عام 2002، كانت الباحثة الفرنسية ألكسندرا لينيل لافاستين أصدرت كتاباً أثار في حينه ضجة كبيرة عنوانه "سيوران، إيلياد ويونيسكو: ثلاثة مثقفين رومانيين وسط إعصار العصر"، حاولت فيه أن تفسر تلك الوقائع التي أدت في تجمعها وانتشارها إلى الاستنتاج بأن هؤلاء المبدعين الثلاثة الذين عاشوا في فرنسا وكتبوا بلغتها إنما كانوا مناصرين لهتلر وللنازية وكل منهم على طريقته. وفي ما يعني موضوعنا هنا، يبدو أن الأكثر تأثراً بهذا الأمر كان ابنة يوجين يونيسكو بالتحديد، ماري فرانس يونيسكو التي انتظرت بضعة أعوام، تحديداً حلول الذكرى المئوية لولادة أبيها الشهير، وأحد مؤسسي وأقطاب مسرح اللامعقول إلى جانب الإيرلندي صمويل بيكيت والروسي آرثر آداموف، اللذين عاشا بدورهما في باريس وكتبا أعمالهما الرئيسة بالفرنسية، حتى تشنّ ما يمكن اعتباره "هجوما مضاداً" لاستعادة سمعة أبيها، كان من الغريب أنها ركزته على أن والدها كان فرنسياً ولم يكُن رومانياً. وهي وصلت في هذا التأكيد إلى اسم الوالد، نافية أن تكون له الصيغة الرومانية Ionescu، مؤكدة أنه كان دائماً Ionesco ويجب أن يبقى هكذا على الدوام!
حرف واحد للتفريق
يومها عجز كثر عن إدراك الفارق الذي يحدثه الحرف الوحيد ذاك في الاسم وفي دلالته، لكن بالنسبة إلى ماري فرانس، قالت فوراً إنه فارق أساسي إنما من دون أن تبدو الأمور في كلامها واضحة بما فيه الكفاية. ومن هنا، راح الصحافيون ينقبون ويخمنون ليتوصلوا إلى فرضية، قد تبدو لنا هنا طريفة بعض الشيء. ولكن هنا، قد يكون علينا أن نترك الصحافيين وتخميناتهم لنتحوّل إلى ابنة يونيسكو، مستعرضين ما فعلته وقالته في هذا الصدد، بخاصة أنه ظهر في الذكرى المئوية لولادة أبيها، وهي ذكرى احتفلت بها فرنسا كما احتفلت بها رومانيا، بأكثر مما احتفل أي طرف آخر في العالم. وبالنسبة إلى ماري فرانس، يتبدّى الأمر بسيطاً: إذا كان يوجين يونيسكو كتب مسرحياته في باريس وباللغة الفرنسية، فإن هذا "يعني تماماً أنه هو نفسه كان فرنسياً، ولم يعُد يتوجب اعتباره كاتباً رومانياً"، حتى إن كان قد ولد (عام 1909) في مدينة سلاتينا الرومانية من أم فرنسية وأب روماني. بالتالي، فإن ماري فرانس أفتت بأن أباها صاحب متن أدبي فرنسي، ما يجعله كاتباً فرنسياً آتياً من رومانيا فحسب!
في خدمة حكومة فيشي
وهو بالتالي يجب أن يعامل من قبل البلد الذي ولد فيه كما يعامل أي كاتب أجنبي فيه، بل أن تُعتبر ولادته في رومانيا مجرد حدث عارض، فـ"لقد سئمت من كل أولئك الذين ما برحوا يلوّحون بأصول والدي الرومانية وكأنها بيرق"، قالت ماري فرانس، مذكّرة بما كان أبوها نفسه يؤكده دائماً من أن لغته الأم كانت الفرنسية. ثم إن يوجين سيعيش أولى سنواته في فرنسا على أية حال، هو الذي انتقلت به أمه المطلقة طفلاً يحبو إلى بلادها ليستقر هناك حتى عام 1924، حين تمكّن أبوه من إعادته إلى رومانيا بفعل حكم قضائي. ومن المعروف أنه استكمل في رومانيا دراساته الجامعية حتى أصبح أستاذاً مدرّساً للغة الفرنسية تحديداً. بيد أنه حين سيعود إلى باريس عام 1938، سيعود كمواطن روماني بمنحة، والأدهى من ذلك أنه بعد أعوام قليلة وإذ اندلعت الحرب العالمية الثانية وهزم النازيون الألمان فرنسا واحتلوها وقامت حكومة فيشي تحت وصايتهم، سيعمل يوجين ملحقاً ثقافياً لدى تلك الحكومة لحساب حكومة أنطونيسكو النازية التي استولت على السلطة في بوخارست. ومن الواضح بالنسبة إلى الصحافة الرومانية التي اهتمت بالحديث عن يونيسكو وحكاية ابنته في مئوية ولادته، أن هذا الفصل بالتحديد من سيرة ذاك الذي سيضحي الكاتب المسرحي الكبير هو ما تحاول الابنة محوه من الذاكرة تماماً.
أوروبا النازية
ويعني هذا أن تأكيدات ماري فرانس التي ستبدو للوهلة الأولى قريبة من العبث الذي طبع مسرح أبيها وتتعلق بالفروق اللغوية التي كثيراً ما شكّلت الموضوع الأساس في مسرحه، منذ "المغنية الصلعاء"، تتمركز في هذه النقطة بالذات: في أن الابنة إنما تريد ولو بالحدود الدنيا أن تنسي الناس ذلك الفصل السيّء زاعمة وهن علاقته أصلاً برومانيا التي كانت من أقرب دول أوروبا الوسطى في ذلك الحين، حكومة وشعباً إلى نازيي هتلر، بما في ذلك اختيارات كبار مثقفيها، ما يعيدنا هنا طبعاً إلى كتاب الفرنسية ألكسندرا لينيل الذي ذكرناه أول هذا الكلام. تريد الابنة أن توحي بأن علاقة أبيها برومانيا لم تكُن أكثر من علاقة منفيّ ببلد عاش فيه، أو هذا ما أكده على الأقل مقال نُشر حينها في مجلة "كوتادينول" الرومانية التي نشرت تصريحات ماري فرانس يونيسكو، مؤكدة أن هذه الأخيرة ولو عبر تبديل حرف واحد من اسم أبيها إنما أرادت فصله ولو رمزياً، عن اسم Antonescu وهو الاسم الذي يوصم به في رومانيا كل أولئك "الخراتيت" الذين تعاملوا مع النازيين.
الثرثرة عمود فقري
مهما يكُن، فإن يوجين يونيسكو، الذي ولد في رومانيا في 1909، وتوفي في فرنسا عام 1994، يُعتبر خارج كل تلك الحسابات بفوضويته العابثة واستهانته بكل شيء، كاتباً كبيراً عرف كيف يساير عصراً بدا كل ما فيه مجنوناً وغير ذي معنى، ما جعله يعتبر مسرحه "خير معبّر عما آلت اليه حال رجل القرن العشرين". وفي هذا الإطار، لا يفوت يونيسكو أن يلفت النظر إلى أنه إذا كانت الثرثرة التي لا طائل تحتها تشكّل العمود الفقري لبعض أهم مسرحياته، فإن نظرة إلى ما تقدّمه لنا تلفزات هذه الأيام تكفي لتضعنا حقاً في قلب الثرثرة. والثرثرة التي يعنيها يونيسكو هنا، هي اللغة التي تشكّل عماد خطاب البشر، بحيث يتحدث كل واحد كأنه يتحدث بمفرده ويتحوّل كل حوار (ديالوغ) إلى نوع من المناجاة (مونولوغ). ويقول يونيسكو: "لقد اكتشفت حقيقة مبادلاتنا اللغوية، فيما كنت أتابع درس اللغة الإنجليزية، إذ بدا لي من الواضح أن ما من جملة وُضعت لكي تلتقي حقاً مع جملة أخرى".
بين "صمتين" متعارضين
من صمت بيكيت إلى "ثرثرة" يونيسكو، ثمة مسافة طويلة، ولكن لم يكُن من الصدفة أن يكتشف العالم مسرح هذين الاثنين في الفترة الزمنية ذاتها تقريباً. ولكن لئن كان بيكيت قد حقق النجاح والقبول منذ عرض مسرحيته الأولى "في انتظار غودو"، فإن الفشل كان من نصيب يونيسكو يوم عُرضت "المغنية الصلعاء" في 1950. في ذلك الزمن الخارج من عبثية الحرب العالمية الثانية، "كان جمهور المسرح مستعداً لاستقبال من يحدّثه عن فجائعية العالم أكثر مما كان مستعداً لاستقبال من يحدّثه عن عبثية العالم المضحكة"، بحسب تعبير أحد الباحثين. ومع هذا، سرعان ما بدأ يونيسكو يحقق النجاح، بعدما بدأ ينكشف الجانب الفجائعي الكامن خلف فوضوية مسرحه وثرثرته. ويونيسكو لم يكفّ عن الكتابة منذ ذلك الحين على الأقل، خالطاً في مسرحه بين ثرثرة اللغة والدلالة الواهية للأشياء: البيض، مثلاً، في مسرحيتين له على الأقل، الكراسي في مسرحية "الكراسي"، أقداح القهوة في "ضحايا الواجب" والأثاث بشكل عام في "المستأجر الجديد"، والفطر في "أميدي، أو كيف تتخلص منها". كل هذه المسرحيات كُتبت خلال النصف الأول من الخمسينيات، وأسست للمكانة الأساسية التي احتلها يونيسكو في تاريخ المسرح الحديث. ولكن اعتباراً من نهاية سنوات الخمسين، راح مسرح يونيسكو يتخذ أبعاداً أقل فكاهة في أعمال مثل "القتلة" و"الخرتيت" اللتين كُتبتا في الأصل على شكل قصص قصيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دور أساس في الثقافة الفرنسية
بفضل تلك الأعمال وبفضل الاهتمام بيونيسكو وكتبه بعد ذلك، ثم خصوصاً بفضل تصريحاته الصحافية وحضوره الأساسي والفاعل في الحياة الثقافية الفرنسية، تمكّن يونيسكو من أن يصبح خلال النصف الثاني من القرن العشرين واحداً من كبار رجال المسرح، وهو حين رحل، رحل عن أكثر من ثلاثين مسرحية، لا تكفّ مسارح العالم عن تقديمها وإعادة تقديمها. ولقد كان من حظه أن عاش حتى شهد بأمّ عينيه سقوط نظام الحكم الروماني الذي حاربه طويلاً، على الرغم من أن السلطات الرومانية في عهد تشاوشيسكو اهتمت به ودعته غير مرة إلى زيارة بلده، حيث كان معظم أعماله يُقدّم من دون انقطاع. ونذكر هنا أن معظم مسرحيات يونيسكو مترجم إلى العربية وقُدّم مرات عدة على كثير من خشبات العواصم العربية.