Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل فقدت عاصمة الرشيد القدرة على النهوض مجددا؟

مهندسون معماريون يقيمون حال بغداد وسط لوم شعبي لحكوماتها

كانت شوارع بغداد زاخرة بالحكايات والرواد الذين صنعوا تاريخ مدينة (اندبندنت عربية)

ما من سبب يجعل الناس في بغداد يتفاءلون بالعيش في عاصمتهم التي أسبغت عليها عشرات الألقاب التي رافقت تاريخها ووجودها كعاصمة للعباسيين، حتى رسخ اسمان لها عاصمة الرشيد ودار السلام، لكنها اليوم لا تعرف للرشيد صورة ولا للسلام معنى، فأضحت مدينة موحشة، تقفل الناس أبوابها قبيل أن يخيل الظلام عليها وتنتظر عودة التيار الكهربائي من جديد، لا يسمع إلا صوت المولدات الكهربائية بالديزل الذي يخنق سكانها بمخلفات اتقاده.

واختفى عنها صوت ناظم الغزالي ومقامات محمد القبانجي ويوسف عمر، وغاب دفء صوت وحيدة خليل ومرح عفيفة اسكندر، وفي خمسينياتها وستينياتها يوم كانت المدينة مزاراً للمطربين العرب الكبار أمثال السيدة أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ يتغنون في إرثها.

كانت شوارعها زاخرة بالحكايات والرواد الذين صنعوا تاريخ مدينة الرشيد وعاشوا مقامات الموصلي زرياب مؤسس صناعة العود وفن "الإتيكيت".

 

 

وكانت بغداد ملهمة للشعراء والكتاب وللروائية الإنجليزية آغاثا كريستي التي كتبت من وحي بغداد عدداً من رواياتها حين عاشت فيها سنوات مع زوجها الآثاري الشهير مالون، ويوم كانت مس بيل تعيش قصص الحب في شوارع "أبو ناجي" وهو أحد وجهاء بغداد وأعيانها.

بغداد الغارقة بالأزمات

بغداد بلا حكايات عشق وأسرار مدينة أشباح، لا حياة تعمر ذاكرة أجيالها ولا زوار يؤموها ولا لذة عيش في مدينة السلام، بعدما اكتوت بحروب وخراب وقصف لمعالمها وخراب وجهها كثيراً بساسة لم يحسنوا حكمها وإدارتها، تقاتلوا فيها وعليها ومن أجلها وملؤوها شعارات ولافتات سوداء تحمل صور الضحايا والشهداء، تبرعوا بدمائهم من أجلها من دون جدوى.

 

 

في كل العهود والأزمان منذ سقوطها على يد المغول عام 1258 الذين فظعوا في قتل أهلها وحتى تألمت كثيراً وتكسرت أضلعها في الزمن المعاصر بعد قصفها بالطائرات والهاويات والقذائف بشتى العيارات وتفجير اهلها وتشريدهم، بل حتى بعقوق أبنائها حين قال أحد وجهائها عبثاً وهو يراها تقصف وتتطاير أشلاؤها.

ضياع وجه المدينة

مررت كثيراً بشارع بغداد الأثير (الرشيد) لأتلمس صورة شارع ملأ عبقه طفولتي وشبابي وهالني حجم ونوع الخراب فيه والقيح الذي اختزنته أحياؤه، حين أهمل عمداً.

وترك وحيداً من دون أهله وضاعت معالمه بين أروقة الطريق المتعرج الذي يستمر أربعة كيلومترات، ويختزن تاريخ البلد منذ أن شيده الوالي داوود باشا مطلع عشرينيات القرن الماضي، ليحمل كل كيلومتر من الأربعة جامعاً شهيراً في بغداد، تقطعه أربعة جسور تربط الكرخ بالرصافة.

لكن المرور فيه ليس كما اعتدنا "أيام عزه" كما يعلق سكان بغداد متهكمين على أفول حياتهم جراء الـ20 عاماً التي مضت وهي أتعس ما في ذاكرتهم ليتحول الشارع إلى مكب نفايات وتستحيل معالمه إلى خراب.

بات المارة يتجنبون السير فيه، استوطنته العصابات وباعة البضائع الممنوعة واستحل الخراب فيه، كأنه عالم لا علاقة له ببغداد العاصمة ولا أمانة بغداد التي تبعد منه ربع كيلومتر فقط، ولم تمد يدها إلا نادراً في الشارع الذي يحمل إرث بغداد وتاريخها الحديث.

يأس معماري

عيل صبر المعماريين العراقيين وهم يرون مدينتهم بهذه الحال ويئس مهندسون ومفكرون وكتاب لكثرة مناداتهم عبثاً للجهات المسؤولة عن العاصمة، بعد أن حاولوا كثيراً أن يعيدوا إلى الشارع هيبته مطالبين باستعادة جزء من الحياة فيه وقدموا للأمانة عشرات الدراسات والمقترحات لإعادة صيانة الشارع وترميمه من دون جدوى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقول المعماري المهندس خالد السلطاني في حديث إلى "اندبندنت عربية"، "مشكلات بغداد تتفاقم يوماً بعد آخر وتزداد سوءاً، وأخشى أن يأتي يوم على الشعب حتى على المهنيين منهم حل أزماتها، لأن تلك المشكلات التي تعانيها تراكمية وأسبابها عدة في مقدمتها الهجرة من الريف إلى المدينة، في وقت أن الريف العراقي أبعد من أي نجاحات تنموية، فهو يخلو حالياً من المدارس والمستشفيات والخدمات، بل حتى الزراعة".

 

 

ويضيف "هجرت الناس الريف وذهبت إلى المدن لتسكن في العشوائيات طلباً للرزق والعيش ومكابداته في العاصمة، وهذا أثّر كثيراً في المدينة وخططها، ناهيك عن المشكلات العمرانية الموجود التي لا يتطرق إليها المسؤولون الذين لا يمتلكون تصوراً واضحاً عما يقومون به، إضافة إلى فقدان الخبرة الأجنبية في صميم المشهد المهني العراقي كما كان في السابق حين كنا مطلعين على ما يدور في الإقليم المحيط بالعراق والعالم، والآن أشك بوجود شركات عمرانية ومكاتب تصميم بإمكانها أن تثري الخبرة العراقية".

ويوضح السلطاني "أما معمارينا العراقيين، فيقومون بما يطلب منهم لكن إنجارهم مقتصر على المساكن الخاصة لأن الدولة غير مهتمة باستحداث مشاريع لهم، ليتواصلوا مع العالم ويزيدوا من قيمة العمل ويحاولوا إيجاد بدائل للمشكلات المطروحة، حتى بتنا في أزمات من الصعب معالجتها بسرعة، وأكاد أخلص إلى وصف الوضع في العراق والعاصمة بأنه مزرٍ ومؤلم، ولا أجد أن هناك آفاقاً لحل مشكلة العمران في القريب العاجل".

فقدان الهوية

انعكست حال اليأس السائدة مما يجري في العاصمة بغداد وتريفها القسري على مجمل الحياة فيها وأضحت مدينة بلا هوية في السكن جراء انهيار الريف المحيط بها وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على تحويل الوافدين إليها وتأهيلهم في القطاع الصناعي وبناء سكن لائق ورواتب تمكنهم من تلبية حاجات العيش المتزايدة والتطور الزمني وتباين المداخيل للسكان الذين يقطنونها بعد هرب السكان الأصليين وهجرتهم خارج البلاد وترك بيوتهم وإرثهم الشخصي قسراً جراء ضغط العاملين السياسي والأمني وخشية من الوافدين الجدد الذين يحملون توجهات وأيديولوجيات لا تتوافق وطبيعة السكان الذين أدركوا أن عاصمتهم طاردة متراجعة.

 

 

في المقابل يشاطر المهندس المعماري تغلب الوائلي رأي زميله السلطاني بقوله "بغداد للأسف أصبحت مدينة شبه فاشلة، تقترب شيئاً فشيئاً من أن تكون غير قابلة للعيش والعمل وتحتاج إلى عمليات كبرى تشمل مختلف القطاعات لإصلاح ما حل بها خلال العقود السابقة، فالنتائج الكارثية التي تسببت في تخريب مدينة بغداد كثيرة وكبيرة، لا سيما المشكلات التي تواجهها المدينة ومواطنيها والتي تتعلق بالعيش والعمل والتنقل بسبب عدم وجود خطط لمواجهة مشكلاتها المتفاقمة في القطاعات كافة، وما يتم اليوم من عمليات إكساء أو تنظيف للشوارع أو زراعة الحدائق وإنارة المباني، عمليات لن تحقق إصلاحاً لمشكلات النقل والبنى التحتية والفوضى العمرانية والبيئة".

أزمة النمو السكاني

ويجمع المهندسون الذين يتابعون آفاق تطور بغداد على القياس لتطور النمو السكاني فيها بحيث وصل عدد سكانها إلى ما يقرب ربع سكان العراق البالغ عددهم 42 مليون نسمة ممن يعيشون في العاصمة ويشكلون عبئاً إضافياً على الخدمات فيها، ينادون بضرورة أن يتناسب ذلك النمو السكاني مع الخطط والدراسات المعمقة للقطاعات كافة المترابطة التأثر والتأثير فيها، ويزيد الطين بلة أن المدينة فقدت تصميمها الأساسي منذ عام 2000.

 

 

ويعلق المعماري تغلب الوائلي وهو خريج هندسة في جامعة بغداد أن "السبب الرئيس يكمن في فشل السلطات في استيعاب عملية التحضر السريع الناتجة من الزيادة السكانية المطردة الذي يفترض أن تتم مواجهتها من خلال إعداد مخطط أساسي لاستيعاب وتنظيم المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والطبيعية الناتجة من الزيادة السكانية وتوجيهها بما يضمن كفاءتها بطريقة متوازنة".

ويورد حلولاً لإنقاذ بغداد، موضحاً "من خلال الدراسات المتعددة والندوات وورش العمل لمناقشة إمكانات معالجة أوضاع المدينة فقد تم تقديم عدد من المقترحات، وكان آخرها تقرير مقترحات التحفيز الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في مدينة بغداد ومركزها التاريخي بـ 600 صفحة، علاوة على كتابي عن بغداد التاريخية الذي وضعت فيه خططاً تفصيلية لكيفية إعادة إحياء مركز المدينة التاريخي وخلاصة العمل الواجب اتباعه يتمثل في وضع استراتيجيات تعتمد المخطط الإنمائي الشامل لغاية 2030 وتشريعه وتحديثه حتى عام 2050 مع إعادة الهيكلية الإدارية والفنية لأمانة بغداد لتتناسب ومتطلبات التوسع السكاني والجغرافي للمدينة، ومتطلبات القرن الـ21، إضافة إلى العمل على إعداد الخطط التفصيلية للمواضيع العاجلة والمتعلقة بالخدمات والمرور وتوفير وسائل النقل العام وتحسين البيئة والبنى التحتية وخطط تنفيذها والتركيز على التنمية الاجتماعية والاقتصادية المقترنة بالتنمية العمرانية".

الأزمة التاريخية لبغداد

في سياق متصل تذهب المهندسة المعمارية والنائبة البرلمانية السابقة ميسون الدملوجي، بعيداً إلى الأساسات التي قامت عليها بغداد الحالية وتأصيل مشكلتها، وتوضح في حديث إلى "اندبندنت عربية"، "بنيت بغداد الحديثة على أنقاض مدينة متهالكة عانت الإهمال على مدى قرون عدة منذ سقوط الدولة العباسية عام 1258، وبدلاً من أن تبنى مدينة بموازاة المدينة القديمة على غرار كثير من مدن العالم التاريخية، اعتبرت السلطات مدينة بغداد القديمة امتداداً لتاريخ مظلم وشرعت في اقتلاعه واستبداله بعمارة تمثل مفاهيم حديثة تعكس التقدم الذي تخطط له، لكن مع ذلك تمكنت من بناء أحياء حديثة تعكس رفاهية أبناء المدينة وانصهارهم في قيم جامعة، بدلاً من الانتماءات الضيقة ومنها على سبيل المثال أحياء المنصور والحارثية والأطباء والمهندسين والقضاة والعدل والعمال وغيرها ضمن مخطط مدروس لتوسيع المدينة وتوفير الخدمات ووسائط النقل وكل أسباب العيش الكريم".

وتضيف "كما استوعبت الدولة المهاجرين من ذوي الدخل المحدود في بناء مدينة الثورة وإنهاء ظاهرة الصرائف  العشوائية التي كانت تحيط ببغداد".

بواعث فوضى المدينة

لكن الدملوجي ترى أن للفوضى التي تعيشها بغداد أسباباً ناجمة عن المهاجرين للعاصمة وتقول "بدأت الفوضى تتغلغل بشكل تدريجي إلى مدينة بغداد في ثمانينيات القرن الماضي بسبب ازدياد أعداد المهاجرين من ناحية، وبسبب الحرب العراقية - الإيرانية آنذاك وتراجع موارد الدولة بشكل تدريجي، مما تسبب بأزمة سكن من ناحية، وتغيرات اجتماعية واسعة من ناحية أخرى، بما أرغم الدولة على إصدار قوانين تعالج الحال بشكل آني من دون إيجاد حلول حقيقية للمشكلات ومنها على سبيل المثال منع من يلد في بغداد مِن التملك فيها ويهدد مثل هذا القانون وحدة المجتمع على المدى البعيد ويقسم المجتمع العراقي ويزيد الشعور بالغبن والمظلومية".

 

 

لكن الفوضى وجدت مرتعاً خصباً لها بعد الاحتلال والظروف السياسية التي تكرست طائفياً بعد عام 2003، فتقول الدملوجي، "نعم انفجرت الفوضى بشكل مريع بعد احتلال العراق 2003 وأصبحنا نرى التجاوزات والعشوائيات وإزالة المساحات الخضراء بشكل سريع، واستبدالها بمبان سكنية لا تحمل أقل معايير البناء اللائق أو الذوق السليم، وهو باعتقادي رد فعل على ما أصاب المدينة من اكتظاظ واختناق في العقود التي سبقت الاحتلال".

وتوضح  الدملوجي "نحتاج اليوم إلى قانون العاصمة بغداد الذي نص عليه الدستور ولم يشرع لأسباب سياسية بحتة، كذلك إلى تخطيط حضري جديد للمدينة يحفظ ما تبقى من موروثها العمراني في مراحل مختلفة تمتد من الحضارة العباسية وما تلاها مروراً بإنجازات عمرانية مهمة في القرن الـ20، مع توسع مدروس لاستيعاب الزيادة السكانية وتوفير الخدمات والمواصلات العصرية والاحتفاظ بالمساحات الخضراء داخل بغداد وحولها لما تشكله من مصدر مهم للأمن الغذائي من ناحية وحكاية للبيئة ضد التصحر والتغير المناخي من ناحية أخرى، مع الإشارة إلى أن أمانة بغداد تلعب الدور الأهم في هذا المجال وينبغي أن تعطى صلاحيات كاملة وأن تؤهل كوادرها للقيام بمهماتها وإنهاء حالات الفساد والترهل في مفاصلها".

لكن هناك وجهاً آخر للفوضى التي تعانيها بغداد كعاصمة، إذ تعمد أمانة العاصمة وضع بوابات في مداخل المدينة، تلك الظاهرة الموروثة من قرون سحيقة، لا تمت للمدنية المعاصرة ولا لتخطيط المدن الحديثة، كانت مسوغات بنائها لحماية المدن من الهجمات الخارجية وانتفت الحاجة إليها عالمياً منذ القرن الـ20، هذه البوابات بحكم نمو المدن ستكون وسط المدينة وسيصار إلى هدمها عاجلاً أو آجلاً، لكن أمانة بغداد مصرة على بناء تلك البوابات عوضاً عن تحسين مداخل المدينة الشاسعة التي تعد واحدة من كبريات المدن في العالم يزيد عمقها على 50 كيلومتراً، وهي مدورة كما وضعها مخططها الأول أبو جعفر المنصور، إضافة إلى معاناتها من المواصلات بحيث تختنق العاصمة بملايين السيارات القديمة التي تنفث عوادمها في سماء بغداد من دون رادع قانوني.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات