في مناسبة صدور بعض القصائد غير المنشورة للشاعر اللبناني الراحل خليل حاوي (1925-1982) عن دار نلسن (بيروت)، التي عنونها الناشر بـ"الديوان الأخير"، يجدر الاحتفاء أولاً بهذه القصائد التي كانت لا تزال طي المجهول لشاعر من رعيل شعراء الحداثة، إلى جانب أدونيس وبدر شاكر السياب ويوسف الخال وآخرين.
ومن ثم يتعين على القارئ المتذوق والمتابع لأعمال الشاعر أن يتفحص هذه القصائد غير المنشورة والجديدة للشاعر حاوي، ليرى مقدار ما فيها من إضافة إلى ما سبق من إرث له معلوم، في أعماله الشعرية السابقة، عنيتُ "نهر الرماد"، و"الناي والريح"، و"بيادر الجوع"، وقد شكلت "بيادر الجوع" ديوانه الأساسي الذي سبق له أن نشره سنة 1961 للمرة الأولى، وأعاد نشره معدلاً بعد أحد عشر عاماً، أي سنة 1972، أما المجموعة الشعرية الرابعة له فكانت بعنوان "الرعد الجريح" (1979)، والخامسة والأخيرة كانت بعنوان "من جحيم الكوميديا" (1979).
يقول الشاعر في إحدى رسائله إلى من كانت خطيبة له، الكاتبة العراقية ديزي الأمير، منبهاً قراء مجموعته الشعرية "نهر الرماد" إلى وجوب الالتفات إلى أمرين، "اعتماد الأسطورة أساساَ لتنظيم التعبير"، و"نزعة الحنين إلى البعث، ورموز الخصب وتدفق الحياة"، وهذا يعني أن الشاعر حاوي لما كان قد انطلق في كتابة معظم قصائده من رؤية ورؤيا معينتين (وهو أمر حاصل) عملت دراسات أكاديمية على كشفه، ظل ضنيناً على هذين المكونين الأساسيين في بناء مضمون قصائده، لا بل أناشيده التي تشكلت منها على مدار ديوانه الشعري الأول ومجموعتيه الشعريتين الأخيرتين، وإن بدرجة أقل، وما يؤكد عنايته بإخراج قصائده وتكوينها على خير ما يرتجي من قواعد جمالية ترتقي بها إلى مصاف الشعر الصافي، وفاقاً لما عرفه في الشعر الأجنبي (ت اس ايليوت، وعزرا باوند، وغيرهما)، إصراره على تعديل قصائده وتصويب نظمها، حذفاً وإبدالاً وإضافة واختصاراً، على ما شهدنا في نسخة ديوان خليل حاوي لعام 1972.
17 قصيدة
ولئن كان هذا التدبير، أي التعديل، غير معمول به في المجموعتين الشعريتين الأخيرتين، "الرعد الجريح" و "من جحيم الكوميديا"، لاستغراق الشاعر في أزمة نفسانية ووجودية عميقة، فإنّ الأمر الجوهري الثابت في كتابة حاوي الشعرية إنما كان صدوره عن رؤيا شعرية متماسكة، وإن تكن أقل جدة ومدعاةً للجدال.وبناء على كل ما تقدم يتساءل القارئ ناقداً كان أم متذوقاً ومتابعاً أعمال الشاعر، عما إذا كانت القصائد غير المنشورة توازي القصائد في سائر مجموعاته السابقة قيمة، أم تفوقها أو تقل عنها.
بداية، يتشكل "الديوان الأخير" من سبع عشرة قصيدة تتراوح بين مقطعات مؤلفة من خمسة أبيات (لبنان) ومن ستة أبيات أو أسطر شعرية (إفصاح) ومن ثلاثة أبيات (عريق)، وبين قصائد طويلة نسبياً ولا تتجاوز28 بيتاً شعرياً، مثل قصيدة "يا صبية" وأكثرية القصائد الباقية تتألف من عشرة أبيات أو أكثر قليلاً.وبناء على هذا يمكن ملاحظة أمور عديدة، بالمقارنة مع أعمال الشاعر السابقة، أولاً، ؟إنها تفتقر إلى قصائد طويلة جداً ومقسمة أجزاء ومقاطع، وكانت بعض الدراسات أطلقت عليها تسمية "النشيد،. وكان القراء لطالما عاينوا أناشيد في ديوان الشاعر، لا سيما بدءاً من مجموعة "الناي والريح"، عبر قصائد من مثل "عند البصارة"، و"الناي والريح" في صومعة كيمبردج ، و"لعازر" عام 1962 ، التي تعد أطول نشيد على الإطلاق في ديوان الشاعر بنسخته المعدلة الأخيرة، وقد انطوت على 17 مقطعاً شعرياً. وهذا الأمر ينطبق على المجموعتين الشعريتين الأخيرتين، أي "الرعد الجريح"، وفي "جحيم الكوميديا".
لا جديد
إذاً، لا تقدم القصائد السبع عشرة غير المنشورة سابقاً في "الديوان الأخير" أمراً جديداً على الصعيد الشكلي، ولا أحسب الشاعر في ما كتبه منظوماً على أوزان معروفة (الرمل) وقواف ظاهرة، ولازمات أحياناً على ما ألفناه لدى الشاعر في أناشيده، ساعياً الى إدهاش القراء، إذ يقول على سبيل المثال، "يا صبيه! / يا صبيه! / كيف ألهمت رمادي وصقيعي/ كيف أطلعت صبياً/ في عروقي وضلوعي..". وفيها يتغزل بشابة "صبية" من دون تسميتها، ويقال إنها تلميذته ورفيقة أيامه الأخيرة في الجامعة الأميركية، ، كانت أدخلت الفرح إلى كيانه في إحدى العشيات، فجعلت جسده يتحرر من "غلاله"، ومن "صدى الأمس وغصات الصدى" ، ويتخفف من همومه الكثيرة.
واللافت في القصيدة شأن أخواتها في المجموعة، غياب الرموز والموتيفات التي لطالما حفل بها شعره، سواء تلك التي تحيل إلى التراث الرمزي الشرقي، والعربي، أو تلك التي تحيل إلى التراث الرمزي المسيحي والتوراتي الذي أثر عنه توظيفه بعناية من أجل تجسيد رؤيته ورؤياه، والتبصر في حال أمته وحضارته الإنسانية وإنسانه، على حد سواء، ويكفينا مثالاً نشيده التحفة "لعازر عام 1962"، وهي قصائد أقرب ما تكون إلى تدوين يوميات شاعر، بلغة الأسطورة وبصور شعرية تكاد تكون مستعارة من منبت سابق يقول، "زحفتْ يداكِ/ من السفوح إلى الأعالي/ وعرفتُ / ما طعمُ الصواعق في جبالي" .
وفي القصيدة الثالثة، بعنوان "عادت إليّ العاصية" (مجزوء الرجز) يدون الشاعر عودة العاشقة إليه، أو رجوع المرأة التي سبق لها أن عصته وغادرته، وفي عودتها خضوع وتذلل وانكسار، إلا أن الشاعر أبى أن يغفر لها عصيانها، ومن القصيدة أسطر شعرية آتية، "عادتْ إليّ العاصيهْ/ وتكوّمتْ في الزّاويه/ ثمّ ارتمت/ تعوي على نعلي وتعوِلُ/ والدموعْ/ تنهلّ من رعبٍ/ له وقعُ الحوافرِ / في الضّلوعْ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد لا يتوانى الشاعر عن الإشارة الصريحة إلى أزمته الشعرية التي تطاولت، فحالت دون بلوغه مرحلة الإبداع، على ما تمثل في قصيدة "لستُ أدري". ويقول فيها، "لستُ أدري/ كيف تصفو أسطري/ صفوةَ الوهجِ الطري/ أتراها انسكبتْ/ من دفقة الينبوع/ لفظاً ومعاني/ أم تُرى صُفّيتُ/ لفظاً ومعاني؟" .
ثم إن الشاعر خليل حاوي، وعلى مألوفه في استبطانه لذاته، وأحواله النفسية، بل طباعه غير المستقرة على حال، والمضطربة دوماً، ينظم ما يراه في مرآة نفسه والقدر، ويقول، "ما صحوةُ الطبعِ المعافى/ في ظلمة حرّى، / ونومٍ يتجافى، / يا من تعاني/ في سرير من إبرْ/ ما لا يعاني المجرمُ المتخومُ / من لحمِ البشرْ، / يزهو بطبعٍ يدّعي/ ما شئتَهُ يغدو حلالْ/ للحصدِ حصاد الغلالْ".
في المحصلة الأخيرة من القراءة، وبعض المقارنة مع القصائد والأناشيد التي أنجزها الشاعر خليل حاوي خلال عقدين كاملين (1953-1973)، يمكن القول إن القصائد السبع عشرة الواردة في كتاب "الديوان الأخير"، والمزينة برسوم الفنان التشكيلي شوقي شمعون، لا تحمل جديداً مفاجئاً، ولئن كانت تلفت إلى انهمام الشاعر بتدوين بعض من محطات حياته أواخر السبعينيات، على ما ذيل به بعضها، فإن الغالبية العظمى منها تنهل من معين سابقاتها، وتتشح بوشاحها، وتنسج بخيطانها، وإن بتلاوين أخف. بالتالي، كان من الأنسب، برأينا، أن تضم إلى ديوان الشاعر الأكبر، يوم يقرر الناشرون - مشكورين- لزوم تجديد نشره، وإطلاع القراء المهتمين بنتاج الشاعر، على صورته النهائية المتعددة الأطياف.