Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"خبز التنور" السوري من مائدة البسطاء إلى "الرغيف السياحي"

السيدات الريفيات المتقنات لصناعته حولنه من ركن بالمنزل إلى مشروع تجاري متناهي الصغر

أم عبد الله تعكف على عجن الطحين وتحضر الحطب الذي يبتلعه التنور في روتين يومي تعكف عليه منذ عقود (اندبندنت عربية)

"مسعد يا تنور، يما ليلة، مسعد يا تنور... يا مجمع الزينات، مسعد يا تنور" فور ترديد كلمات هذه الأغنية من التراث الشعبي السوري على مسامع أناس من عهد الآباء والأجداد تعود بهم الذاكرة إلى أزمنة كان للتنور فيها حضور شهي بوجدان من عرفه، وركن لا غنى عنه بالبيوت والدور العربية على امتداد رقعة الأرياف قصرت أم بعدت مسافتها، في ذلك الوقت كان لخبزه الساخن طعم لا يعرفه جيل "الكيك" والوجبات السريعة.


الحياة تغيرت

"نعم، تغيرت الحياة إلى أبعد ما نتصور، فالتكنولوجيا وآلات الطهي الحديثة وفرت كثيراً من جهد لا تستطيع نسوة اليوم تحمل أعبائه"، هكذا تروي السيدة أم عبدالله أثناء إخراجها رغيفاً من فوهة تنور تعمل عليه في جبلة بريف اللاذقية، غرب سوريا غير آبهة بوهج يلفح وجهها.

السيدة التي تجاوزت الستين من عمرها لم تعرف قدمها طريقاً إلى باب المخبز الآلي، إذ اعتادت صناعة الرغيف لها ولعائلتها بكلتا يديها، فمنذ بزوغ الشمس، تعكف على عجن الطحين وتحضر الحطب الذي يبتلعه التنور، في روتين يومي تعكف عليه منذ عقود طويلة حينما كانت بمقتبل العمر.

خبز بطعم التآلف

الجلوس لصناعة الخبز في الريف حين تتحلق الريفيات حوله، طقس يشبه تجمعات نسوة المدينة في ما يسمى "جمعة الصبحية"، فهي جلسات مخصصة للنميمة وتبادل الأحاديث بكثير من المتعة عن حوادث الحياة، صحيح أن هذه الصباحات التي تفوح منها رائحة القهوة قد ولت مع اندلاع الحرب الأخيرة لكن الفارق أن الريفيات ما زلن يمارسن طقوسهن منذ عرف التنور طريقاً لبيوتهن.

يقصصن سيراً وحكايات قد تتسع لأبعد من جبال وسهول خضراء تحاوطهن لعل وقتذاك يعد الحديث عن مد سكة (تورماي) القطار أو جسم حديدي يطير بالسماء يطلق عليه الطائرة فيه كثير من الإثارة في خيالهن، بينما ركوب الحافلة كان أقصى ما يتمنينه. كل ذلك يحدث وهن يصنعن قوت يومهن الساخن، ويكملن النهار بين الحقول والبساتين يساندن الرجال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يختصر الباحث في التراث فؤاد ربيعي الحديث عن التنور بأنه "خبز بطعم التآلف والمودة" وعلى رغم تبدل الأحوال هذه الأيام فإنه من العادات الاجتماعية الأصيلة التي ما زالت باقية ومتجذرة، ويشرح في حديثه إلى "اندبندنت عربية" عن تكوين التنور أنه مصنوع من الصلصال، ويتشكل على هيئة وعاء فخاري يتركز على قاعدة حجرية بشكل مائل، ويوضع في داخله الحطب والوقود الذي يشعل التنور.

وأردف "ارتفاعه نحو 20 سم وسماكته بحدود بين ثلاثة وخمسة سم، بارتفاع لا يتجاوز المتر الواحد، وللفخار أحجام وأغراض مختلفة في حال صنع لأغراض تجارية أو مخصص للمنزل، ويتجاوز استخدامه لأغراض صناعة الخبز، بل يمكن طهي الطعام بداخله، فهو صحي ومفيد".

مشروع صغير

خرج التنور بحرارة ووهج ناره المتقدة من دائرة ضيقة في المنازل القروية إلى أن أصبح على ندرته مصدراً سياحياً مهماً عرفه الشارع السوري قبل الحرب وحتى اليوم، في أماكن اشتهرت بالسياحة الشعبية الداخلية كاللاذقية وطرطوس وريف دمشق وحلب وعدد من المدن الوسطى التي يقبل عليها السياح.

النزاع المسلح وما أسفر عنه من خفض أعداد السياحة إلى حدود ضعيفة جعل هذا المشروع لا جدوى منه، لكن ما زال صامداً فهو من المشاريع متناهية الصغر التي يحاول أصحابها وغالبيتهن من النساء المتقنات لصناعة أرغفة لذيذة عدم هدم ما كسبوه من سمعة، فقد اشتهرت كثيرات من صانعات خبز التنور في رأس البسيط واللاذقية وجبلة وطرطوس بخبز الجدات وصنعهن "المناقيش" وهي الأرغفة المحشوة أو المطلية بمواد "الجبن والمحمرة والزعتر" أو تلك المصنوعة من اللحمة أو السبانخ، أو بالقشدة وغيرها.

 

وعلى الطريق العام بأطراف مدينة اللاذقية أنهت "أم محمد" صناعة "مناقيش" الزيت بالزعتر لعدد من المسافرين، من خلال مشروعها الصغير الذي يحتوي على التنور ومقاعد مع طاولة صغيرة، باشرت به منذ سنتين، لقد وجدت حاجة ملحة إلى العمل فما كان أمامها سوى التنور الذي خبرته جيداً "لا يستطيع أي أحد من الرجال أو أية سيدة صناعة الرغيف، ليست بهذه السهولة، إنه يحتاج إلى إضافة المحبة ليكون ذا مذاق طيب".

أرغفة فاخرة

في غضون ذلك يتربع هذا الفرن المصغر ويعود إلى الواجهة مجدداً، لكن هذه المرة ليس كرغيف سياحي بل كضرورة ملحة، إذ يكتظ السوريون أمام مخابز وأفران المدينة مع تقليص حصة الفرد من الحصول على أرغفة عدة، علاوة على اعتماد البطاقة الذكية التي لا تمنح العائلة سوى سبعة أرغفة قد لا تكفيها وجبتين طيلة يومهم، لذلك بات كثيرون يفكرون بإيجاد بدائل لصناعة رغيفهم باستخدام التنور أو على الصاج، في حين تلمح الحكومة بنقص في مادة الطحين لا سيما مع محاصيل القمح منخفضة الإنتاج، وسط تعويل على دعم الروس حلفاء دمشق بإمداد جديد.

لكن في المقابل يكلف رغيف التنور ما بين 1000 و1500 ليرة سورية ويصل إلى 2500 ليرة ما يعادل نصف دولار في بعض المناطق السياحية لـ(المنقوشة) أو (الفطيرة) ويختلف سعرها بحسب الحشوة التي تضاف إليها، فالغلاء بأسعار المنتجات أصاب كل شيء كمرض معد، لا سيما اللحوم التي يصل الكيلو منها إلى ما يفوق 15 دولاراً بينما يصل سعر الجبن إلى 25 ألف ليرة ما يعادل خمسة دولارات.

 

 في وقت تتحسر السيدات اللاتي يصنعن هذه الفطائر والخبز بالتنور على أيام ماضية كانت لا تكلف كل هذه الأثمان الباهظة، إذ يتحتم على عائلة متوسطة العدد تضم خمسة أفراد مثلاً إنفاق ما لا يقل عن 50 ألف ليرة، قرابة 10 دولارات كوجبة فطور واحدة، بالتالي تعد هذه الوجبة فطوراً فاخراً للعائلة التي تقلص من مائدتها خبز التنور أو الفطيرة بعد أن كان أساسياً ولا غنى عنه في حياة السوري كل صباح إن كان في العمل أو حتى وجبة طعام لتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات كفطور عاجل.

ومع تراجع التنور كوسيلة منزلية لصناعة الخبز بحكم التقدم والتطور إلا أنه يعود تدريجاً إلى البيوت الريفية لا سيما التي ما زالت تعيش ضائقة الحرب، وتتقطع على أصحابها سبل الوصول إلى الأفران والمخابز الآلية للحصول على مؤونتهم من تلك المادة، علاوة على اعتماد القاطنين في خيام النزوح على هذه الوسيلة لإطعام عائلاتهم.

المزيد من منوعات