Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رسامو البندقية صوروا مشاهدها بلغة وألوان ومقاسات سينمائية

الكاتب المغربي الطاهر بن جلون يستذكر المدينة الإيطالية حين كانت "تحب العرب"

من لوحات كاناليتو "استقبال في القناة الكبرى" (1730 – 1739) (موقع الرسام)

لو حاولنا أن نلجأ بعض الشيء إلى مخيلاتنا السينمائية فاستخدمنا بعض مصطلحات الفن السابع لإيجاد نوع من المقارنة بين ما لا يقل عن لوحات أربعة من كبار الذين خلدوا حياة المجتمع البندقي (فينيسيا) في إيطاليا قبل نحو قرنين من اختراع السينما، لوجدنا أنفسنا فوراً أمام مصطلح "الزوم" الذي يستخدم اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي في غير موضعه. هو الذي كان في اللغة السينمائية يعني طول القرن العشرين تلك الحركة التي تقترب بها الكاميرا بتحريك عدستها يساراً أو يميناً أم تبتعد في تصويرها مشهداً معيناً، فتكون النتيجة إما أن يكبر حجم المشهد المتوخى تصويره أو يصغر. وطبعاً لا نعني بـ"الزوم" هنا نفس تلك الحركة الآلية، بل شيئاً يماثلها أو يذكرنا بها إن نحن حاولنا دراسة الحيز الذي يفرده للمشهد المصور كل من أولئك الرسامين في تتابع يكاد يكون كرونولوجياً، حيث إنه من لوحات كاناليتي الذي كان الأسبق، ويبقى الأشهر بين رسامي مشاهد البندقية وأفراحها، وصولاً إلى بيلا الذي سيكون الرابع زمنياً في هذه السلسلة، مروراً بلونغي، ويليه غواردي، ثمة ذلك الأمر الغريب الذي لا بد من ملاحظته من دون أن يستدعي ذلك تعميمه، وهو كون المشاهد تبدو في البداية أشمل وأبعد، ثم تقترب بالتدريج، وصولاً إلى أن تبدو، كما يقال أيضاً في لغة السينما، لقطات مكبرة، بيد أن هذا لا يمكنه أن يكون مقصوداً، وإن كان في الإمكان رصد دلالاته الاجتماعية.

أبناء زمن واحد

في نهاية الأمر عاش هؤلاء الأربعة في زمن واحد تقريباً، ورسموا المشاهد نفسها إلى حد ما، بل يمكن أن نقول إن الأسبق بينهم كان أكبر سناً بنحو عشر سنوات من ثانيهما، بينما كان الثاني أصغر من الثالث بعقد ونصف العقد، فيما الرابع كان أصغر سناً من الثالث، وهكذا، مما يجعلنا نفترض أن رسمهم تلك اللوحات الضخمة في مجملها، والتي مجدت حقبة زاهية من تاريخ تلك المدينة الإيطالية التي يمكن اعتبارها واحدة من أجمل مدن العالم بصرياً، كما كانت في الوقت نفسه واحدة من أكثر مدن أوروبا امتلاءً بالحفلات والمهرجانات وصخب الحياة الاجتماعية. ومن هنا لم يكن غريباً ليس فقط أن يمضي هؤلاء الرسامون - ومئات غيرهم من الذين كانوا أقل شهرة منهم - وقتهم وهم يرسمون لا ينافسهم في ذلك سوى رسامين أجانب كانوا يقصدون المدينة لتصوير روعة ما هي عليه وما يجري فيها خلال ما لا يقل عن ستة أشهر في كل عام تغص خلالها بالزوار والسياح من أجانب وإيطاليين آخرين، بحيث يبدو الكاتب البريطاني غراهام غرين محقاً، إذ تساءل يوماً وهو يزور ذات معرض جمعت فيه لوحات من النوع نفسه لنحو دزينتين من الرسامين من البندقية، وغيرها، "ها نحن نعرف من هذه اللوحات كيف كانوا يلهون ويصخبون في الساحات والأزقة، ولكن كيف كان هؤلاء الناس يعيشون داخل بيوتهم؟".


رسامون متتابعون

نتجاوز طبعاً ملاحظة غراهام غرين هذه لنعود إلى ما افتتحنا به هذا الكلام مستعرضين، على الأقل، اللوحات الرئيسة لكل من كاناليتو (1697 – 1768)، وفرانشيسكو غواردي (1712 – 1793)، وبييترو لونغي (1707 – 1785)، وأخيراً غابرييلي بيلا (1730 – 1799)، فيدهشنا فوراً ذلك التشابه الذي يلوح في تلك اللوحات، لكننا سرعان ما نلاحظ كيف أن كاناليتو، أستاذ غواردي، كان الأكثر توسيعاً لمنظوره بحيث بدت لوحاته – سينمائياً أيضاً – وكأنها مشاهد مصورة بالسينما لرغبة من الرسام في تقديم أوسع زاوية نظر ممكنة للمشهد. وهو أمر لا بد أن نلاحظ كيف أن غواردي لم يجاره فيه إلا بعض الشيء، بالتالي بات من الممكن معه التعرف على شخصيات محددة في لوحات تصور احتفالاً بزائر كبير أو وصولاً إلى رئيس دولة أجنبية أو سفير أراد زيارة المدينة فقوبلت زيارته المرحب بها بأسمى آيات التكريم. وعلى العكس من ذلك، على سبيل المثال تجد غابرييلي بيلا يبتعد بعض الشيء عن اللقطات الخاجية الاحتفالية ليصور الحياة اليومية لسراة القوم في ملابسهم الفخمة وأقنعتهم الطريفة، كما لو أنه كان يريد أن يحاكي مشاهد من مسرحيات لغولدوني. وفي المقابل، تلفت النظر في فن لونغي، تلك اللقطات المكبرة، سواء كانت داخلية أو خارجية، والتي تصور حيوانات تبدو هنا في غير موضعها... وأمام هذا التدرج لا شك أن المرء يطرح على نفسه سؤالاً يحار كثيراً قبل أن يتركه، وقد قرر أن يلهو مع الناس لهوهم العظيم بدلاً من أن يشغل رأسه به.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


زوار عرب يشاركون

ففي النهاية كل الشخصيات في هذه اللوحات تبدو وكأنها لا تريد سوى أن تنصرف إلى اللهو في تلك الأشهر الستة حين يكون الطقس وصحو السماء وتوافد الزوار ملائمة لذلك. ولعل ما يلفت نظر المشاهد العربي إلى تلك اللوحات، ولا سيما لدى كاناليتو وغواردي، هو كثرة عدد الوجوه العربية وتزاحمها، كما هو الحال اليوم مثلاً في سوق كوبنهاغن الشعبية غير بعيد من حدائق "تيفولي"، أو في جادة "الشانزليزيه" الباريسية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين أو حتى في شارع "إدجوير رود" اللندني في الحقبة نفسها. صحيح أننا نعرف أن العلاقات بين البندقية التي تلقب عادة بـ"سيرينيسيما" وبين الإمبراطورية العثمانية كانت قد بلغت أوجها تجارياً، وربما دبلوماسياً أيضاً خلال الزمن الذي عاش فيه الرسامون الذين اخترناهم للحديث عنهم، ورسموا خلاله مدينتهم، ولكن كان من الصعب علينا أن نتكهن قبل التفرس في هذه اللوحات بأن "السياحة" العربية كانت مزدهرة في البندقية إلى الحد الذي يمكننا رصده لدى الرسامين. ومهما يكن من الأمر هنا لا بد أن نتذكر كيف أن الكاتب المغربي المعاصر الطاهر بن جلون كان واحداً من أوائل الذين رصدوا العلاقات بين العرب والبندقية في مقال نشره قبل فترة بعنوان "عندما كانت البندقية تحب العرب"، ولكن من غير الواضح أن بن جلون كان يشير إلى اللوحات، هو الذي فاته على أي حال، أن يذكر كم أن العرب في النصف الثاني من القرن العشرين قد بادلوا البندقية ذلك الحب، ولكن بالنسبة إليهم من خلال الفن الذي يتقنونه أكثر من أي فن آخر: الشعر والغناء.

بين عبدالوهاب وأسمهان

فالحال أن مثل كلامنا هذا لا يمكننا أن نختمه دون أن نمر على ذكر تلك الأغنية التي انشدها كبير الملحنين والمغنين العرب محمد عبدالوهاب بعنوان "الغندول" وكان ذلك يوم بدأ العرب انفتاحهم على العالم، فتغنى عبدالوهاب الكبير بالبندقية من خلال حديثه الممتع عن غرامه الذي ذكرته تلك المدينة الرائعة به، في وقت كانت فيه أسمهان تتغنى بدورها بالمدينة الأوروبية الساحرة الأخرى التي لا تبعد كثيراً عن مدينة الغندول: فيينا، لتغني من ألحان أخيها الفنان الكبير فريد الأطراش أغنية الفالس الرائعة "ليالي الأنس في فيينا". والحقيقة أننا ما ذكرنا هاتين الأغنيتين إلا لكونهما لا تنفصلان بالنسبة إلى مشاهد لوحات كاناليتو ورفاقه عن ذلك الحضور العربي الذي صوره الفنانون في شوارع البندقية، دون أن ندري ما إذا كان ثمة فنون مشابهة تتعلق بالعاصمة النمسوية ما يشير إلى حضور عربي ما. مهما يكن من أمر وفيما يتعلق بالبندقية تبدو الأمور أوضح، ولكن يبدو أكثر وضوحاً منها، تلك المساهمة التي قدمها فنانون كبار للاحتفال بمدينتهم التي كانت تحتفل بنفسها بدورها طوال أشهر مخلفة تحفاً فنية رائعة، لكنها لا تخلو من الغاز حقيقية. فالمشهد الذي يطربنا اليوم لم يكن كما حاله في السينما، ابن ساعته، بل لا شك أن الرسام كان يحتاج إلى سنوات لتنفيذ لوحة واحدة. فهل تراه كان يعتمد على ذاكرته أم ماذا؟ ذلك هو السؤال الذي قد يوازي في حيرتنا إزاءه، رصدنا لـ"الزوم" الذي افترضناه من رسام إلى الذي يليه، في لعبة سينمائية سبقت ولادة السينما بزمن طويل... طويل جداً.

اقرأ المزيد

المزيد من