Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 مسرحية "شمس ومجد" تكشف آثار المأساة السورية

أسامة غنم يجسد مع الممثلين هموماً فردية وجماعية يتم تجاهلها

من المسرحية السورية "شمس ومجد" (خدمة الفرقة)

لئن كانت مسرحية "شمس ومجد" للمخرج السوري أسامة غنم التي بدأت جولة عربية انطلاقا من بيروت، تعري الواقع المعيش وترصد التحولات التي طرأت على المجتمع السوري من خلال مشاهد متتالية لا تربطها تيمة محددة، فإن اللوحات الفنية لتلك المشاهد أبدعت في تقديم هموم متنوعة تتعلق بقضايا وجودية تتخذ أبعاداً إنسانية عميقة، بعيداً من السياسة، مع أنها في خلفيتها سياسية بامتياز.

تتوارى الأهوال التي مرت على الشعب السوري خلف هموم حياتية، هي لم تطرأ بالضرورة على حياة السوريين في الراهن الحالي، بل كان مسكوتاً عنها بسبب غياب حرية التعبير ربما، أو خشية من عاقبة هذا التعبير أو إساءة فهمه أو غرضه، لكن اللافت أن النص المسرحي الذي كتبه المخرج أسامة غنم بنفسه، وتولى إخراجه، برع في توصيف هذا الواقع من خلال حوارات مؤثرة تشي بمقدرة فذة في التعبير، ومنح الممثلين والممثلات إمكانات مذهلة للعب أدوارهم/ن ببراعة.

كانت هموم التمثيل حاضرة بقوة عند "شمس" التي تدرس فن التمثيل في معهد للفنون، وتعمل نادلة في مقهى افتتح حديثاً، مع "مجد" شريكتها في السكن، والتي تدرس في الجامعة علم الاجتماع، لكنها تكره عملها كنادلة في خدمة زبائن تافهين يعاملونها بحقارة. يشاركهما "طارق" -النادل الأقدم- محنة العمل لساعات طوال مقابل أجر زهيد يتقاسم فيه صاحب المقهى معهم الإكراميات.

العيش غير الكريم

 يسلط أسامة غنم الضوء من خلال هذا العمل على قضية العمل غير المدفوع الأجر تقريباً، إذا ما قورن بين الجهد المبذول وساعات العمل المضنية، جسدياً ومعنوياً، لقاء أتعاب تافهة لا ترقى إلى مستوى الأجر الذي يستحقه هؤلاء الندل، أقله من أجل عيش كريم بحدوده الدنيا. "طارق" الذي تشغله أعمال الأنيميشن والميازاكي يحلم بأن يتحول هذا الشغف إلى عمل حقيقي، لكن المفارقة أن "جوليا" الممثلة التي جعلت فن التمثيل مهنتها تصطدم بالتفاهة والابتذال في المسلسلات، لكنها على رغم ذلك تضطر إلى القبول بالتفاهة وإلا فلن تتمكن من الحصول على عمل. نلمس ذلك لدى "جوليا" في سخريتها من المسلسلات التي تؤدي فيها أدواراً رئيسة، ومن الدراما المبتذلة المتكررة التي تتناولها هذه المسلسلات وتقدم مادة تافهة وسطحية، مما يجعل من المواءمة بين حاجتها المادية وطموحاتها الفنية كممثلة أمراً صعباً.

هي تقبل على مضض ومضطرة سعياً إلى العيش أو العمل في دبي التي تحلم بأن تمنحها الإقامة الذهبية، بديلاً عن "الغرين كارد" أو من سعي "الحصول على جنسية كندية أو أية جنسية أجنبية" تسمح لها بالعيش خارج حدود الوطن، كما يحلم الملايين من السوريين والعرب، هرباً من أزمات طاحنة وحروب وهموم وجودية، لم تبدأ بالضرورة مع ثورات الربيع العربي، ولم تنته بها. كانت الأسباب تسكن خلف الكلمات والجمل. وهو ما حدث تقريباً في المشاهد التي استمر الممثلون والممثلات يؤدونها على مدى ثلاث ساعات ونيف تخللتها استراحة، لتواصل المسرحية من بعد، تعرية الواقع من غير التطرق إلى أسبابه أو حتى التلميح لهذه الأسباب.

 وعبر تناول قضايا الفقر والبطالة والفروق الطبقية والمرأة وتقريع الأثرياء الجدد أو الذين يحملون الأموال بأكياس القمامة، ويتفاخرون على الندل، بل يذلونهم عمداً، فقط لأنهم يملكون المال ويرطنون طلباتهم بإنجليزية غير مفهومة لنادلة بسيطة مثل "مجد" تتشارك مع الزبونة منافع العولمة ونافذة "غوغل"، لتفهم مكونات القهوة التي تطلبها الزبونة. ولا تلبث الزبونة هذه أن تستفز "مجد" أكثر حين تدفع لها الحساب من كيس القمامة الذي تتكدس فيه أوراق المال.

مفارقات الواقع

 تبرع مسرحية "شمس ومجد" في تجسيد مفارقات الواقع الذي فرق بين الناس في البلد الواحد. نجد ذلك في المصائر المتنافرة التي يعيشها أفراد من هذا المجتمع الواحد الذي كما نعلم جميعاً، مزقته الحرب من غير أن يقترب النص من الحديث عنها. وإذ يقهقه الجمهور حيناً تلو آخر، لجملة قوية تعبر وتمزق المسكوت عنه، في صمت موارب، يستعين بالكوميديا السوداء الساخرة ليجسد مرارة العيش في لحظة خاطفة تجمع بين براعة التمثيل وقوة التعبير.

كان على "شمس" أن تبدأ في تعلم تمثيل الحيوانات -تلعب شخصية الضفدع ثم السلحفاة ببراعة- كمقدمة تنتقل بعدها لتمثيل شخصيات إنسانية. هنا تستفز "مجد" معترضة على منهج معهد التمثيل -هي طالبة علم الاجتماع- وتسأل "شمس" متهكمة "شو الواحد لازم يتحيون حتى بعدين يصير إنسان؟". وربما تلخص هذه الجملة الاعتراضية مجمل النص بما تنطوي عليه من كثافة المعنى. أو يمكن للجمهور ربما تأويلها كما يشاء، ولهذا نفهم لماذا علا التصفيق حينذاك في المسرح، بحماسة. وبدا ما يشبه التواطؤ الحر ما بين الخشبة ومن عليها ونص الكاتب وما يعرف الجمهور عما حدث وأوصل الواقع إلى ما هو أسوأ مما كان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مسرحية "شمس ومجد" وإن أوحى عنوانها أنه يحمل اسم بطلتي المسرحية، لكن الأمر ليس كذلك. فمعظم الممثلين والممثلات لعبوا أدواراً تجعل منهم/ن جميعاً أبطالاً. وقد تناول أداؤهم/ن المسرحي هموماً وقضايا متنوعة تقوم على إشكاليات وجودية يتم تداولها عبر العالم كقضايا إنسانية لا تخص المجتمع السوري أو العربي وحده. وإن تنوعت أسبابها أو اختلفت تفاصيل عيشها وتفاوتت حدة ثقل هذه القضايا من بلد لآخر، بحسب الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي و... و... و.

معارك وتحولات

ثمة كانت قضايا وهموم أضحى الحديث عنها بهذه الغزارة والمهارة في الواقع السوري له ما يبرره، بسبب ما مر على هذا المجتمع من تحولات وسط غبار المعارك والهروب والتشرد في عراء العالم وفقدان الأحبة وموت مئات آلاف الضحايا وخراب بلد كان ينعم بطمأنينة. تتشعب هذه القضايا والهموم وتتشابك في مسرحية "شمس ومجد" لتعبر عن قلق عالمنا كله، الذي يترنح على صفيح ساخن. عالم بات يحتاج إلى أن يعيد النظر في أزمة الحب وعلاقتها باستغلال النساء وهو ما عبر عنه المخرج في أكثر من مشهد، مع ما حمله من تهكم على شطحات النسوية من غير تبرئة الذكورية. عطفاً على الأزمات التي تحفر عميقاً في علاقات أسرية غامضة، تسبب عقداً نفسية للأبناء.

ثلاث ساعات ونصف الساعة من عرض مسرحي، البطولة فيه للنص والتمثيل، حيث ينفجر الكلام ولا يعود الصمت خياراً. وإن بدا الإخراج متواضعاً، وهو خيار أسامة غنم في جل أعماله، باستثناء الخلفية التي تنقل النص المسرحي بلغة إنجليزية تجسد تطابق النص مع التجهيز المسرحي، يعكس عولمة القضايا التي تشغل بال المخرج وتساؤلاته.

يبقى أن براعة التمثيل أطلقت العنان لتصفيق الجمهور، وبلغ الأداء حد الامحاء في الشخصيات، وتطويع لغة الأجساد لتصعد بالنص إلى درجة مذهلة، إذ لم يفاجئنا هذا المستوى الراقي والعريق الذي اعتدنا عليه في المسرح السوري، حيث كتب الممثلون والممثلات نص أسامة غنم "تمثيلاً"، وعلى طريقتهم/ن، وكانوا -وكن عن جدارة، قامات شبابية واعدة في عالم التمثيل والمسرح من غير ضوضاء الشعارات أو ضجيج الخطب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة