Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أنشودة الحنين" رواية مصرية عن أزمات منتصف العمر

نعيم صبري يطرح أسئلة صعبة حول ملابسات الصمت الزوجي

لوحة للرسام إسماعيل نصرة (صفحة الرسام - فيسبوك)

لا تزال القضايا الأسرية تمثل موضوع إلهام لبعض الروائيين العرب، الذين يفضلون مقاربة موضوعات شائكة، وثيقة الصلة بما يجري في الواقع بأمل المساهمة في مواجهة الأفكار المحافظة.  وتقدم رواية "أنشودة الحنين" للكاتب نعيم صبري (دار الشروق 2022) مثالاً متميزاً للأعمال التي تعالج جملة من الأزمات التي تعيشها مجتمعاتنا العربية، بشأن ما يسمى مشكلة "الخرس الزوجي"، بحيث يعاني غالب الأزواج من فقدان الرغبة في التواصل مع زوجاتهم، ومن ثم تنعدم كافة أشكال الحوار، مما يهدد باستمرار الأسرة، بعد تحول العلاقة الزوجية إلى علاقة روتينية عاجزة عن تجديد نفسها.

من جهة أخرى تتطرق الرواية لموضوع آخر صادم حول إشكاليات الزواج المدني في بعض المجتمعات، بمعالجة ذات طابع درامي لقصة حب حار، إذ تسرد قصة عماد وهو مواطن مصري مسيحي يعيش أزمة منتصف العمر خلال أوائل تسعينيات القرن الماضي، ويعمل مع والده في تجارة قطع غيار السيارات، بعد أن اضطره مرض الوالد لترك حلم العمل في الخارج، ومن ثم عاد إلى مصر وتزوج من ابنة خالته وأنجب منها ثلاثة أبناء، ومضى في علاقة زوجية تقليدية عجزت عن تلبية حاجاته.

ونتيجة لهذا التبلد ينفق البطل غالب وقته في سهرات متواصلة مع الأصدقاء خارج البيت، ويتورط أحياناً في علاقات عابرة لا يحب أن ينميها لتبقى عند الحدود الآمنة.

وخلال مشواره اليومي من البيت إلى مكان العمل، يلتقي رامي صديقه الذي كان يدرس معه قبل أن يسافر إلى ألمانيا ويتزوج هناك، ثم يعود ويستقر في مصر. يوجه له رامي دعوة لسهرة في بيته يلتقي خلالها عماد مع فاطمة الشواربي، وهي سيدة ثلاثينية جميلة جربت العيش في أميركا وحملت جنسيتها، لكنها فشلت في زواجها هناك وعادت هي الأخرى إلى مصر لتبقى وحيدة حيال ذكرياتها مع والدها الذي تركته وحيداً في مصر لتتزوج من الرجل الذي اختارته، على رغم العمر المتقدم للأب الذي مات، فسكنها الإحساس الدائم بالذنب تجاهه. وحين تعرف مهنة عماد تأمل لو ساعدها في إصلاح سيارة "كاديلاك" قديمة ورثتها عن الأب وترغب في تجديدها، لأنها تحمل ذكرياتها معه.

العيش المشترك

وبسبب إعجابه بفاطمة يسرع بإصلاح عطل السيارة آملاً في لفت نظرها وينجح في ذلك بالفعل. تلتقط فاطمة رسائل الاهتمام التي يبعثها وتفك شفراتها، لتنمو بينهما علاقة حب موازية لعلاقته الأسرية. وبصورة مفاجئة تتعرض فاطمة لأزمة صحية ولا تجد حولها سوى صديقتها التي تبلغ عماد بتطورات حالتها، مما يدفعه لملازمتها طوال مرضها وتتزايد أسباب تعلقها به. تحاول فاطمة أكثر من مرة الخروج من دائرة اهتمام عماد بالسفر خارج القاهرة، إلا أنها تستسلم لإصراره على الاستمرار.

 تتعدد فضاءات اللقاء بين العاشقين ما بين بيت في الزمالك وآخر في الإسكندرية لتذهب العلاقة في اتجاه التواصل الجسدي الحميم، ثم يسافران معاً إلى إيطاليا كأي عاشقين يرغبان في "العيش المشترك". تسهم هذه العلاقة إجمالاً في كسر ركود حياة عماد من جهة، وتدفعه للعمل على مشاريع استثمارية أخرى في مجالات العقارات تنمي ثروته وتنعش حياته، مستعيداً آماله القديمة في العمل بعيداً من ثروة والده. ومن جهة أخرى تسترد فاطمة موهبتها القديمة كرسامة وتعمل على تنظيم معرض فني للوحاتها، ويدفعها عماد لخوض مغامرة إقامة معرض ويساعدها في التنظيم.

وفي مقابل ما تحقق له من ازدهار في "الحديقة الخلفية"، يعمل عماد على مواصلة العيش الآمن مع أسرته وقضاء أوقات كثيرة مع العائلة، لتعويض شعوره الكامن بالمسؤولية تجاه هذا الكيان وكيلا تكتشف زوجته طبيعة ما يجري بعيداً منها. لكن أسئلة كثيرة تؤرقها حول مبررات سفره المتكرر وعدم رغبته في الحديث معها خارج أمور العائلة والأولاد أو السهر أمام برامج التلفزيون، لكنها تستسلم ولا تبادر حتى بإعلان غضبها. ومع تنامي علاقة الحب يعجز العاشقان عن الخروج بها إلى العلنية وإعلان الارتباط الرسمي بسبب مشكلة اختلاف الديانة، إلى جانب عدم الرغبة في هدم كيان العائلة، وعجز البطل عن المفاضلة بين حبها وعائلته وإدراك استحالة الاحتفاظ بالكيانين معاً.

تنتهي الرواية بعودة فاطمة إلى أميركا بعد أن حملت من عماد ولم تجد وسيلة للتعامل مع الموقف سوى السفر ثم الزواج هناك، بينما يبقى عماد في محيطه القديم ويفقد شغفه بمواصلة العمل والنجاح، مفضلاً البقاء في بيته أسيراً لأنشودة الحنين لأيام غرامه، يسترجع ما عاشه من ذكريات، تبقى زاداً له في ما تبقى له من أيام.

 واقع صادم

على رغم بساطة موضوع الرواية إلا أن مؤلفها ينجح عبرها في طرح جملة من التساؤلات المهمة حول ما يعانيه المجتمع المصري، والتحولات التي أصابته منذ سبعينيات القرن الماضي، مع نمو الحركات الجهادية وتنامي ثقافة التعصب الديني وانتكاسة العلاقة بين المسلمين والأقباط، مما غيب فرص الزواج المختلط وأبقاها ضمن دائرة المحظورات. وبطريقة فنية ناضجة ومتزنة تثير الرواية تساؤلات بشأن الأثمان التي تدفعها العائلات الحريصة على زواج الأقارب، بغرض إشباع الحاجة الجنسية من دون دراسة فرص نجاحه.

وعلى الصعيد الفني تتجلى في الرواية المميزات الرئيسة في كتابات صبري، وعلى رأسها اللجوء إلى لغة تعبير بسيطة وثيقة الصلة بالحياة اليومية، وكتابة أحداث مشحونة بطاقة درامية متدفقة، ومتكاملة العناصر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بدأ الكاتب مساره الأدبي بكتابة الشعر والمسرح، إلا أنه يكتب بلغة روائية لا تستغرق في المجاز والاستعارات. فهو استفاد من المسرح في بناء شخصياته واستلهامها من فضاء واقعي تماماً، غير أنه ينجح في تشكيل عالمها على نحو ثري. فالكاتب يكتب بالضرورة عما يعرف، سواء على صعيد اختيار الموضوعات أو اختبار قدرته على صياغة التكوين النفسي للأبطال، وبناء ماضيهم الدرامي، فضلاً عن قدرته على تحريك أبطالها على مسارح مكانية يعرفها. فالبطل يظهر في الرواية منذ اللحظة الأولى وهو منسحب من ممارسة أي طقس ديني تمارسه العائلة، ومثل المؤلف، درس الهندسة وعمل فيها.

 لا تغفل روايات الكاتب السابقة النظر في التحولات العمرانية، فقد اهتم بها في "شبرا" و"الحي السابع"، وهما من روايات المكان بامتياز. وهذه المرة جعل البطل من سكان حي مدينة نصر الذي تكوّن من عوائد تحويلات المصريين في الخارج، وعدّ نموذجاً لاضطراب الهوية البصرية، وهي إشارة لا تخفى دلالتها عن القارئ. وجاء اختيار مهنة والد البطل كبائع لقطع غيار السيارات ليشمل إشارة ضمنية إلى المهن التي راجت بعد تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي في مصر، ضمن توجه نحو تشجيع الاستيراد ووقف التصنيع المحلي للسيارات.

ومن ناحية أخرى توثق الرواية لأماكن كانت مقصداً للطبقة الوسطى بفئاتها المختلفة، خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي مثل "الجريون" وفندق "سونستا" و"فندق النيل هيلتون"، وغيرها من الأماكن التي لم يعد لأغلبها ما كان لها من حضور في أزمنة سابقة. وهذا مما يضاعف من شحنة الأسى في الرواية التي تحفل كذلك بجملة من العلامات الثقافية الدالة على طبيعة تكوين البطلة/ الحبيبة، التي أهّلها الأب منذ طفولتها، لتملك صورة مختلفة، ومن ثم يبرر اختلافها عن النماذج التي خبرها البطل.

وكعادة أعماله السابقة يحتفي نعيم صبري بالصداقة ويعزز من أدوارها. وفي هذه الرواية يلعب أصدقاء عماد وهم رامي وصلاح وحسين، أدواراً رئيسية واختار الكاتب أن يجعلهم جميعاً من ديانة تخالف ديانة البطل الرئيس، ليؤكد تكوينه المدني المتسامح، في حين جعل للبطلة فاطمة صديقة وحيدة هي سالي، تشاركها سر العلاقة وتتشارك معها همومها الحياتية وأزمة حبها التي بانت شديدة التعقيد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة