Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أوريليان" حكاية حب لم يبدأ أو يكتمل

600 صفحة كتبها الفرنسي لويس أراغون متخفياً مطارداً لرواية لا تقول شيئاً

الشاعر والروائي الفرنسي لويس أراغون (غيتي)

بدءاً من عام 1940 الذي غزا فيه الألمان النازيون الأراضي الفرنسية عند بدايات الحرب العالمية الثانية و"سلموا الحكم" إلى المارشال الخائن بيتان، وحتى عام 1945 الذي انتهت فيه تلك الحرب وتمكن المقاومون بالسلاح أو بالقلم أو بأي وسيلة أخرى من الخروج من مخابئهم علناً أو العودة من منافيهم، انهمك الشاعر المقاوم لويس أراغون، في كتابة مئات الصفحات متنقلاً بأوراقه من مخبأ إلى آخر محاولاً الحفاظ على قدر من التماسك، في الوقت نفسه الذي راح يشارك فيه في المقاومة ضد الاحتلال.

خط خلال تلك السنوات رواية في نحو 600 صفحة خيل لقرائه أول الأمر أنه يصف فيها تجربة الحرب والمقاومة التي عاشها بنفسه، لكنهم حين قرأوها وقد صدرت أخيراً في عام 1945، كانت خيبتهم كبيرة. فليس في رواية "أوريليان" أي شيء من ذلك، بل إن "أحداثها" تدور قبل ذلك بنحو 20 عاماً في باريس بشكل أساس. صحيح أن في الرواية حرباً، لكنها حرب أخرى كانت قد انتهت حين تبدأ أحداثها. وهي الحرب العالمية الأولى، التي كان بطل الرواية التي عنونت باسمه قد خاضها لكنه سرح منها بعدما لم تعد ثمة حاجة إلى جنود مقاتلين.

العودة من حرب أخرى

ولكن حتى بالنسبة إلى تلك "الحرب القديمة"، ليست هي الموضوع بل الموضوع حكاية غرام تروى لنا على طول تلك الصفحات. فهل ترانا قلنا "أحداثاً" وأشرنا إلى "حكاية حب" في السطور السابقة؟ أبداً فليس في "أوريليان" لا أحداث حقيقية ولا حكاية حب. بالأحرى فيها حكاية "لا حب" نتعايش معها ثم نكتشف استحالتها، ثم تكاد تعود من جديد. ثم من جديد تبدو مستحيلة. وهكذا.

من الغريب أن استحالة هذا الحب ليست لدواع وجودية أو عاطفية أو حتى ظرفية. ففي الواقع ليس ثمة ما يحول دون اكتمالها سوى أن الشاب الذي يفترض أن تكون حكايته، أوريليان تحديداً، لم ير في الفتاة التي يفترض أن تحبه وتسير العلاقة بينه وبينها بشكل منطقي ما يدفعه إلى استساغتها. تلك هي الحكاية إذاً؟ ثمة شاب لم تعجبه الفتاة "المتاحة له" ولسوف تبقى الأمور هكذا حتى النهاية طوال سنوات.

ومع ذلك سوف تجد الرواية قراءها وتطبع مرات ومرات. والحال أننا إذا كان لنا أن نسأل عن حيثيات ذلك "النجاح" ربما كان علينا أن نكتفي بواقع أن "أوريليان" تدور في مناخات المثقفين الفرنسيين إلى درجة أنه لن يصعب على القارئ الملم بالحياة الثقافية في فرنسا في ذلك الحين، أن يتلمس من خلال شفافية الشخصيات التي صورها أراغون، عدداً من مشاهير تلك الحياة في ذلك الزمن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أقنعة لشخصيات حقيقية

فأوريليان في الحياة الحقيقية كان صورة عن دريو لا روشيل، الذي كان صديقاً حميماً لأراغون قبل أن يقف في صف النازيين وينقطع الوصل بينهما. غير أن هذا الجانب من الحكاية لا وجود له في الرواية (!)، ومن بين الشخصيات الأخرى ثمة رسام يدعى زامورا وهو قناع في الحقيقة للرسام السريالي بيكابيا، وحتى أندريه بريتون زعيم التيار السريالي الذي كان أراغون ينتمي إليه في الزمن الذي يفترض أن الحكاية تدور فيه، بريتون هذ موجود في "أوريليان" تحت ملامح الكاتب مينيستريل. أما بالنسبة إلى "الحبيبة" المرفوضة من قبل أوريليان، وتدعى هنا بيرينيس، فإن الفضوليين لم يحتاجوا للبحث طويلاً كي يدركوا أن أراغون قد استعار ملامحها، وربما جزءاً من حكايتها أيضاً من حسناء تدعى دنيز ليفي، عرفت بكونها واحدة من الفتيات اللاتي أغرم أراغون نفسه بهن ولم يتجاوبن معه. فهل تراه ثأر منها في هذا الدور الذي جعله لها في الرواية؟

 سؤال مطروح، لكن ما يفوقه أهمية هو الدور الثانوي الذي أسنده أراغون لنفسه من خلال دور الشاعر بول ديني. فبول هذا يكاد حضوره لا يلحظ وذلك مثلاً على العكس من حضور أراغون، وباسم مستعار بالطبع في رواية للأروشيل نفسه هي "جيل" التي بدت للنقاد وكأنها نوع من الرد على رواية "أراغون". غير أن قلة فقط من النقاد توقفت عند هذا الأمر. فالأهم منه بالطبع كانت حكاية أوريليان نفسه الذي كان عند بداية تلك الحكاية قد عاد لتوه من الحرب التي خاضها على الجبهة، وها هو اليوم راغب في أن يخلد إلى الكسل.

ترياق ضد كسل مرغوب

لكنه إذ يلتقي في باريس وهو في أوج كسله مستمتعاً بالحياة الباريسية التي كانت في قمة جنونها، يلتقي صديقاً له يدعى ريمون يقدمه بسرعة إلى ابنة عم له هي الريفية بيرينيس. والحقيقة أن هذا التقديم يستشعره أوريليان كمحاولة من ريمون للثأر منه كرد على ما سبق لأوريليان أن حاكه في شأن يتعلق بزوجته.

في البداية إذا يبدو واضحاً أن ثمة عوامل عديدة تحول بين أوريليان وتبادل الإعجاب مع بيرينيس، ويتجدد رفضه لها في كل مرة يلتقيان فيها. غير أن هذا كان لا مفر من أن ينتهي يوماً. وهكذا يبدأ نوع من التقارب بين أوريليان وبيرينيس، لكنه تقارب غير صادق. إذ في كل مرة ينتهي الأمر بإحساس الفتى أنه غير قادر على الارتباط بالفتاة. وهو شعور لا شك أنه معد لها أيضاً خصوصاً أنها تشاركه بالتدريج الشعور بأن ثمة في ما بينهما نوعاً من اللاتواصل ناتج عن تفاوت المزاج بينهما.

 

 

لنذكر هنا أن الكاتب والناقد جان بولان الذي كان من أوائل الذين أبدوا مقتهم للرواية كان قد أعطى الضوء الأخضر للتغاضي عنها إذ اشتهر قوله بصددها: "600 صفحة تنتهي بعدم حدوث أي شيء؟ ترى أوليس من الأفضل أن يمارس أوريليان الحب مع بيرينيس وتتوقف الحكاية هنا؟". ومع هذا فإن ثمة من بين النقاد من أثنى على الرواية، من ناحية لأنها عرفت كيف تقابل صخب الحياة الثقافية الباريسية في ذلك الحين، بذلك الجمود الذي يتألف من عدد كبير من اللقاءات الخائبة بين أوريليان وبيرينيس، ومن أخرى لأن الرواية تكاد تترجم بالتحديد واحداً من أجمل أبيات الشعر التي كتبها أراغون، "ليس ثمة من غرام سعيد في دنيانا" وهو شعر كتبه أراغون على أي حال خلال الحقبة نفسها التي كتب فيها "أوريليان". ترى أفلا يمكننا أن نستنتج من هذا التزامن أن أراغون كان متسقاً مع نفسه في كتابته لرواية "اللاحب" هذه؟

مجرد مراقب

مهما يكن يبقى خارج إطار هذا البعد الشخصي للرواية، إبداع أراغون حقيقياً في وصفه الحي لتلك الحقبة الصاخبة من الحياة الباريسية حينه، وتحديداً من منظر بول ديني (قناع أراغون نفسه في "أوريليان") فلئن كان هذا الشاعر الشاب، ونتحدث طبعاً عن ديني لكننا قد نكون أيضاً كمن يتحدث عن أراغون نفسه، قد وصف تجواله في باريس، كمراقب إنما من دون أن يكون فعالاً في أي أحداث أو مواقف، وسط أجواء سيطرة الفنون والآداب السريالية التي كانت سائدة واجتذبت بسرعة الجمهرة الأكثر عدداً والأكبر موهبة بين كل المتطلعين إلى المجد الأدبي، وإلى المشاركة في صخب الحياة وزهوها الأخاذ.

لا شك أن ما يحاول أن يصوره الكاتب هنا من خلال شخصيته كشاب يرصد ما حوله، إنما هو شيء من سيرته الذاتية من دون أن يبدو عليه أنه يفعل ذلك. بل ربما يكون علينا في هذا السياق نفسه أن نلتقط تلك الإشارات الخفية أو نصف الخفية التي يسعى أراغون إلى بثها في كتابته، وتحديداً من خلال رواية تبدو في نهاية الأمر وكأنها تتحدث عن آخرين يعرفهم ويريد أن يرسم خواء عواطفهم، وبالتالي ينزه نفسه عن ذلك الخواء. ولعل هذا التفسير يبقى الأقرب إلى الغاية التي توخاها أراغون وقد تخلى عن سيرياليته ليخوض السياسات اليسارية فأراد بذلك أن يقطع تماماً مع ماض أراد الآن أن يقول إنه لم يكن فيه أكثر من مشاهد من الخارج.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة