Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرية الفلسفية خلاص المجتمعات العربية

منظمة اليونسكو تدعو الى الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة

منظمة اليونسكو تحتفل باليوم العالمي للفلسفة (موقع اليونسكو)

لمناسبة يوم الفلسفة العالمي ينظر المرء في واقع الفلسفة في مجتمعات العالم العربي فيدرك أنها تخضع لناموس الذهنية الشعبية السائدة، ولطبيعة الإرث الفكري العربي المتراكم منذ الكتابات الملحمية والشعرية الأول في شبه الجزيرة العربية ولسياسات الانفتاح والتحديث التي تعتمدها الأنظمة العربية الراهنة، ولحركة التفاعل الناشطة على مواقع التواصل الافتراضي في زمن العولمة الكونية.

يعلم الجميع أن الفلسفة نشأت قديماً في مجتمعاتنا جراء احتكاك الأوساط الثقافية العربية بالتراثات الفكرية القديمة، لا سيما اليونانية والسريانية والقبطية والبيزنطية والفارسية والهندية، ومن ثم اجتهد الفلاسفة العرب الأوائل في استدخال مقولات الفلسفة ومفاهيمها وأدواتها وأساليبها في فضاء الثقافة العربية القديمة التي كانت مطبوعة بالإبداع الأدبي والتفقه اللغوي والتفسير النصي الديني، وبفضل الاحتكاك الثقافي المغني طور الفكر العربي القديم على وجه الخصوص حقلين اثنين من المعارف، العلوم والفلسفة.

كلا الحقلين ازدهر ازدهاراً مذهلاً في القرون الوسيطة، ولكنه ما لبث أن عاد فخبا ابتداء من القرن الـ 13، أما الأسباب فيعرفها الجميع معرفة شبه حدسية، إذ إن طبيعة الاجتماع العربي تسحر الوجدان وتمضي به في سبيل البلاغة الخطابية والإنشاد القصيدي والإبداع الأدبي المتنوع التجليات.

ارتباط الفلسفة بنهضة العلوم

 

لا ريب في أن مصير الفلسفة العربية اقترن بدعوات النهضة الحديثة التي انبثقت، ابتداء من القرن الـ 17 من المعاناة الوجودية الفكرية الشاملة، وقد أصابت إنسان المجتمعات العربية في جميع ميادين وجوده واختباراته، ويعرف الجميع قصة النهضة العربية الأولى في أواخر القرن الـ 19 والنهضة الثانية في منتصف القرن الـ 20، ويستطلعون الآن تباشير النهضة الثالثة في بدايات القرن الـ 21.

الثابت في النهضات الثلاث حرص الفكر على استنقاذ العلوم والفلسفة، غير أن النيات الطيبة لا تغلب الإعضال البنيوي والتعثر الإجرائي والتشنج والتردد والجمود.

لن أطيل الكلام على أزمة العلوم العربية، إذ يعلم القاصي والداني أن إنتاج العلم مسألة معقدة ترتبط أولاً بالذهنية وثانياً بالبنية الاجتماعية وثالثاً بالقرائن السياسية ورابعاً بالأحوال الاقتصادية وخامساً بالتفاعلات الحضارية التكاملية. أظن أننا نعلم لماذا أنتجت بعض المجتمعات التقليدية الآسيوية وفي مقدمها الصين واليابان، العلوم إنتاجاً معيارياً مذهلاً، وأخفقت بعض المجتمعات التقليدية الآسيوية الأخرى ومنها العربية في العملية الإنتاجية هذه.

 

يبدو لي أن قولة الفيلسوف السوري جورج طرابيشي (1939-2016) تصح في هذا السياق، إذ أعلن أن الفلسفة العربية المعاصرة لا تنهض إلا إذا سبقتها وأصلتها وأيدتها وآزرتها عمارة علمية عربية متسقة البنيان.

يدل الرأي الجذري هذا على أن الفلسفة مقترنة بالعلوم وأن التفكير الفلسفي لا ينضج في قوم من الأقوام إلا حين يجرؤون فيطلبون العلم ولو في الصين. وفضلاً عن هذا الطلب يجب أن ينتجوا علومهم الخاصة المنبثقة من خلفياتهم المعرفية الذاتية، ولكن سؤال الخصوصية العلمية يعطل مثل هذا القول، إذ إن العلم كوني في صميم مطلبه، فلا تستقيم معادلة رياضية في الولايات المتحدة الأميركية، وتلغى وتبطل في روسيا، فالعلم واحد في المسكونة قاطبة، أما الفلسفة فتتجلى على هيئات شتى.

كونية العلم مستندة إلى انتظام الطبيعة

هنا يسأل المرء نفسه إذا كان العلم واحداً فلم لا تكون الفلسفة واحدة؟ أعتقد أن هذا السؤال من أخطر الأسئلة الفلسفية على الإطلاق، ومن الواضح أني لا أستطيع أن أعالجه في المقالة الفلسفية الوجيزة هذه، ولكن يمكنني اقتراح سبيل التفكير الأنسب على قدر ما أبين أن العلم منتظم بانتظام الظاهرة الطبيعية الفيزيائية المحض، في حين أن الفلسفة تنشط على إيقاع الوجدان المتأثر بتقلبات الاختبارات الحياتية، فالحياة المتدفقة في مسالك الوجود التاريخي غير الطبيعة المتجلية المتحققة في سياقات القوانين الكونية، ولا يخفى على أحد أن لكل مجرة كونية نظامها الفيزيائي الخاص، ومع ذلك يجب الإصرار على الاختلاف بين انتظامية العلم وعفوية الحياة.

 

إذا كان الأمر على هذا النحو، فالاختلاف في إنتاج العلم اختلاف في الكمية لا اختلافاً في النوعية، ومعنى ذلك أن المختبرات اليابانية أو الكورية أو الصينية يمكنها أن تخترع اختراعاً طليعياً لم تفطن له العقول الناشطة في المختبرات العلمية الأميركية أو الأوروبية أو الروسية، وفي جميع الأحوال يظل الاختراع خاضعاً للتراكم المعرفي النوعي الذي أفضى إليه العقل العلمي الكوني، ومن المؤسف أن المختبرات العلمية العربية لم تأتنا حتى اليوم باختراعات كمية ريادية سباقة، وربما سيحصل مثل هذا الأمر في المقبل من الزمن، أما اليوم فالعلوم العربية في معاناة بحثية شديدة، والفلسفة العربية في طور استنضاجي بطيء.

الفلسفة بين كونية المسعى وخصوصية التعبير

أعود إذاً إلى الفلسفة العربية هذه في يوم الفلسفة العالمي، وأتساءل عن الأسباب التي تجعلنا لا نثق بخصوبة ما تنتجه من تناولات أصيلة ومقاربات فريدة ومعالجات فذة، ما برح المرء يعاين الفجوة المثبتة بين إبداعات الفلاسفة العرب الأفراد وحقائق الوجود العربي المتخلف في معظم المجتمعات العربية المعاصرة.

هذه مسألة خطرة تتعلق بمصائر الفكر في تغيير وقائع التاريخ، ويبدو لي أن معظم المجتمعات التي لم تنخرط في مسار الحداثة الغربية ما فتئت تعاني ضروباً شتى من الانفصام المرضي هذا، ومن ثم لا يجوز أن تقتصر فاعلية الفكر الفلسفي العربي على إنجازات الأفراد، بل يجب أن تقتبل المجتمعات العربية ثمار الإبداع الفلسفي الفردي وتستدخلها في صميم وجودها التاريخي الحي، أما شرط الشروط في ذلك، كما سأوضح في توسعات المقالة، فالحرية الفردية الكيانية الشاملة.

 

من الواضح أن خصوصية الفلسفة تقترن بفرادة الاضطلاع الوجودي بمثل هذه الحرية، فلكل مجتمعٍ من المجتمعات طريقته الخاصة في ممارسة الحرية الكيانية، بيد أنني قبل أن أنظر في خصوصية الفلسفة العربية المعاصرة، وأؤكد للجميع أني لست بغافل هنا عن كونية الفلسفة، ولكن الكونية في المقاصد لا تبطل الخصوصية في التعبير، ذلك بأن المجتمعات الإنسانية اختبرت التفكر الفلسفي على وجوه شتى، إلا أنها استخرجت أصوله ومبادئه وأحكامه وقواعده استخراجاً يخضع للحيوية الاستدلالية عينها، فعلوم المنطق القديمة والحديثة والمعاصرة أنتجت ضمة من المباحث والاستقصاءات والقضايا استدل على صحتها أو خطئها جميع الذين تعاطوا هذه العلوم في البيئات الثقافية المتنوعة.

كذلك القول في المذاهب الفلسفية التي نشأت وازدهرت وتطورت على تعاقب الأزمنة مثل الريبية والعقلانية والتجريبية والمثالية والوجودية وسواها، وفي هذا المقام يعاين المرء كونية الفلسفة، بيد أن الريبية ريبيات والعقلانية عقلانيات والتجريبية تجريبيات، وليست الوجودية الغربية كالوجودية العربية أو الصينية أو الأفريقية أو الروسية أو الهندية أو الأميركية الجنوبية، وفضلاً عن ذلك يمكن القول إن الخصوصية الفلسفية تتجلى داخل الدائرة الحضارية الواحدة، إذ ليست وجودية كيركغارد الدنماركية مثل وجودية كارل ياسبرس الألمانية ووجودية سارتر الفرنسية.

خصائص البحث الفلسفي العربي

رأس الكلام في هذا كله أن الفلسفة يمكن أن تخاطب الوعي الثقافي المحلي مخاطبة خاصة ترتبط بالقرائن الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة وبالمعاناة الوجودية الناشطة وبالاختبارات التعبيرية المتفاعلة، وإذا نظر المرء في واقع الفلسفة الراهن في المجتمعات العربية المعاصرة تبين له أن ثمة اهتماماً متزايداً يستنهض همم المعنيين بشؤون التفكر العقلاني الرصين الباحث عن شروط الحرية الفردية الذاتية، غير أن حقيقة الأمر تتجاوز مجرد المعاينة الإجرائية هذه، إذ إن الوجدان العربي الجماعي ما برح يفضل الوثوقية الاستسلامية والتعليلية الغيبية والحدسية المباشرة والإرجائية المترقبة والرجائية المتفائلة.

 

أعتقد أن هذه الخصائص التي تسم الذهنية العربية تؤثر تأثيراً بليغاً في طبيعة الإنتاج الفلسفي العربي المعاصر، إذ تزدهر في معظم الأحيان الأبحاث التي تراعي ما انفطرت عليه الطباع العربية على وجه العموم، وفضلاً عن ذلك يعتقد بعض الباحثين أن مثل هذه السمات تعارض مبدأ الحرية الفردية، إذ إنها تعطل في الوعي الذاتي صورة الكائن الإنساني المنعتق من سلطة الوصايات على اختلاف تجلياتها وهيئاتها.

بين العقل والحرية

بيد أن الفلسفة لا تتعثر بخصائص الشعوب أو بطباع الأقوام ما دام الناس يواظبون على التفكر الحر، ذلك أن الحرية قوام التفكير الفلسفي بمعزل عن طبيعة الاجتماع الإنساني، وإذا سقطت الحرية هوت الفلسفة إلى حضيض العبودية وفقدت قدرتها التنويرية الخلاصية، ولا بد من البحث الرصين عن سبل التوفيق بين فرادة الشخصية العربية ومتطلبات الحرية الفردية.

 

لست من الذين يعارضون العقل بالحرية والحرية بالعقل، ولكني أعتقد أن المجتمعات العربية المعاصرة تحتاج إلى الحرية حتى يستقيم عمل العقل فيها، فالعقل المأسور نكبة على المجتمعات الإنسانية، في حين أن الحرية غير العاقلة استبداد تخلفي عبثي مهلك، أما في ما يتعلق بخصوصية الاجتماع العربي فأظن أن الناس فيه يفضلون الوجدان على العقل، غير أن هذا التفضيل لا يبطل الفلسفة التي تجاري جميع أنواع المسارات التدبرية في الكائن الإنساني، سواء كان العقل أو الوجدان مستندنا الأول والأخير، فالمهم أن ينشط مسعانا الفلسفي في تدبر وقائع الحياة نشاطاً حراً منعتقاً من جميع أصناف الوصايات.

التنازع بين العقل والوجدان

لا يخفى على أحد أن بعض الحضارات تحمل في تراثها عناصر تكوينية أصلية تعزز الفكر التحليلي النقدي الثوري التغييري، في حين أن بعضها الآخر يميل ميلاً عفويا إلى الأعراف المعتمدة، ويركن ركوناً صادقاً إلى التقاليد المألوفة، ويرتاح ارتياحاً سليماً إلى ثوابت الجماعة ومسلماتها الموروثة، ومن ثم يجب ألا يستغرب المرء معاينة الاختلاف في مقادير الممارسة الفلسفية بين حضارة وأخرى وبين ثقافة وأخرى وبين مجتمعٍ وآخر وبين بيئة وأخرى. لست أسوغ في قولتي هذه الجمود التراثي والتصلب التقليدي، ولكني أعاين حدود الطباع السائدة حتى اليوم في مجتمعاتنا العربية، ومن الواضح إذاً أن هذه المجتمعات تفكر بوجدانها لا بعقلها، ومعنى هذا القول أن الإنسان فيها تعود أن يعزز في تدبره معاني الوجود الإحساس الوجداني والتأمل الجواني والاختبار العاطفي، لذلك نراه يعرض غالباً عن النظر العقلاني الموضوعي التحليلي التدقيقي التشكيكي التطلبي.

 

والحال أن الفلسفة تستند إلى مثل الاجتهاد الجريء هذا وتروم أن تعزز في الإنسان ملكة التفكير العلمي الصارم حتى تنتشر بين الناس الممارسة النقدية الهدمية البنائية الإبداعية، بيد أن تاريخ المذاهب الفلسفية كشف لنا عن أن الفلسفة فلسفات، ومنها ما يستند حصراً إلى مسلمات العقل ومبادئه وأحكامه وتحليلاته وخلاصاته، ومنها ما يؤثر المعاينة الحسية المباشرة أو الالتماع الحدسي الوضاء أو الانفعال الوجداني الإنعاشي أو الانشراح الجواني الصوفي الالتحامي الذوباني.

تنوع التناولات الفلسفية في الثقافة العربية

إذا كان المسعى الفلسفي على التنوع المغني هذا، وجب على المجتمعات العربية أن تختار السبيل الفلسفي الذي يلائم تقاليدها وتراثاتها وأعرافها وخلفياتها ومستنداتها، ولا ضير في ذلك على الإطلاق ما دام الناس يدركون أن الفلسفة تواكب مسار الحياة الإنسانية في جميع تجلياتها واختباراتها وتعبيراتها وإفصاحاتها، ومن ثم فليس على جميع المواطنين العقلاء المنتمين إلى مختلف المجتمعات العربية المعاصرة أن يعتمدوا تحليلية الفارابي الأرسطية النسبية أو عقلانية ابن رشد التوفيقية أو جوانية الغزالي الإيمانية أو إشراقية ابن سينا الصوفية أو شكية ابن الراوندي الإلحادية، بل المهم بخلاف ذلك كله أن يكتشفوا فضائل التفكير الفلسفي ويتبينوا آثاره الطيبة ويمتدحوا تنوع إسهاماته في إنارة العقل الإنساني.

لذلك أقبل اليوم أن تنعم المجتمعات العربية بمثل التنوع الفلسفي التراثي المذهل هذا من غير أن يكفر الناس بعضهم بعضاً، ومن غير أن ينفرد السلطان السياسي بإدانة المبتدعين وإقصاء المهرطقين، وأقبل أيضاً أن يشعر الناس بضرورة التفكير الموضوعي الهادئ في قضايا الحياة الإنسانية ومشكلاتها وتحدياتها من دون أن تفرض عليهم المؤسسة الدينية أو المرجعية التقليدية أو الأنظومة السياسية خلاصات استباقية وتصورات تعسفية وأفكاراً تشويهية.

الحرية المسؤولة شرط التفكير الفلسفي السليم

لا بد في جميع الأحوال من الاعتراف بأن الحرية شرط الشروط في ازدهار الفكر الفلسفي المحلي، إذ لا يستطيع الإنسان أن يسأل ويستفسر ويبحث ويشك ويجتهد ويبني في مجتمع خاضع لسلطان قاهر ومشيئة استبدادية ونظام تعسفي، وإذا أرادت المجتمعات العربية أن تعزز مقام الفلسفة كان عليها أن تضمن الشرط الأصلي الأول هذا، فتتيح للجميع أن يفكروا بحرية وأن يتباحثوا ويتناقشوا من غير استئذان، وأن يعبروا عن آرائهم وينشروا أفكارهم من غير رقابة، وأن ينتقدوا ما أنتجوه وما أنتجه الآخرون من غير توجيه تسلطي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا بد في هذا المقام من التذكير بأن الحرية التي أنادي بها يجب أن تزدان بروح المسؤولية التي تضمن استقامة المسعى الفلسفي حتى في أجرأ ابتكاراته وابتداعاته، ذلك بأن بعض الأوساط الثقافية العربية تؤيد الحرية سبيلاً إلى تعزيز هيمنتها الفكرية على سائر المذاهب والتيارات والتوجهات، ومن المعيب أن يستخدم بعض المثقفين الحرية في سبيل الدفاع عن تصورات فكرية أصولية تمتهن كرامة الإنسان وتنتهك سويته العقلية وتقضي على حريته الفردية الذاتية.

لا يجوز على الإطلاق أن نحارب الحرية بالحرية، أي أن نتوسل الحرية على غير اقتناع حتى نقضي عليها بعد استيلائنا على السلطة القاهرة النافذة في المجتمع، فذلك من أبشع أصناف النفاق الحضاري، والمطلوب أن تتعايش وتتناقش وتتحاور وتتفاعل وتتقابس في البيئة الثقافية الواحدة المذاهب الفلسفية المختلفة التي تعتصم جميعها بأصالة الحرية وقدسيتها ومركزيتها المطلقة، ولو اختلفت في تعيين مقام العقل أو مقام الوجدان أو مقام الإشراق الجواني.

قد أقبل أن أضحي بسيادة العقل المطلقة مراعاة لطبيعة الاجتماع العربي الذي يفضل الإحساس الوجداني، ولكني لا أرضى على الإطلاق بأن أضحي بالحرية التي أعاين فيها ضمانة الحياة الفلسفية العربية السليمة.

رسالة الحرية الفلسفية في قرائن الاجتماع العربي المعاصر

لا يندهشن أحد إذا رآني أفصل فصلاً افتراضياً بين الحرية والعقل، فحقيقة الأمر أني أنظر في العقل نظرة نسبية تجعله أداة موثوقة من أدوات تدبر حقائق الوجود الإنساني، وإذا ثبت أن الإنسان العربي على وجه العموم ميال بالفطرة إلى اجتناب الممارسة العقلانية المجردة المحايدة الموضوعية الصارمة المتطلبة المدققة، فلن أحكم عليه بالعقم الفلسفي ما دام يصون مبدأ الحرية المطلق في تناول قضايا الوجود، وإذا أنقذنا الحرية أنقذنا الفلسفة العربية المعاصرة، ولو أن العقل لم يقم مقام الصدارة المطلقة.

قد تثبت الدراسات الأنثروبولوجية العربية أن الإنسان العربي يفضل أن يتناول معاني الحياة بواسطة إحساسه الوجداني الداخلي، ولا يركن إلى استقصاءات العقل النظري وتجريداته المفهومية وتعرياته الاستفزازية الفاضحة، وذلك كله مقترن أيضاً بشخصية الإنسان العربي الخفرة وبنيته الاختبارية المتوارثة ونزعته التواصلية الجماعية، ولا ضير في ذلك على الإطلاق، ولكن إذا أراد الناس أن ينعموا بفتوحات التفكير الفلسفي الهادية كان عليهم أن يعززوا مبدأ الحرية الكاملة في اختبار تجليات المعنى الوجودي.

خلاصة القول أن الفلسفة العربية المعاصرة تحتاج إلى مخاطبة الإنسان العربي في صميم ذاتيته وفرادة خصوصيته حتى تبين له فوائد الحرية الكيانية الوجودية في استثمار طاقات عقله وإحساسه ووجدانه وحدسه وعاطفته، ولا بد من الإجماع على مبدأ الحرية حتى يستقيم المسعى الفلسفي في المجتمعات العربية، فوحدها الحرية تكفل لنا الإبداع في اختبار تجليات الحياة وتحققات الوجود وتجسدات المعنى في تضاعيف الاختبار اليومي الفردي والجماعي.

في يوم الفلسفة العالمي يجدر بنا أن نتفكر في شروط الحرية العربية وقرائنها التاريخية حتى نستطيع أن نهيئ للفلسفة العربية مقاماً يليق بدعوتها الخلاصية ورسالتها التنويرية ووظيفتها الإصلاحية، ذلك أن المجتمع الذي ينبذ الفلسفة يبتلى بآفات الظلام والجهل والاستبداد، أما عنوان الفلسفة العربية المنشودة فهي الحرية الناشبة في جسد الوجود العربي الحي، ولا قيمة لأي صنيعٍ عربي فكري أو فني أو تقني أو صناعي إذا أنجزه الناس في القهر والظلم والاستعباد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة