Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العسكر والانتقال السياسي في السودان

من شبه المؤكد اليوم أن هناك اتجاهاً تحكمه إرادة دولية قوية وموحدة للتعجيل بحكومة مدنية مستقلة

حيوية الثورة السودانية واستمرار التظاهرات طوال عام دفع المجتمع الدولي إلى النظر إليها كاستثناء يستحق الدعم (أ ف ب)

منذ أن ظهر قائد الجيش الفريق #عبدالفتاح_البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، أي #يوم_الانقلاب، على شاشة التلفزيون السوداني وألقى بياناً عسكرياً مقتضباً ضمنه وعوداً لم يتحقق منها شيء، وبدا في مشهد إعلان الانقلاب وحيداً من دون أن يكون إلى جانبه قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي" ونائبه في مجلس السيادة، كان واضحاً منذ تلك اللحظة أن ذلك الانقلاب لن يكتب له النجاح، ليس فقط بسبب أن تدمير جهاز الدولة العام منذ 30 عاماً على يد نظام الإخوان المسلمين أثبت بما لا يدع مجالاً للشك استحالة حكم العسكر وعجل من ثم بقيام ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، بل كذلك لفشل آخر يمتنع فيه أن ينجح انقلاب ذو رأسين، تقف على رأسه قوتان عسكريتان لكل واحدة منهما منطقها الخاص.

 لهذا يمكن القول على ضوء ذلك أن البيان الذي خرج به قائد الجيش على الشعب السوداني في 4 يوليو (تموز) الماضي وأعلن من خلال التلفزيون نية العسكر في الانسحاب من إدارة السلطة السياسية للبلاد (وتبعه قائد الدعم السريع بأيام من ذلك الإعلان مؤكداً الأمر ذاته)، كان بمثابة تصفير للصراع الخفي والخطر بين القوتين العسكريتين (الجيش والدعم السريع) الذي كان من الواضح جداً أن أي استمرار للانقلاب سيكون نتيجة حصرية لانتصار طرف منهما على الآخر، على رغم امتناع أن يعد انتصار أحدهما انتصاراً للسودان.

نقول هذا بمناسبة تصريحات البرهان قبل يومين حول ضرورة دمج الدعم السريع في الجيش بطريقة كانت أقرب إلى المزايدة منها إلى الحقيقة، لأن بند دمج الدعم السريع في الجيش هو أحد بنود الاتفاق الإطاري الذي وقع عليه كل من البرهان وحميدتي في 5 ديسمبر الماضي، وبدت كما لو أنها تصريحات تعكس موقفاً مغايراً من تصريحات "حميدتي"، ظل يؤكد فيها بين حين وآخر استمرار التزامه بالاتفاق الإطاري وحرصه على تنفيذه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تصريحات البرهان وكذلك تصريحات الفريق شمس الدين كباشي، إذا ما عرفنا أن لا فحوى جديدة لها من حيث أنها تأكيد للمؤكد، لكنها بصيغة إخراجية ما تضمر خطاباً آخر يحاول التشويش على الثقة بإمكانية تنفيذ الاتفاق الإطاري من منطلق الإيحاء بحال من التباين بين الجيش والدعم السريع في موقفهما من الاتفاق الإطاري، وهو ما سنكتشف معه أنها تصريحات ذات طبيعة نسقية لا يمكن أن تعكس حقيقة ما يتم الإعداد له للمضي قدماً من أجل تنفيذ الاتفاق الإطاري.

وإذا ما حاولنا أن نختبر فحوى لرسالة ما في مضمون تصريحات كل من البرهان والكباشي بين حين وآخر، فسنجد أنها بمثابة رسائل وتلويحات تعكس غزلاً معرقلاً قد يدفع جهات سياسية أخرى مهمة إلى التلكؤ في التوقيع على الاتفاق الإطاري مثل كل من حركتي "العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم و"جيش تحرير السودان" بقيادة مني مناوي لأن ما يلاحظه المراقب أنه كلما خرجت أنباء عن قرب توقيع هاتين الحركتين على الاتفاق الإطاري نسمع مثل تلك التصريحات التي يطلقها البرهان بين الفينة والأخرى.

من شبه المؤكد أن اتجاه الأوضاع السياسية اليوم في السودان ينحو بنا إلى القول إنه اتجاه تحكمه محركات إرادة دولية قوية وموحدة تسعى إلى ممارسة ضغوط كثيرة للتعجيل بحل سياسي يقوم على حكومة مدنية مستقلة عن سلطة العسكر.

 ويبدو واضحاً أنه منذ مجيء مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون القرن الأفريقي في الإدارة الأميركية مولي في خلال يونيو (حزيران) الماضي لاحتواء آثار زيارة حمديتي الكارثية إلى موسكو في 24 فبراير (شباط) الماضي، كانت الوقائع تتجه إلى ترتيب ملامح لحل سياسي جاد في السودان يدفع إلى مضي المجتمع الدولي فيه عاملان، هما حيوية الثورة السودانية واستمرار التظاهرات طوال عام كامل، الأمر الذي دفع المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة إلى النظر للثورة كاستثناء يستحق الدعم في المنطقة، والسبب الثاني احتواء الوجود الروسي الخطر في منطقة غرب أفريقيا ووسطها، لا سيما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.

فالولايات المتحدة تدرك الأهمية الاستراتيجية للسودان على البحر الأحمر وساحله الذي يمتد على مدى أكثر من 700 كيلومتر وما يعنيه ذلك من موقع جيوسياسي يمنح ميزة إضافية للسودان في كونه معبراً إلى وسط أفريقيا وغربها من ذلك البحر، لهذا بعد انقضاء زيارة مولي في رأينا تداعيات دالة ومؤشرات واضحة إلى نجاح زيارتها ونفاذ الضغوط الأميركية، بحيث تم تأجيل النظر في بناء القاعدة الروسية على البحر الأحمر، إلى جانب إعلان العسكر بعد زيارة مولي في الانسحاب من العملية السياسية وقبول "حميدتي" للمرة الأولى بفكرة دمج قواته في الجيش وتحركه إلى دارفور لفرض الأمن هناك ونجاحه النسبي في ذلك وهدوء الأوضاع الأمنية في شرق السودان. كما كان واضحاً أن الترتيبات الدولية والإقليمية وجهود الآلية الثلاثية عادت إلى استئناف دورها بعد انفتاح الأفق السياسي على إثر إعلان العسكر انسحابهم من العملية السياسية.

فالوقائع التي ذكرناها آنفاً رسمت ملامح لواقع أمني جديد داخل المسرح السابق لعمليات شد الأطراف في شرق السودان وغربه انتهت بموجبه تلك العمليات في كونها استراتيجية للمكون العسكري طوال سنتي الشراكة مع حكومة الحرية والتغيير خلال عامي 2020 – 2021 بحثاً عن الاستمرار في السلطة. والواقع الأمني الذي ترسمه هذه الوقائع الجديدة سيترتب عليه بالضرورة واقع سياسي جديد ترسم ملامحه العملية السياسية الجارية اليوم في السودان.

هكذا بدت تلك الوقائع ردود فعل واضحة على المتغير الجديد الذي حرك به المجتمع الدولي استئنافاً لضغوطه النوعية، وصولاً إلى التوقيع على الاتفاق الإطاري، مما يجعلنا نعتقد بأن الأرجح في تصريحات البرهان وكباشي أنها مزايدات لا تعكس حقيقة ما يقال في محتوى تصريحاتهما، الأمر الذي نقدر معه دنو اتفاق وشيك سيصار إليه بين الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري وبين كل من حركتي جبريل ومناوي.

ثمة حيثيات كثيرة تدفع إلى مضي العسكر للنهاية في ترتيبات الاتفاق الإطاري، على رغم التصريحات التي يطلقها البرهان بين حين وآخر، ليس فقط لكون "الإطاري" هو الاتفاق الأكثر مقبولية وشفافية عبر الوقائع السياسية التي مهدت له، بداية من توسيع الحرية والتغيير لتحالفها الذي ضم إليها ما سمي "قوى الانتقال الديمقراطي" (وهي القوى التي دانت الانقلاب كحزب المؤتمر الشعبي وبعض القوى المدنية وفصيل من الحزب الاتحادي الأصل) مروراً بالإجماع الذي حظيت به ورش نقابة المحامين السودانيين ولجنتهم التسييرية التي نجحت عبر تلك الورش في الخروج بمسودة دستور انتقالي رضي بها المجتمع الدولي والعسكر وطيف واسع من القوى السياسية التي وقعت في ما بعد على الاتفاق الإطاري لتكون مقترحاً مقبولاً كدستور لحكم المرحلة الانتقالية المقبلة، وكذلك قبول القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري التوقيع عليه بصفتها أحزاباً فردية لا أحلافاً. ليس لذلك فحسب، بل كذلك كان للموقف الصلب الذي وقفته قوى الحرية والتغيير – المركزي دور حاسم ضد محاولات العسكر الأولى في يونيو الماضي (قبل إعلان نيتهم الانسحاب من إدارة السلطة السياسية في 4 يوليو) في تحفيز قوى سياسية داعمة لانقلابهم مع بعض المتحالفين معها من أنصار النظام السابق ودفعهم إلى المشاركة في العملية السياسية التي حاولوا إطلاقها بدعوى توحيد القوى السياسية من أجل الحل الوطني، لكن مقاطعة الحرية والتغيير لأي حوار مع القوى والأحزاب التي أيدت الانقلاب بصورة حاسمة هي التي أوقفت محاولة العسكر إغراق العملية السياسية خلال يونيو الماضي.

هكذا ومن خلال إصرار تحالف قوى الحرية والتغيير القاطع على الحوار مع العسكر على بند واحد فقط هو إنهاء الانقلاب وخروج العسكر من السلطة، أسفرت الضغوط الدولية والإقليمية بعد ذلك عن موافقة العسكر على مسودة الدستور الانتقالي لورشة نقابة المحامين كأساس للتفاوض، حتى انتهى الأمر إلى توقيع الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر بين العسكر وأطراف سياسية ومدنية وازنة.

لقد كان الاتفاق الإطاري إلى جانب الجدية التي تمخضت عنها ترتيبات ما بعد التوقيع عليه من تحديد للأزمة السياسية السودانية في خمس ملفات وتحديد خمس ورش للحوار حولها مع القوى السياسية الموقعة على الاتفاق وأصحاب المصلحة، وهي القضايا الرئيسة الخمس لمرحلة الانتقال السياسي المقبلة، وتتمثل في قضايا العدالة والعدالة الانتقالية والإصلاح الأمني والعسكري واتفاق جوبا لسلام السودان وإكمال السلام وتفكيك نظام الـ30 من يونيو وقضية شرق السودان.

ليس الاتفاق الإطاري المبذول حالياً كأساس لعملية سياسية تنهي سلطة العسكر شبيهاً باتفاق 17 أغسطس (آب) 2019 الذي رعاه الاتحاد الأفريقي، لا من حيث القوى السياسية السودانية الموقعة عليه، ولا من حيث إجماع القوى الدولية والإقليمية الداعمة له، ولا من حيث طبيعة الدستور الذي يعبر عنه، ولا من حيث المؤشرات الأمنية الدالة على المضي فيه في سياسات العسكر، لذلك يمكن القول إن تصريحات قادة العسكر جزء من مزايدات نسقية في القول ولن تؤثر في مضي الاتفاق إلى نهايته التي ستتوج بالتوقيع على إعلان سياسي نهائي ينهي سلطة العسكر وتقوم بناء عليه حكومة مدنية مكونة من كفاءات وطنية مستقلة، إلى جانب استكمال بقية هياكل السلطة المتصلة بالمرحلة الانتقالية، وصولاً إلى انتخابات حرة نزيهة بعد عامين من سريان بنود الاتفاق النهائي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل