والباحث في الميتولوجيا جيمس فريزر صاحب موسوعة "الغصن الذهبي"، أما شخصيات الرواية فهم "شيكو" و"الشقيقة آسا" و"الوالدة والوالد"، وقد نجح أوي في سبك أحداث الرواية ووقائعها وشخصياتها في سياق قائم على تقنية الرواية داخل الرواية.

وفي مختصر سيرة أوي أنه ولد في جزيرة شيكوكو غرب اليابان، واتسمت سنوات شبابه بآثار الحرب مع هيمنة الدعاية العسكرية على أيام دراسته، و شكلت هزيمة اليابان عام 1945 بعد إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي صدمة له.

ترك أوي قريته ليدرس الأدب الفرنسي في جامعة طوكيو وانغمس في الفلسفة الوجودية والفلسفة الإنسانية في عصر النهضة وبدأ كتابة الروايات عندما كان طالباً، وفي عام 1958 فاز بجائزة "أكوتاغاوا" اليابانية المرموقة للكتّاب الشباب، وفي العام نفسه نشر روايته الأولى، وفي عام 1963 انقلبت حياة أوي الشخصية رأساً على عقب مع ولادة ابنه هيكاري الذي يعاني إعاقات ذهنية، ثم نشر سلسلة من الروايات المستوحاة من وضعه العائلي، وأثارت مواقفه الرافضة والمتمردة غضب القوميين اليابانيين، وتعرض للتهديد والاعتداء في الستينيات بسبب رواية حول إرهابي مراهق من اليمين المتطرف.
اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة