Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المصريون في الخليج... وطن مؤقت لـ"حياة مؤجلة"

معرض "خرج والمفروض يَعُد" في القاهرة يتناول تجربة مشتركة جرى تنميطها عبر سنوات في قوالب ثابتة

مفردات متنوعة ارتبطت بالعاملين المصريين في الخليج من بينها الخطابات والصور وشرائط الكاسيت (الخدمة الإعلامية)

في تجربة إبداعية تمزج بين القصص الشخصية والجانب البحثي والفن المعاصر يقدم معرض "خرج والمفروض يعد" تصوراً لانعكاسات واحدة من الظواهر المهمة التي تشارك فيها ملايين المصريين عبر العقود الأخيرة وهي العمل في الخليج.

فمنذ عقد السبعينيات، بدأ توجه المصريين إلى دول الخليج للعمل، واصطحب كثير منهم أسرهم، حيث أمضى الأطفال فترات طفولتهم الأولى في هذه الهجرة الموقتة، لتبلغ الظاهرة ذروتها خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وعلى رغم الأعداد الكبيرة من المصريين الذين خاضوا هذه التجربة ولا يزالون، فإنه لا توجد دراسات أو بحوث موثقة بشكل كاف تناقش تأثيراتها المختلفة على المجتمع المصري على رغم أنها تمس قطاعاً عريضاً من المصريين.

تجمع فكرة الهجرة الموقتة إلى الخليج سياقات مختلفة اجتماعية وسياسية واقتصادية تتكامل في ما بينها ولا يمكن تغليب أحدها على الآخر، فهناك سمة عامة تربط بين جميع العاملين المصريين بالخليج، وهي أن لديهم حياتين، واحدة موقتة في الخليج، وأخرى منتظرة في مصر، ولهم منزل موقت في الغربة يؤسس بشكل بسيط وغير متكلف، وبيت يجهز في مصر على مدار السنوات بأحدث الأثاث والأجهزة، ويستجلب له كل جديد من الخليج في انتظار العودة التي قد يطول انتظارها لعشرات السنوات تتبدل فيها الأحوال، ويصبح الجديد قديماً، ولا يبقى أي شيء على حاله.

المعرض الذي يستضيفه مركز الصورة المعاصرة بوسط القاهرة وتنظمه مبادرة "أنثربولوجي بالعربي"  تحت عنوان "خرج والمفروض (يَعُد)" يقدم مشاريع فنية لـ17 فناناً يجمعهم أنهم تأثروا بتجربة الحياة في الخليج بشكل مباشر، إما بالمعايشة عبر بقائهم هناك بصحبة أسرهم العاملة في الخليج خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات تحديداً، أو بتأثرهم بانعكاساتها المتمثلة في إقامة شخص من الأسرة في الخارج، بينما الآخرون يعيشون في مصر، ويستمر حتى نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الجاري.

مشروعات مختلفة

يأتي واحد من ضمن المشروعات الفنية المقدمة في المعرض للفنانة لينة الشامي تحت عنوان "بيوت مؤجلة وأشياء متكرتنة" ليعكس التناقض بين منازل المصريين في الخليج وبيوتهم في مصر، فالأولى يميزها الأثاث الخفيف والكراتين المكدسة التي ستنقل إلى البيت الآخر في مصر المترع بالأثاث الفاخر والصالونات المذهبة، والذي يضاف إليه كل عام كراتين جديدة من الخليج تمهيداً لانتهاء الإقامة "الموقتة" والعودة للاستقرار في مصر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن هذا الأثاث الفاخر دائماً مغطى بالأقمشة ليحافظ على حالته الأولى حتى تنتهي فترة الاغتراب الموقت لأهل البيت، والتي قد تمتد في بعض الأحيان إلى عشرات السنوات تضاف فيها عشرات الكراتين القادمة من الخليج في انتظار العيش في البيت المنتظر.

مشروع آخر للفنانة نورهان عبدالسلام التي ولدت في سلطنة عمان يركز على صداقات الطفولة التي يكونها أبناء المصريين في الخليج، وكيف أن مثل هذه العلاقات الوطيدة التي بدأت مع سنواتهم الأولى هناك تصبح هي الأخرى موقتة بحكم عدم الاستقرار الدائم في البلد، بالتالي تفقد الصداقات ومعها الذكريات ويتحتم على الأطفال البدء من جديد بتكوين صداقات جديدة عند العودة ومحاولة الاندماج في الوطن الأم.

ما يميز المعرض أنه يدفع الزوار للتفاعل والمشاركة من خلال أنشطة مختلفة من بينها تسجيل مشاعرهم في دفتر وضع في مدخل المعرض عن تجاربهم في الخليج إذا كانوا ممن خاضوها، ووجود مجموعة من الخطابات الحقيقية وشرائط الكاسيت المسجلة التي كانت شائعة في هذا الوقت للاطلاع على تجارب حقيقية ملموسة قد تتقاطع مع تجاربهم، وربما يعثرون على خطاب أو تسجيل من البلدة نفسها والعام نفسه الذي وجدوا فيه في الخليج، ولكنه لشخص آخر له تجربة مشابهة.

أنت هنا بشكل موقت

فرح حلابة مؤسسة مبادرة "أنثروبولوجي بالعربي" المنظمة للمعرض تقول لـ"اندبندنت عربية"، إن المعرض مشروع تشاركي وإنتاج ذاتي بدأ كورشة في فبراير (شباط) الماضي عن هجرة المصريين للخليج، وكان وقتها تحت الدراسة وليست هناك مواد كثيرة ملموسة نستطيع التفاعل معها، فاعتمدنا على المسلسلات والأفلام، وكنا نتناقش ونطرح أسئلة ونقدم تصورات عن موضوعات مثل دور الأب، والطموح، والذكريات، وننظر للمشروع على أنه شيء زمني وليس مكانياً، لذلك بدأنا المعرض بلافتة (أنت هنا بشكل موقت) لخلق الفكرة في ذهن المتلقي، فكل شيء في الغربة يؤكد أن هذا الوضع موقت، لكن هذا "الموقت" يمكن أن يستمر عشرات السنوات.

 

وتضيف "بشكل شخصي عشت 18 سنة في الخليج ولي تجربة مباشرة مع الأمر، والسائد هو أن الهدف العام للعاملين في الخليج تأمين المستقبل الذي يبدو بعيداً، لكن في الوقت ذاته لا ينتظرنا الماضي الذي تركناه في بلادنا، والنتيجة حياة موقتة من أجل حياة مؤجلة، والحياة المؤجلة ليس بالضرورة أن تأتي دائماً، وظهر هذا بالفعل في واحد من المشروعات المعروضة، إذ توفي الأب في الخليج، بالتالي اختلفت المعادلة بالكامل".

وعن الفعاليات المصاحبة للمعرض تشير إلى أن "المشروع يضم المعرض التشاركي الذي تم تقديمه بتصور وترتيب معين يحكي قصة مؤثرة للمشاهدين برؤية وتصور الفنانة فريدة يوسف، إضافة إلى ذلك أصدرنا مطبوعة بها مقالات وحوارات مع الفنانين يمكن البناء عليها في مشروعات مستقبلية، وسيكون هناك بالتواكب مع المعرض محادثات عن موضوعات متعلقة مثل: ماذا فعلت هجرة المصريين إلى الخليج في دور الأب والعائلة؟ إضافة إلى قضاء يوم مع الجمهور للتعبير عن المشاعر والتساؤلات التي يطرحها المعرض، كما أن هناك خريطة تفاعلية، وركناً للأرشيف يضم خطابات مرسلة وشرائط يمكن أن يسمعها الزوار لمعايشة التجربة".

صور نمطية

دائماً ما كان العقل الجمعي للمصريين وبعد مرور عقود عدة على بدء ظاهرة عمل المصريين في الخليج يربطها بصور نمطية ربما كانت مستوحاة من التصور المقدم في الأعمال الدرامية على مدار سنوات، وفي أحيان أخرى من تجربة شخصية لقريب أو صديق يعممها على جميع العاملين في الخليج وكأنهم جميعاً شخص واحد، لكن واحداً من المشروعات الفنية المشاركة في المعرض يقدم طرحاً مناقضاً لهذه الفرضية مفاده أن هناك آخرين سافروا إلى الخليج، ولكنهم يمثلون التناقض الصارخ للصورة النمطية الراسخة.

حسام جاد أحد المشاركين بالمعرض، وهو باحث في التاريخ الأنثروبولوجي، يقول عن مشروعه "هناك تنميط لفكرة السفر إلى الخليج من خلال الدراما، فالمسلسلات تظهر الأسرة مفككة وتقدم العائدين من الخليج في قالب واحد، وتفرض سردية ثابتة ونمطية تعيد تكرارها، ويعتمد مشروعي على عرض صور جواز سفر من حقب مختلفة لحال تخالف تماماً السردية السائدة، فالشائع في ذهن الناس هو عودة الشخص من الخليج متأثراً بالثقافة هناك ومرتدياً الجلباب ومطلقاً لحيته".

 

يحكي جاد قصة أحد أقاربه في السبعينيات، فقد ذهب بهذا المظهر بما يحمله من أفكار وقناعات، وعاد مرتدياً البدلة وحليق الذقن ويتبنى أفكاراً أخرى. بحسب قوله "يتناقض هذا كلياً مع الفكر السائد والصورة النمطية المزروعة في أذهان الناس، ويمكن تتبع ما حدث له من خلال صور جوازات السفر المعروضة في المعرض". ويطرح مشروعي سؤالاً: "لماذا حدث هذا، وما دافع التغير والتخلي عن الأفكار السابقة، هل لأسباب اقتصادية أم اجتماعية أم كليهما؟".

ويضيف "عائلتي مثل كثير من المصريين لها تجارب عدة مع الخليج ففي حقبة التسعينيات كان شائعاً جداً أن تتزوج فتيات العائلة ويذهبن مع أزواجهن إلى الخليج، ذلك المكان المبهم لنا كأطفال آنذاك، وكل ما يمثله هو أنه يأخذ منا كثيراً من الأهل والأحباء لفترات طويلة لا نفهم أسبابها تحديداً، ولا نعرف الهدف من وراء هذه الرحلات التي يكون التواصل بيننا فيها عن طريق الخطابات المكتوبة".

حقيبة السفر

عناصر أساسية يكون لها دور فاعل بشكل مستمر في حياة المقيمين بين مصر والخليج من أهمها حقائب السفر، فهي دائماً حاضرة بقوة وتملأ بأشياء مادية ملموسة تنقل من الخليج إلى مصر أو العكس، لكنها أيضاً مع كل رحلة تفيض بمشاعر وأحاسيس وتجارب تتجاوز فكرة الملابس والهدايا.

واحد من المشاريع المشاركة في المعرض جاء تحت عنوان (الشيالة)، وتعامل مع الحقيبة كوسيط لمفهوم الهجرة، حيث تفيض منها قطع من القماش كتب عليها كلمات تعكس واقع المغتربين مثل "السفر" و"الهجرة" و"غياب معتاد" و"الدائم الموقت".

تقول آية بنداري عن مشروعها "حاولت تقديم فكرة السفر للخليج من وجهة نظر طفل، فحقائب السفر حاضرة بقوة، وهي دائماً في مرمي النظر، ومستعدة لأن يتم الاستعانة بها في رحلات الذهاب والإياب بين مصر والخليج، وهي لا تحمل الأشياء الملموسة فقط بل وتشارك المشاعر والذكريات المصاحبة لكل رحلة، ومن هنا اخترت كلمات عامة تنطلق من الحقيبة المفتوحة، لكنها ستلمس كل من عايش التجربة، لأن لكل منها قصة سيعود بها بالذاكرة إلى موقف حدث معه بالفعل، أو ذكرى معينة في تجربته الخاصة".

وتضيف "تجربة الحياة في الخليج بالنسبة إلى الأطفال تكون مربكة نسبياً، فهم يجدون أنهم قد فاتتهم أشياء في مصر ومروا بتجارب تختلف عن أمثالهم الذين سيعودون للتعامل معهم لاحقاً، ولي تجربة في الخليج، حيث أمضيت هناك فترة طفولتي الأولى، ومن خلال مشروعي أردت أن أدمج بين الشخصي والعام، فعندما عدت إلى مصر كان المفروض أن أبداً في التعود على أشياء بديهية ومنطقية بالنسبة لمن هم في مثل سني، ولكنها جديدة بالنسبة لي، ففكرة تكيف الأطفال مع الحياة الجديدة لا تكون سهلة تماماً، وأحياناً لا تنتهي القصة بالعودة لمصر، وتبقى فكرة التواصل مع باقي أفراد العائلة الذين قد يستمر وجودهم في الخليج لفترات لاحقة، والذين سيكون لهم وجود في حياة الأسرة على رغم استمرارهم في بلد آخر".

المزيد من فنون