Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجمهورية اللبنانية المعلقة في الفراغ

دخل الرئيس السابق ميشال عون إلى قصر بعبدا في ظل شبه إجماع سياسي وخرج منه في ظل خلاف مع أكثرية القوى

منذ انتفاضة 17 أكتوبر 2019 بدأ السقوط الكبير للجمهورية اللبنانية وللعهد معاً (أ ف ب)

كان ينبغي أن يشكل عهد الرئيس اللبناني السابق ميشال عون محطة لإنقاذ الجمهورية تطبيقاً لسياسة كان ادعى أنه سينتهجها وتقوم على استعادة الجمهورية أولاً ولكنه انتهى إلى عكس ما أعلنه وهو ضياع الجمهورية التي صارت معلقة على الفراغ. بين 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 و31 أكتوبر 2022 ضيع الرئيس عون كثيراً من الفرص واتهم الآخرين المختلفين معه بأنهم عرقلوا عهده وفشلوه. وبينما كان يعتقد بأنه سيكون قادراً على تأمين انتقال الرئاسة إلى صهره رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل بدعم من "حزب الله" الذي كان وراء وصوله هو، سقط رهانه ووصل إلى حد الخلاف مع "حزب الله"، آخر الذين كان يعتقد بأنه يمكن أن يختلف معهم نتيجة عدم تأييد الحزب لانتخاب باسيل رئيساً للجمهورية.

السقوط المتدحرج

ومنذ انتفاضة 17 أكتوبر 2019 بدأ السقوط الكبير للجمهورية وللعهد معاً.

في 29 أكتوبر من ذلك العام قدم رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري استقالته واستقالة حكومته على رغم مناشدة "حزب الله" ورئيس مجلس النواب نبيه بري و"التيار الوطني الحر" والرئيس ميشال عون له بعدم الاستقالة والبقاء في المواجهة. وبعد 12 يوماً على بدء الانتفاضة الشعبية التي انطلقت بشكل عفوي اعتراضاً على زيادة الضريبة على اتصالات الـ"واتساب"، لم يعد قادراً على تحمل تبعات الحكم وأعباء العهد. وفي أكتوبر 2016 انضم الحريري إلى التسوية التي أوصلت عون إلى رئاسة الجمهورية بعدما كان رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع تخلى عن ترشحه وأيد ترشيح عون وتم الإعلان عن الاتفاق معه في مقر القوات في معراب التي تقع في قضاء كسروان الفتوح في 18 يناير (كانون الثاني) 2016. هذا الاتفاق جاء بعد عامين من تعطيل انتخابات الرئاسة بسبب اعتماد "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" تطيير نصاب جلسات انتخاب الرئيس. ونتيجة هذه التسوية صار الحريري رئيساً للحكومة ولكنه ذهب بعيداً في الموالاة واقترب من خيارات عون السياسية، بعدما حكي عن اتفاقات تمت بينه وباسيل، سبقت تأييده انتخاب عون، وانعكس هذا الأمر في انتخابات 2018 النيابية التي دعم فيها الحريري باسيل علناً.

وبعد الحريري، سقطت محاولة تكليف السفير مصطفى أديب عقب وساطة فرنسية، فاعتذر، ليذهب "حزب الله" مع الرئيس عون إلى تسمية الرئيس حسان دياب باعتبار أن كانت لديهم الأكثرية النيابية التي تمكنهما من التسمية مع قوى 8 مارس (آذار). لم تتكلل حكومة دياب بالنجاح بل أعلنت أن لبنان صار بلداً مفلساً عندما امتنعت عن دفع مستحقات الديون المترتبة على الدولة اللبنانية من دون وجود خطة إنقاذ. وبعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020 سقطت حكومة دياب بعدما أعلن استقالته ليبدأ بعدها السقوط السريع.

أسماء كثيرة طرحت لاختيار رئيس للحكومة، لكن الطريق كانت مقفلة أمامها وعادت اللعبة لتستقر عند الحريري الذي اعتبر أنه مرشح طبيعي لرئاسة الحكومة ولأن "حزب الله" وحليفيه بري وعون كانوا يفضلون المراهنة مجدداً عليه في وقت ساءت علاقته مع السعودية، خصوصاً بعد الأزمة التي حصلت معه في الرياض وأعلن خلالها استقالته، فتمسك به عون و"حزب الله" وبعد عودته إلى لبنان عاد عن هذه الاستقالة. سمي الحريري لتشكيل الحكومة في 22 أكتوبر 2020 ووافق على التكليف ولكنه فشل في التأليف بعد الخلاف على تشكيلة الحكومة مع الرئيس عون. وفي 19 يوليو (تموز) 2021 وجد نفسه يعلن الاعتذار عن الاستمرار في قبول التكليف ليعود خيار "حزب الله" إلى الرئيس نجيب ميقاتي.

تجارب ميقاتي

عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) وسقوط حكومة الرئيس عمر كرامي، كان نجيب ميقاتي هو الحل الوسط. كلف رئاسة الحكومة التي أمنت إجراء الانتخابات النيابية التي لم يترشح لها مع وزراء الحكومة والتي أتت نتيجتها لمصلحة قوى 14 مارس. ولكن في يناير 2011 قبِل ميقاتي تكليفه مرة ثانية برئاسة الحكومة بعدما فرض "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" استقالة حكومة الحريري باستقالة وزرائهما منها. وخاض ميقاتي تجربة انتهت إلى الفشل بعد عامين، فقدّم استقالة حكومته في 22 مارس 2013، ليبدأ البحث عن حكومة جديدة تؤمن الاستمرارية بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان. التجربة الثالثة لميقاتي جاءت بعد اعتذار الحريري، فتمت تسميته وشكل الحكومة في 10 سبتمبر (أيلول) 2021 ولكن هذه الحكومة أدارت تركة حكومة دياب واستمر معها الانهيار وصارت سرعته أكبر. رفع الدعم عن كثير من المواد الأولية وانتظم الناس في الطوابير أمام الأفران ومحطات الوقود في ظل انقطاع دائم للتيار الكهربائي نتيجة العجز عن تأمين ثمن مادة الفيول لتشغيل معامل الكهرباء. والرهان الأهم الذي نجحت فيه الحكومة نتيجة الإصرار الدولي كان تأمين إجراء انتخابات نيابية في موعدها بعد تأمين الكلفة المادية اللازمة لها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انتخابات وتصريف أعمال

كان "حزب الله" مع عون يتوقعان أن يحصلا على الأكثرية النيابية في انتخابات 15 مايو (أيار) 2022، لكن النتائج أظهرت أنهما فقدا مع حلفائهما هذه الأكثرية من دون أن تكون هناك أكثرية واحدة معارضة في المقابل. قبل هذه الانتخابات أعلن رئيس "تيار المستقبل" الرئيس سعد الحريري تعليق العمل السياسي والخروج الكامل من العملية الانتخابية اقتراعاً وترشيحاً وطلب ممن يرغب من التيار في الترشح بأن يتقدم باستقالته. هذا القرار جاء بعد انقطاع الحريري عن قواعده الشعبية وتياره والقياديين فيه وانصرافه إلى الاهتمام بأعماله الخاصة التي حاول تجديدها من الإمارات العربية المتحدة حيث اختار الإقامة. وهذا الأمر أدى إلى توزع النواب السنة على أكثر من تجمع أو تكتل نيابي. إضافة إلى هذا الأمر حصلت "القوات اللبنانية" على 19 نائباً لتصير أكبر كتلة مسيحية بعدما كان "التيار الوطني الحر" يعتبر أنه حاصل على الكتلة الأكبر وأنه يحق له أن يسمي رئيس الجمهورية. إلى جانب كل ما سبق، كان نجاح 13 نائباً من خارج الاصطفافات السياسية مفاجئاً، لكن المفاجئ أكثر كان أن هؤلاء النواب لم يستطيعوا أن يكونوا كتلة موحدة تستطيع أن تبدل في الخيارات والمسارات، فانتهوا إلى الانقسام. وهذه الأمور ستنعكس حتماً على انتخابات رئاسة الجمهورية قبل انتهاء ولاية عون.

كان هناك تركيز دولي مستمر على ضرورة إجراء هذه الانتخابات النيابية ثم الرئاسية. معظم التقارير التي وضعتها المنظمات الدولية التي زار ممثلون عنها لبنان واستطلعوا الوضع، كانت تراهن على أن تكون هذه الانتخابات بداية الصعود من الهاوية وأن يتأمن بعدها تشكيل حكومة جديدة، وأن يأتي بعدها استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية. هذه المنظمات الدولية توافقت مع آراء موفدين دوليين من الأمم المتحدة ومن فرنسا وأميركا، كلهم أجمعوا على أن التغيير لا يمكن أن يبدأ مع هذه السلطة التي تنكر وجود الأزمة وترفض التغيير والتنازل والتي تم تحميلها مسؤولية هذا الانهيار بسبب الفساد وانعدام المسؤولية وعدم التطلع إلى رغبات الناس التي عبّروا عنها في الشارع منذ 17 أكتوبر. لذلك اتجهت الأمور أكثر نحو الهاوية وعبّر عون عن هذا الأمر بالقول "إننا ذاهبون إلى جهنم".

وبعد الانتخابات النيابية برز اختلاف بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" حول تسمية نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة. عارض التيار هذه التسمية وكما حصل مع الحريري تكررت التجربة مع ميقاتي الذي قدم تشكيلة حكومية لم تحظ بموافقة رئيس الجمهورية وكان واضحاً أنه لن يشكل هذه الحكومة على رغم أن حكومته تعتبر مستقيلة بعد الانتخابات النيابية وتقوم بتصريف الأعمال وعلى رغم أن عون مع "التيار الوطني الحر" اعتبرا أن لا يمكنها أن تتسلم صلاحيات رئيس الجمهورية في حال الشغور الرئاسي.

في ظل البحث عن رئيس، تبنى "حزب الله" مع حليفه بري ترشيح رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية من دون الإعلان عن هذا الأمر نتيجة رفض النائب باسيل والرئيس عون تبني ترشيحه، بينما تبنى "حزب القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" وعدد من نواب المعارضة، ترشيح النائب ميشال معوض. أكثر من جلسة انتخاب عقدت قبل انتهاء ولاية عون، لكن أي مرشح لم يحصل حتى على الأكثرية العادية.

ترسيم في ظل الضياع

وسط هذا الفراغ القاتل في إدارة الدولة، كان مفاجئاً أن البحث عن اتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل يتقدم. فجأة ومن دون مقدمات أعلن عون التنازل عن الخط 29 الذي كانت حددته دراسة أعدها المكتب الهيدروغرافي البريطاني والمكتب الهيدروغرافي في قيادة الجيش، واقترح الخط 23 الذي حددته حكومة الرئيس فؤاد السنيورة منذ عام 2009، ووافقت عليه الحكومات اللاحقة التي كان "حزب الله" يشارك فيها كلها. ونتيجة هذا الأمر أنهيت مهمة الوفد العسكري الذي كان يتولى المفاوضات، ليكلف عون النائب الياس بو صعب هذه المهمة والتواصل مع الوسيط الأميركي آموس هوكشتين. قبل انتهاء ولاية الرئيس عون بثلاثة أيام، وقع هذا الاتفاق الذي وافق عليه "حزب الله"، وأعطى فيه كل من لبنان وإسرائيل الولايات المتحدة الأميركية حق التدخل لفض أي خلاف يقع بينهما، بالتالي بات هناك اعتراف من "حزب الله" بمرجعيتها واعتبر هذا الاتفاق بمثابة تأكيد على اتفاق الهدنة القائم منذ عام 1949 وتثبيت لها، لأنه يقدم المصالح الاقتصادية المشتركة على التوتير الأمني ويتيح لإسرائيل البدء باستخراج الغاز من حقل كاريش ويسمح للبنان بالبدء بعمليات التنقيب التي أعطيت فيها شركة "توتال" حق تحديد حصة إسرائيل من حقل قانا الذي يمر عبره الخط 23.

الخروج من الجمهورية

في 30 أكتوبر 2022 خرج عون من قصر بعبدا وسط حشد شعبي من مؤيديه في "التيار الوطني الحر"، حيث ألقى خطاباً حمل فيه مسؤولية فشل عهده إلى من اعتبر أنهم تآمروا على العهد. في الواقع كان هذا الخروج يشكل بداية تغيير حتى في العلاقة بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" نتيجة تمسك الحزب بدعم ترشيح فرنجية، ونتيجة تمسك عون وباسيل برفض هذا الترشيح. هذا الاختلاف أدى إلى خلاف حول تمكن حكومة تصريف الأعمال من عقد جلسة دعا إليها ميقاتي، واعتبر عون وباسيل أن "حزب الله" يقف وراءها وأنها مخالفة للدستور. وهذا الأمر أدى إلى تشكيك باسيل بصدقية أمين عام الحزب حسن نصرالله قبل أن يحاول تصحيح ما اعتبره الحزب خطأ كبيراً بالقول إنه كان يقصد "حزب الله" وليس "السيد حسن نصرالله" عندما تحدث عن وعد غير الصادقين.

دخل الرئيس عون إلى قصر بعبدا في ظل شبه إجماع سياسي وخرج منه في ظل خلاف مع أكثرية القوى السياسية. وبدل أن يحصل انتقال السلطة والرئاسة في مواعيد الاستحقاق الدستورية، يستمر البحث عن رئيس وعن مخرج في جمهورية معلقة على الفراغ بانتظار بارقة أمل لم تظهر بعد في أفق النفق السياسي الطويل.

المزيد من تقارير