Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اختراع الأساطير... من أين جاءت أميركا بوهم الاستثنائية؟

الحرب على الحقيقة في عهد ترمب دفعت مؤرخين بارزين إلى كشف أصول الاتجار في الأكاذيب لخدمة السياسة

إن بلداً بلا أساس ديني إثني واحد قد يعتمد اعتماداً أكبر على سرديات مخترعة حول الوحدة الوطنية (أ ف ب)

في منطقتنا هذه، نشعر دائماً أن الماضي يهدد الحاضر، يملي عليه أفعاله، ويحاكمه بقسوة على عصيانه إن اجترأ على العصيان، ويحدد له المسار إلى مستقبل شديد الشبه به، فهو ماض أيضاً لكنه لم يأت بعد. والحقيقة أن الماضي ليس إلا نحن، فبعض منا هم ممثلوه، يريدون أن يعيشوه وأن يعيشه الجميع معهم. وهكذا نبقى أسرى هذه المفارقة المستحيلة: فلا الماضي بقادر على مخالفة نواميس الوجود بالرجوع مرة أخرى، ولا نحن قادرون على مخالفة النواميس بالرجوع إليه، فيضيع الحاضر وما هو إلا الطريق الوحيد إلى المستقبل. وبهذا الضياع لا يضار فقط أبناء هذا الزمان، بل وآباؤهم أيضاً، فالحاضر المزري يتحول إلى عدسة يرى بها الماضي بسؤال يبدو لكثيرين بديهي الإجابة: أليس هذا الحاضر المعتم ابناً لذلك الماضي الوضاء، ونتيجته، وثمرة بذوره؟ هكذا يلوث الحاضر الماضي وإن لم يرد ذلك. وهكذا يحجب التخلف الراهن عن ركب الحضارة ما كان من سبق حضاري غير مشكوك فيه، سواء أكان فرعونياً أم آشورياً أم فينيقياً أم إسلامياً أم غير ذلك.

في مناطق أخرى من العالم، يغلب أن يحدث العكس بالضبط، إذ يخدم الحاضر الماضي، فيبرزه، ويضفي عليه أهمية، ويجعله مادة ضرورية للدرس. وإلا فلماذا يصبح مهماً الآن أن ندرس تاريخ الولايات المتحدة، أو اليابان، أو الصين؟ لماذا ينبغي أن ننكب على دراسة معجزة قيام اليابان من حطام هيروشيما ونغازاكي وخزي هزيمة الحرب العالمية الثانية لتصبح ما بين إغماض عين وانتباهتها إمبراطورية عظمى تمتد أذرعها في العالم كله من دون أن تطلق في سبيل ذلك رصاصة أو تريق قطرة دم؟ ولماذا ينبغي أن نعكف على دراسة الصين التي استطاعت في عقود يقل عددها عن أصابع اليد الواحدة أن تكون الاستثناء لكل قواعد نهوض الأمم التي يروج لها الاقتصاديون الغربيون منذ قرن أو يزيد، فهي تجمع بين الرأسمالية والشيوعية وتحرير الاقتصاد وتكبيله وحكم الحزب الواحد والانفتاح على العالم والانغلاق عن العالم؟ ولماذا تصبح حياة آباء أميركا المؤسسين ورحلة أميركا مع العنصرية دراسة واجبة في العالم كله بقدر وجوبها في الولايات المتحدة نفسها؟ ليس ذلك لسبب آخر غير أن حاضر هذه البلاد، وغيرها، كان أبر بماضيها من بر حاضرنا نحن بماضينا، وأنفع له.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غير أن القسمة لا تكون دائماً بهذا الوضوح إلا لمن يرغب في جلد الذات بلا رحمة، أو الانبهار بالآخر بلا كرامة. فالعالم المتقدم أيضاً لا يخلو من انشغال غير صحي بالماضي، فثمة من يفتئتون على تاريخهم ويحملونه ما لا يحتمل، خدمة لمصالح آنية ضيقة الأفق، ثمة من ينادون بإرجاع عظمة أميركا من جديد مستنفرين في مواطنيهم شوفينية بغيضة وعنصرية أبغض، أو يحيون آراء غابرة من مواتها في حين لا ينبغي أن ينظر إليها أبناء هذا الزمن إلا بغضب أو بخجل أو بمزيج منهما. فلعل التوق إلى العيش في الماضي نزعة "إنسانية" في نهاية المطاف، لا يمكن أن يبرأ منها مجتمع، ولا يمكن أن يسلم منها إلا بنزعة أخرى إلى دراسة الماضي بموضوعية، دونما تقديس أو تدنيس.

حرب على الحقيقة

تكتب ليزابث كوهين، "واشنطن بوست" 5 يناير (كانون الثاني)، إنه "لا مهرب من الظل الكثيف الذي يلقي به التاريخ على الحياة الأميركية المعاصرة"، لكن هذا الظل الكثيف ليس طوال الوقت ناجماً عن قيادة التاريخ للحياة المعاصرة، بل إنه في أكثرها ناجم عن العكس، عن النبش في الماضي، ومحاولة تفنيده، سواء ببحث قضاة المحكمة العليا في نوايا الآباء المؤسسين الكامنة وراء عبارات صاغوها في الدستور أو القوانين، أو استقصاء الدراسات الجامعية لمقادير ما اكتسبه بعضهم من العبودية، أو إزالة تماثيل لبعضهم اعتراضاً على مواقفهم من بعض القضايا أو النقاش حول محتوى بعض مناهج التاريخ الأميركي "ثمة تذكرة يومية لنا بالمدى الذي يصوغ به الماضي الحاضر، بل والمستقبل بلا مراء".

ومن مظاهر ذلك الانكباب على محاسبة الماضي وتفنيده، أو مراجعته ببساطة، كتاب صدر حديثاً بتحرير اثنين من أساتذة التاريخ في جامعة "برينستن" هما كيفين كروز وجوليان زيليزر بعنوان "أميركا الأسطورية: مؤرخون يتحدون أكبر الخرافات والأكاذيب في ماضينا". والكتاب يأتي في نحو 300 صفحة تنقسم إلى مقدمة للمحررين ثم 20 مقالاً في نطاق واسع للغاية من المواضيع يمكن أن نستشفها من عناوين بعض هذه المقالات: الاستثنائية الأميركية، أساطير التأسيس، الهنود الغائبون، الهجرة، أميركا أولاً، الولايات المتحدة إمبراطورية، الحدود، الاشتراكية الأميركية، سحر السوق، عنف الشرطة، وغير ذلك. وإذا كان من جامع عام لهذه المقالات فهو أنها جميعاً لا تنظر إلى التعديل أو المراجعة بوصفهما مطعناً على العمل التاريخي، بل باعتبار أن العمل التاريخي الجيد كله إنما هو في جوهره جهد مراجعة وتعديل مستمر "يستعمل النتائج الجديدة بهدف التحسين، وصولاً إلى الكمال، وأيضاً من أجل تعديل فهمنا للماضي"، بحسب ما يكتب المحرران كروس وزيليزر.

 

تكتب ليزابث كوهين أن المحررين يرميان من كتابهما إلى مساءلة ما يصفانه بصعود "عصر التضليل"، أي الجهد العمدي لتشويه الحقائق وترسيخ أساطير اليمين المتطرف من خلال "سرديات عن الماضي تجعل من المستحيل تصور أشكال للمستقبل مختلفة عن الماضي"، وليس بغريب كما تكتب كوهين أن يشير الكاتبان إلى أن "أخبث محاربي الحقيقة هم إدارة ترمب، والحزب الجمهوري بشكل أعم، بعون من بيئة إعلامية محافظة. وقد بلغت هذه الجهود ذروتها بتقرير لجنة 1776 الاستشارية الرئاسية الصادر في أواخر أيام رئاسة ترمب، من دون مشاركة من أي مؤرخ في كتابته، لتقديم تاريخ وطني من شأنه تعزيز "التعليم الوطني"، وهو ما يراه المحرران دعاية غايتها تقديم "الإحساس بالرضا على التفكير الجاد" و"الاحتفاء على التفكير المعقد"، أو هي بلغة أبسط إعلاء للبروباغندا على العلم، لكن ربما لا يكون الأمر كذلك بالضبط، وربما يكون في شيطنة ترمب، أو في فضح شيطنته، محاولة لإخفاء جانب مظلم عام في تاريخ أميركا بقصره على حقبة معينة محدودة بل وقصره على شخص واحد.

على أية حال، كانت الحرب على الحقيقة في عهد ترمب هي الدافع إلى جمع عشرين مقالة في هذا الكتاب الذي يضم بين غلافيه مؤرخين بارزين يعتمدون على بحوث حديثة أجروها بأنفسهم وأجراها غيرهم في تقديم صورة أكثر ميلاً إلى التعقيد منها إلى الاحتفاء والتهليل، من خلال لغة سلسة خالية من الرطانة الأكاديمية على حد تقدير كوهين.

في مقالاتهم المتتابعة، يكشف آخيل ريد عمار عيوب الدستور الأميركي ومزاياه، وتكشف سارة تشيرشول أن شعار "أميركا أولاً" الذي تبناه دونالد ترمب لم يكن حديث النشأة، إنما يرجع سواء بوصفه شعاراً أم رؤية للعالم إلى خمسينيات القرن التاسع عشر، وتثبت أنه كان في ذلك الوقت ينم عن الخلاف أكثر مما ينم عن الوحدة في مواجهة الأعداء الأجانب، ويثبت جيرالدو كادافا أن الحدود الأميركية على مدى غالب التاريخ كانت موضع اتصال أكثر منها موضع ممارسات غير شرعية، وتربط كارين كوكس النزاعات الراهنة حول إزالة الآثار الكونفيدرالية إلى زمن الحرب الأهلية، وتكشف نتاليا ميلمان بتريزيلا أنه على رغم شيوع اتهام النسوية بمعاداة الأسرة فإنها منذ نشأتها مع قضايا الإقلاع عن الكحوليات وإلغاء العبودية مروراً بحق التصويت وتأسيس المنظمة الوطنية للنساء كانت تدافع عن الأسرة التقليدية. ومن مقالات الكتاب ما يتناول أساطير متصلة بالسياسات الحزبية والنشاط العنصري في ما بعد الحرب العالمية الثانية، فيفكك كروس الاعتقاد أن حملة ريتشارد نيكسون الانتخابية سنة 1968 هي التي اخترعت الاستراتيجية الجنوبية [أي محاولة الجمهوريين الاستزادة من دعم ناخبي الجنوب باستنفار عنصرية البيض ضد الأميركيين الأفارقة] إذ يتتبعها رجوعاً إلى عقود أبعد كثيراً من ذلك، فضلاً عن أساطير كثيرة أخرى في بقية المقالات.

أساطير مخترعة

لكن المثير للانتباه بحسب ليزابث كوهين أن غالب مقالات الكتاب تنافي فرضية المحررين بأن الاتجار في الأكاذيب ونسج الأساطير لخدمة أجندة سياسية خصيصة انفردت بها سنوات ترمب في الحكم، أو كانت نتاجاً لها. "إذ تكاد كل مقالة في الكتاب أن توثق عمق تجسد هذه الأساطير في التاريخ الأميركي"، وتضرب لذلك مثالاً بتوثيق آري كيلمان لأسطورة القارة الأميركية بوصفها صفحة بيضاء لا أثر فيها للهنود، إذ تقول إن هذه الأسطورة قديمة قدم المستوطنين الأوائل جاءت برفقتهم. وتضرب مثالاً آخر بمقالة إيركا لي التي أثبتت فيها أن خطاب ترمب المناهض للهجرة وقوله "إنهم لا يتوقفون عن المجيء" له تاريخ طويل من التجاهل المستمر لحقيقة الاستعانة بالمهاجرين في إقامة القوة الأميركية الهائلة في الزراعة والصناعة. وتضرب كوهين مثالاً أخيراً بتفنيد دانيال إيمروار صورة أميركا المثالية عن نفسها بوصفها بلداً اجتنب الطموحات الإمبراطورية [الإمبريالية]، إذ يصر المؤرخ أن الأميركيين بطريقة استيلائهم على أراضيهم وبقواعدهم المنتشرة في العالم يمثلون إمبراطورية بالفعل، وأنهم كانوا كذلك منذ بدايتهم.

 

ومن مقالات الكتاب ما يدحض أفكاراً شائعة في الخطاب السياسي الراهن، فيذهب مايكل كازن إلى أن الأفكار الاشتراكية أبعد ما تكون عن منافاة أميركا. ويؤكد أنها ظلت لأكثر من قرنين جزءاً من المتن السياسي الأميركي، وتفند ناعومي أوريسكيس وإريك كونواي الإيمان الأسطوري بـ"سحر السوق" الذي يفترض أنه أثبت فاعلية تفوق التدخل الحكومي، كما تفند كاثلين بيليو القول عن أحداث السادس من يناير إنها لا تمثل الشعب الأميركي الحقيقي بتوثيقها قرناً من الهجمات المماثلة التي قام بها المؤمنون بتفوق العرق الأبيض.

والملاحظ أن غالب الأساطير التي يعنى الكتاب بتفنيدها تتعلق بشكل أو بآخر بالحزب الجمهوري من دون الديمقراطي، أو باليمين من دون اليسار، ولكن محرري الكتاب لاحظا وجود أساطير مشتركة بين الحزبين الكبيرين في أميركا، أو أساطير تتجاوز الانتماءات الحزبية والأيديولوجية. من هذه الأساطير المشتركة التي يروجها أو يؤمن بها ساسة جمهوريون وديمقراطيون على السواء، أسطورة الاستثنائية. يكتب ديفيد آيه بيل أستاذ التاريخ في جامعة "برينستن" أن "غالب الأمم يمكن أن تعد استثنائية بمعنى أو آخر" لكن (الاستثنائية الأميركية) اصطلاح "بات يستعمل بمثابة (هراوة) في الحروب الثقافية الأميركية". وتؤكد دراسة بيل أن "الاستثنائية الأميركية"، أي القول باختلاف أميركا، إن لم يكن تفوقها على من عداها من البلاد أو حتى الحضارات، لم تكن اعتقاداً ملازماً للبلد على مدى تاريخه، بل فكرة ظهرت خلال مطلع القرن العشرين وأعيدت صياغتها "في لحظات مختلفة لأسباب مختلفة، وخدمة لحاجات ناخبين مختلفين"، غير أن بيل بعد كتابته أن السرديات الخاصة باستثنائية الشخصية الأميركية استغلت طويلاً لتبرير اعتداءات الولايات المتحدة خارجياً وداخلياً، يصر على أن الاستثنائية "أبرزت أيضاً ما رآه الأميركيون أفضل خصالهم وواجباتهم الأخلاقية، فكانت بمثابة معيار رفيع عليهم أن يرتقوا إليه" وإن كان ذلك محض افتراض نظري لا يرى بيل نفسه أنه تحقق، "ففكرة الاستثنائية نفسها لا تكاد تلهم الأميركيين بأن يكونوا استثنائيين حقاً".

تكتب ليزابث كوهين أنه "بعد قراءة هذه المقالات يصعب عدم الانتهاء إلى أن صنع الأساطير كان دائماً جزءاً من التاريخ الأميركي"، وسرعان ما تشير إلى أن "الأمم جميعاً، إلى حد ما، تنغمس في إقامة مواض قابلة للاستعمال في ترسيخ القيم الاجتماعية المرغوبة والأهداف السياسية"، ثم تعود فتفكر في أنه قد يكون ثمة أسباب للقوة الخاصة التي اتسمت بها صناعة الأساطير في الولايات المتحدة، لكنها لا تكاد تشير إلا إلى سبب واحد، إذ تقول "إن بلداً بلا أساس ديني إثني واحد قد يعتمد اعتماداً أكبر على سرديات مخترعة حول الوحدة الوطنية".

 

في استعراضه الكتاب، "نيويورك تايمز" 6 يناير، يكتب كارلوس لوزادا أن انتقال الأساطير عبر الأجيال أمر يجدر تأمله. فما انتقالها هذا وترددها على الألسن إلا لما فيها من حكمة أو حقيقة كامنة، ولكنه سرعان ما يستدرك قائلاً إن الأساطير "في عالم الصحافة والتاريخ كائنات خبيثة تخفي أكثر مما تكشف. ولا بديل عن تعقبها وتدميرها عسى أن تحتل القصص الحقيقية أماكنها المستحقة".

وإذا كان محررا الكتاب يصفانه بأنه "تدخل" في نقاشات العامة الجارية منذ وقت بعيد حول السياسة والاقتصاد والثقافة في أميركا، ويحددان الغاية من هذا التدخل بأن يكون الكتاب إسهاماً في هدم الأساطير، فإن كارلوس لوزادا يكتب قائلاً "إنه ينبغي فضح جميع أساطيرنا الوطنية، لكني لست واثقاً مما إذا كان ينبغي استئصالها جميعاً". ويتساءل "أليس بعض الأساطير يخدم غرضاً صحيحاً؟".

والحق أنني لا أفهم كثيراً ما الفارق بين فضح الأساطير واستئصالها. أليس الفضح استئصالاً كافياً للأساطير، يجردها من سلطتها، ويحرمها من حاجب الانبهار الذي كثيراً ما يمنع رؤيتها على حقيقتها؟ ولا أفهم أيضاً ما المقصود بالغرض الصحيح؟ أو أنني بالأحرى أخشى ممن قد يتصور أنه يملك حق تحديد الغرض الصحيح، وأخشى أن تكون صحة غرض ما مبرراً للكذب، وأخشى أن الكذب لا يمكن أن يثمر خيراً.

العنوان: Myth America: Historians Take On the Biggest Legends and Lies About Our Past 

تحرير: Kevin M. Kruse ـ Julian E. Zelizer

الناشر: ‎ Basic Books

المزيد من كتب