Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الكاتب الشبح" لرومان بولانسكي يعزل أبطاله في الجزيرة ويوصلهم إلى اللامكان

أنصار توني بلير يغضبهم فيلم يقدم زعيمهم كعضو في جمعية سرية إجرامية

مشهد من فيلم "الكاتب الشبح" (2010) لرومان بولانسكي (موقع الفيلم)

قلة من المخرجين المنتمين إلى جيل #رومان_بولانسكي، السينمائي البولندي الأصل، يماثلونه في انتقائية مواضيعه مقابل ثبات لغته السينمائية وأسلوبه في التعاطي مع أفلامه. أضف إلى هذا أن بولانسكي هذا قد يعتبر آخر الكبار، سناً وفكراً في #السينما_العالمية وإن كان من الصعب اعتباره "آخر بدو" #الفن_السابع المتنقلين من مكان إلى آخر، وواحداً من آخر الذين ينظرون إلى الفن السينمائي تلك النظرة الجدية التي سادت تحديداً خلال سنوات الستين، ولكن ناقصة ذلك البعد السياسي و"النضالي" الذي كان عصب السينما في تلك السنوات الزاهية.

والحقيقة أننا ما أسهبنا في هذا التقديم إلا للحديث في استعراضنا لواحد من أقوى أفلامه الأخيرة هنا عن الجانب الذي يبدو مناهضاً في نهاية الأمر لما اعتدناه من سينما لدى بولانسكي الذي تنوعت أفلامه منذ بداياته البولندية وصولاً إلى ما حقق في هوليوود قبل أن يبارحها إلى أوروبا ولا سيما فرنسا مطروداً من "الفردوس" الأميركي لأسباب أخلاقية وليس كما جرت العادة مع من كانوا ينشقون عن بلدانهم في ما كان يسمى "المنظومة الاشتراكية"، لأسباب سياسية أو أيديولوجية. فبولانسكي الذي غادر بولندا وقد بات سينمائياً معروفاً لم ينظر إلى تلك المغادرة بوصفها انشقاقاً وتحديداً لأنه ولد أصلاً في فرنسا وترعرع فيها، فها هو يعود الآن إلى مسقط رأسه مستنكفاً حتى عن تقديم أي تبرير لذلك.

 

 

ألماني لا يخلو من إيجابية!

ومن هنا يبدو لافتاً أن بولانسكي نادراً ما حمّل أفلامه التي حققها خارج بولندا أية أبعاد سياسية مفضلاً، حتى حين يحمّل فيلماً ما من أفلامه، التي تتنوع كثيراً في مواضيعها كما في المصادر، الأدبية أو المسرحية التي ينهل منها، بعداً يدنو من السياسة، أن يركز على أبعاد شعبية واضحة. وذلك ضمن إطار انتقائيته التي ارتبطت لديه بحب للسينما الجادة من دون أن تشتط في ذلك، والجادة في رغبة مبدعها في اللجوء إلى مواضيع غالباً ما تكون قريبة من المذاق العام لمحبي السينما. ومن هنا كان لافتاً أنه حين دنا من بعد أيديولوجي دنا بالتوجه الشعبي نفسه على إثر فشل مشروع له عن قضية المذابح التي تعرض لها يهود أوروبيون كثر على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية (مقتبساً سيناريو اشتغل عليه ستانلي كوبريك قبل رحيله)، إذ دنا من خلال مذكرات عازف بيانو يهودي بولندي شهير أنقذه عزفه الرائع في وقت كان يهرب في وارسو المحتلة من القوات الألمانية لمجرد أن ضابطاً ألمانياً محباً للموسيقى "قبض عليه" بالجرم المشهود واستبقاه بل أنقذه من موت مؤكد. كان ذلك في فيلم "عازف البيانو" الذي فاز بالسعفة الذهبية حين عرض في مهرجان "كان" ذات دورة، فنال نجاحاً شعبياً ونقدياً كبيراً بينما هاجمه كثر من اليهود بوصفه "قدّم الضابط الألماني بصورة إيجابية". مهما يكن، ليس هذا موضوعنا هنا، موضوعنا هو فيلم أحدث لبولانسكي ويبدو أكثر اقتراباً من السياسة من "عازف البيانو" وهو مقتبس من رواية بدت أكثر تسيساً، من كتابة روبرت هاريس المعروف برواياته المرعبة والبعيدة من السياسة المباشرة بدورها.

زعيم "العمال الجدد"

إذاً في الفيلم الذي نتحدث عنه هنا وهو "الكاتب الشبح" التقى مخرج يفضل ألا يخوض السياسة المباشرة في سينماه، بكاتب لا يقل عنه رغبة بدوره في الابتعاد عن السياسة، عبر عمل مشترك سينظر إليه النقاد على أنه سياسي بامتياز، ومنهم بخاصة غلاة أنصار الزعيم السابق لحزب "العمال الجديد" "نيو ليبور" في بريطانيا ورئيس الحكومة الأشهر في التاريخ البريطاني الحديث بعد ونستون تشرشل ومرغريت تاتشر. ومع ذلك، ليس ثمة ذكر لتوني بلير في الفيلم، بل إن الفيلم يروي حكاية مختلقة لم تحدث لا لبلير ولا لغيره، على طريقة "الديستوبيا" (أي اختراع تاريخ لم يحدث بالفعل، لكنه يمكن أن يحدث)، بل إن رئيس الحكومة البريطانية السابق المعني هنا يدعى آدم لانغ ويقوم بدوره بريس بوزنان، النجم الذي لا يجمع سماته بسمات بلير أي جامع. ومع ذلك، رأى معظم متفرجي الفيلم أن في بوزنان كما في ابتسامته الساخرة من الشفافية ما يشي بأنه يحاول أن يكون بلير نفسه (!). لكن لانغ هذا ليس هو الشخصية المحورية في الفيلم، لأن المحور يدور من حول كاتب شبح (من النوع الذي "يستأجره النجوم والسياسيون من كبار هذا العالم ليكتب باسمهم مذكراتهم ثم يختفي ذكرهم من الوجود ومن هنا يكونون كتاباً وأشباحاً في الوقت نفسه) يقوم بدوره إيان مكريغور الذي يحمل الفيلم صفته هذه عنواناً له.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فلئن كان هذا الكاتب يبقى في الظل عادة، فإن وجوده في هذا الفيلم هو الأساس الذي جعل "الكاتب الشبح" عنواناً للفيلم ناقلاً إياه من عالم السياسة إلى عالم التشويق البوليسي ربما، على طريقة هتشكوك (ألفرد) الذي كثيراً ما استلهمه بولانسكي على أية حال، مع إطلالة "مسرحية" من خلال شخصية زوجة لانغ التي تبدو هنا أشبه بـ "الليدي ماكبث" الشكسبيرية التي تبدأ الحكاية من خلال تحرضها زوجها على اللجوء إلى كاتب "شبح كي يكتب حكايته في رئاسة الحكومة"، والتحري ربما لإخفاء خلفيات مشتبه فيها في ممارساته السياسية،  ولكن بدلاً من ذلك سيحاول الكاتب أن يثبت أنها مرتبطة بمؤامرة سياسية يمينية متطرفة ناتجة في نهاية الأمر من نشاطات جمعية سرية، سيثبت الكاتب من خلال التحقيقات التي يقوم بها في عزلة الجزيرة التي للانغ فيلا فخمة فيها ومن الصعب الوصول إليه فيها.

جمعية إجرامية دولية

واضح هنا أن التطورات المتعلقة بالكاتب الشبح السابق القتيل، موضوع كان هو ما أغرى رومان بولانسكي، لا البعد السياسي في الحكاية، بأفلمة هذا السيناريو بعدما كتبه مع هاريس نفسه، غير أن الموضوع بأسره بدا شفافاً في إشارات واضحة إلى توني بلير وسياساته الإجمالية إذ استعير ليكون المحرك الأساس وراء تطور الأحداث بل حتى أمام نهايتها التي من الصعب توقعها بما في ذلك المحاولات المتعددة للتخلص من الكاتب الشبح الجديد وإلحاقه بسابقه، وقد اكتشف أوراقاً ومخطوطاً وأُخبر عن تفاصيل غريبة تكشف أن موت الكاتب الشبح السابق لم يكن انتحاراً كما كان قد أعلن قبل ذلك؛ بل كان قتلاً. واليوم، ها هو الكاتب الجديد، بدلاً من أن يهتم بالعمل على النص المطلوب منه وقد عثر في ثنايا نص سلفه على إشارات كثيرة مشتبه فيها، ها هو يستغل غياب لانغ لمهام في العاصمة بعيداً من الجزيرة، ليلتقي بعض الأشخاص ومنهم من كان مجرد شاهد على ما يحدث، لكن منهم من يبدو مرتبطاً بالجمعية الإجرامية الدولية التي رتبت الحكاية من أساسها بما في ذلك في نهاية الأمر اغتيال الكاتب الشبح الأول. وانطلاقاً من الوقائع الجديدة، وصل الكاتب الشبح الجديد إلى كتابة ما هو مطلوب منه، ولكن مع تعديلات وإضافات لم تكن في الحسبان، لينتهي الأمر باستكمال النص ولكن بصيغة تفضح المجرمين، وهو نص تلقى صفحات منه في احتفال لندني يفاجئ الجميع. ولكن قبل أن تختتم الحكاية بتطاير أوراق المخطوطة في الشارع تحت وقع رياح عاتية تتواكب مع محاولة القضاء على الكاتب بالنظر إلى أنه خرق الاتفاق وحول المذكرات التي كلف بكتابتها إلى محضر اتهام للانغ وللجمعية السرية التي تقف في خلفية مشروعه، وكان مطلوباً أن يكون النص نوعاً من التغطية على حقيقة ما حدث.

سينما سياسية؟

ذلك هو، باختصار موضوع هذا الفيلم الذي جرؤ فيه بولانسكي على تتبع حكاية تبدو في ظاهرها تشويقية متخيلة لكن كثراً أدركوا أن هذه الحكاية الخيالية إنما تغطي حكاية سياسية سوف يؤكد بولانسكي أنها لم تحدث في الواقع، غير أن ما لم يتمكن من تأكيده هو أن مثل هذه الحكاية يمكن أن تحدث، بل لا شك تحدث كثيراً في عالم السياسة وفي أرقى الديمقراطيات حيث اللعبة تكون أكثر خطورة وعنفاً مما حالها في أي مكان آخر. ولربما يمكننا التساؤل والوضع كذلك: أفلا يمكن أن تكون السينما السياسية الحقيقية على هذه الشاكلة بدلاً من أن يُكتفى بها فضحاً لا يجدي نفعاً في نهاية المطاف؟

المزيد من ثقافة