لم يمر وقت طويل على تسمر المملكة المتحدة في حال من الصدمة أمام التقارير الإخبارية المروعة التي كانت ترد من داخل المستشفيات الإيطالية التي اجتاحها فيروس "كوفيد". فما كان يحدث في تلك البلاد كان على وشك أن يحصل هنا في بريطانيا، ولم يكن هناك شيء في الواقع يمكننا القيام به.
وها نحن الآن يتملكنا شعور مماثل بالعجز، بسبب ما يحدث في مستشفياتنا. إذ لا يبدو أن هناك شخصاً واحداً لا يجد نفسه في صلب أزمة لا يمكن تصورها. فطيلة فترة عيد الميلاد، كان المراسلون الإخباريون يركزون على ما يحصل داخل مستشفيات البلاد وخارجها، ويكتبون تقاريرهم عن الفظائع التي يشاهدونها.
من أبرزها سيارات الإسعاف التي كانت تصطف في طوابير انتظار، فقط كي تتمكن من إنزال مرضاها (وفي مقابل كل سيارة إسعاف كانت تنتظر خارج أحد المستشفيات، كان مريض آخر ينتظر حتماً، أحياناً لأيام عدة، سيارة إسعاف لنقله). في المقابل كان هناك أطفال يصرخون من الألم لساعات متتالية. وأفادت تقارير- وهي كثيرة للغاية- عن أفراد واجهوا سكتات قلبية أثناء انتظار معاينتهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا حاجة للقول إن هذا الوضع ليس مستداماً. ففي هذا البلد، لدينا شغف بمقارنة خدماتنا للصحة المتاحة مجاناً لأي شخص، بتلك السائدة في الولايات المتحدة، التي تتسم بالمراوغة في ادعائها الحرص على مصلحة الناس- لكن يبدو أنها أصبحت في أغلبها متشابهة.
عندما كنت أعمل في نيويورك في عام 2005، أنشأت "جامعة كولومبيا" التي تفرض رسوماً تعليمية مرعبة- هي إحدى مؤسسات Ivy League [مجموعة جامعات عريقة في شرق الولايات المتحدة تتمتع بمكانة أكاديمية واجتماعية عالية، وتشمل "هارفارد" و"ييل" و"برينستون" و"كولومبيا"]- خدمة إسعاف خاصة بها، بحيث لا يضطر طلاب الجامعات إلى الاتصال برقم الطوارئ 911 في حالات الضرورة، لكن يحتمل أن يمضوا بقية حياتهم في سداد التكاليف المستحقة.
في صباح أحد الأيام استيقظت على صوت غير عادي، مصدره رفيقي في الشقة الذي كان يعاني من نوبة صرع أصابته لأول مرة في حياته. اتصلت على الفور بسيارة إسعاف. وفي صباح اليوم التالي، أخبرني زملائي في العمل بأن تصرفي كان مجنوناً. لكن لحسن الحظ، أن زميلي بريطاني الجنسية كانت لديه تغطية كاملة من خلال بوليصة تأمين السفر التي اشتراها.
أورد كل ذلك الآن، لأنني لأول مرة في حياتي، أشعر فجأة بأننا نعيش الوضع نفسه. فخلال موجة البرد التي عصفت ببريطانيا في مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) الفائت، علمت أن هناك أسراً لم تسمح لأطفالها الصغار بالخروج للتزلج، والسبب ليس سوى الخوف من تعرضهم لإصابة ما، وعدم وجود من يعالجهم. وفي يوم عيد الميلاد، عندما كانت ابنتي مريضة جداً، أمضيت قرابة 55 دقيقة في الانتظار على الخط بعد اتصالي بالرقم 111 [رقم مجاني مخصص للأفراد الذين تكون لديهم حاجة ماسة للرعاية الصحية لا تهدد حياتهم]. قبل أن- ولحسن حظي- اضطررت إلى الاستسلام، وإزعاج صديق قديم لي كان طبيب أطفال.
يشير الحرف E في A&E (الحوادث والطوارئ) إلى حالات الطوارئ، ومع ذلك يبدو أنه لا يوجد احتمال لتلقي الرعاية في حالات الطوارئ. إنه تحول جذري في طريقة حياتنا. فالبريطانيون يرغبون في تخيل أن " خدمات الصحة الوطنية" (أن أتش أس) NHS هي موضع حسد العالم، على الرغم من أنه لا يوجد بلد آخر حاول فعلاً تقليد هذا النظام، وكان بإمكانه ذلك. لكن على الرغم من العيوب الكثيرة جميعها، بما فيها البيروقراطية الـ"كافكاوية" Kafkaesque (الصفات القمعية أو الكابوسية لعالم فرانز كافكا الخيالي)، فقد كانت الحال دائماً مع البريطانيين، أنهم لا يعيشون حياتهم في الخوف من عدم تمكنهم من الحصول على المساعدة الطبية، كما هي حال عدد من الأشخاص الآخرين في مختلف أنحاء العالم. ولا يزال هذا أحد أهم جوانب الحياة البريطانية، إلا أنه آخذ في التلاشي بسرعة.
يبدو أن الناس باتوا يعرفون في الوقت الراهن، أن سيارة الإسعاف لن تأتي، وأنه قد يكون من الأفضل لهم الاعتناء بأمراض أطفالهم عبر استشارة "دكتور غوغل" Dr Google، أو إذا كنتم محظوظين، فيمكن الاستعانة بأصدقاء مطلعين.
ومن الجدير بالملاحظة أنه كان ينبغي السماح للأمور بأن تصل إلى هذه النقطة. ففي الأيام القليلة الماضية، كان يجرى تداول أحد مقاطع الفيديو القديمة التي تعود إلى عام 2016 وهو لحملة Vote Leave (التشجيع على التصويت لمصلحة مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي). الفيديو يعرض على شاشة مقسمة، مستشفيين بريطانيين خياليين تابعين لـ"أن أتش أس"، أحدهما يتصور الحياة خارج الاتحاد الأوروبي، والآخر أثناء البقاء ضمن الكتلة. طبعاً بدا مستشفى البقاء في الاتحاد الأوروبي Remain منهكاً ومثقلاً بعمله، في حين أن مستشفى الخروج البريطاني من الكتلة الأوروبية بدأ هادئاً حيث لا توجد فيه صفوف انتظار، والنساء المسنات فيه مبتسمات قبل أن يعدن إلى منازلهن لمواصلة حياتهن السعيدة.
إنه بالطبع هراء مروع، لكن حقيقة أن هذا النوع من الهراء المقيت الذي أجبر الدولة على اتخاذ أسوأ قرار يقدم عليه أي نظام ديمقراطي كبير على الإطلاق، يجب أن يكون كافياً لجعل كل سياسي يدرك أن التخلص من "خدمات الصحة الوطنية" هو الخيار الأكثر ضماناً لسلوك طريق الدمار الانتخابي.
ففيما نجح رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون بحديثه الفارغ عن عدد المستشفيات الجديدة التي كان سيبنيها، ليس لدى رئيس الحكومة الراهن ريشي سوناك أي أمل مطلقاً في الفوز، إذا كان غير قادر على منع الانهيار الفعلي لخدمات الطوارئ التي لا يمكن للبلاد أن تعيش من دونها.
ليس من الواضح على الإطلاق كيف سيفعل ذلك. فحتى الآن، كل ما تمكن المتحدث باسمه من قوله هو أن مرافق "أن أتش أس" تجد مصاعب جمة في عملها، لأن آثار الوباء كانت شديدة السوء عليها. لكن هناك دولاً أخرى حدث فيها الوباء أيضاً، ولم تتعرض فيها خدماتها الصحية لمثل هذا الانهيار.
وقد سئل المتحدث أيضاً عما إذا كان سوناك سيكون سعيداً باستخدام أسرته "خدمات الصحة الوطنية"، فرد قائلاً إن الإجابة على هذا السؤال "لا تخدم المصلحة العامة". لعله محق إلى حد ما- فالناس لم يعودوا مهتمين بالإجابة، لأنهم يعرفونها مسبقاً.
يبقى القول، إن المشكلة التي يواجهها رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك في هذه النقطة هي نفسها كما في كثير من النقاط الأخرى. فهو غير قادر على إعطاء إجابة صادقة، وهي حقيقة لن يكون قادراً على تغييرها.
© The Independent