Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بوتين على خطى بطرس الأول

الإعلان عن ضم "أراض أوكرانية" مقدمة لاستراتيجية مغايرة لمواجهة الموقف الراهن

استعاد بوتين ما قاله في الذكرى الـ 350 لميلاد بطرس الأعظم حول إنه يستعيد أراضي روسيا التاريخية (أ ف ب)

عاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تأكيد ما سبق وأعلنه غير مرة طوال العقدين الأخيرين حول ضرورة استعادة روسيا مواقعها التي تستحق على خريطة السياسة العالمية. عاد بوتين ليؤكد ما سبق وقاله حول إنه يقتفي خطى بطرس الأعظم مؤسس روسيا الحديثة في استعادة ما وصفها بأراضي روسيا التاريخية الكبرى.

احتفل بوتين مع كبار رجالات الدولة والحكومة في مشهد استعاد من خلاله ما سبق وفعله مع شبه جزيرة القرم في عام 2014، بضم جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ومعهما مقاطعتا "زابوريجيا"، و"خيرسون"، ما لا بد أن يعود بالمنفعة المشتركة على كل من روسيا وهذه المناطق من دون اعتبار لأية ردود فعل سبق لروسيا أن عاشت وتعايشت مع مثيلاتها خلال السنوات الثماني الماضية.

استعاد بوتين ما قاله في الذكرى الـ 350 لميلاد بطرس الأعظم حول إنه يستعيد أراضي روسيا التاريخية التي أشار إلى أن أسلافه منذ كاترين العظمى حافظوا عليها وقاتلوا من أجلها إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، مؤكداً ألا مفر ولا رجعة عنها، وذلك ما ينص عليه الدستور الروسي بموجب ما أجري عليه من تعديلات تحمل معنى الإلزام. فلا أحد يملك اعتباراً من تاريخ موافقة الاستفتاء الشعبي الذي أجري في عام 2020، التنازل عن أي من أجزاء الدولة الروسية أو التباحث في شأنها، وهو ما ينطبق على كل ما جرى ضمه من أراض، سواء بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية، ومنها جزر كوريل، ومقاطعة "كالينينغراد" (كينسبيرغ الألمانية السابقة التي تقاسمتها روسيا مع بولندا)، وما عادت روسيا وأعلنت عن ضمه من الأراضي التي كانت تابعة لأوكرانيا، وهي شبه جزيرة القرم، وما جرى الإعلان عن ضمه أخيراً في منطقة دونباس والأراضي المجاورة لها في جنوب شرقي أوكرانيا.

وكان بوتين قد كشف صراحة عن ذلك في خطابه الأخير الذي عاد فيه إلى دعوته القيادة الأوكرانية إلى التفاوض، لكن شريطة ألا تتناول هذه المفاوضات مستقبل أي جزء من الأراضي التي "عادت تبعيتها إلى روسيا وصارت جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية".

وعلى رغم أن الدستور الروسي لم ينص على أية تعديلات بهذا الشأن بعد، فإن أحداً لا يمكن أن يراوده الشك في أن المجلسين التشريعين الأعلى في روسيا (الدوما ومجلس الاتحاد) سيسارعان إلى اتخاذ ما يلزم لتقنين الوضعية الجديدة لهذه المناطق، وذلك تأكيداً أن روسيا زادت من مساحة أراضيها، وهي الأكبر بين دول العالم من حيث المساحة الجغرافية والقدرات الاقتصادية بما تملكه من ثروات طبيعية تزيد على 30 في المئة من مصادر الطاقة والمعادن والمياه العذبة، فضلاً عن إنتاجها الزراعي الذي تتصدر به قائمة مصدري كثير من مفرداتها في العالم.

 

أرباح روسيا

وتقول الأرقام إن روسيا زادت من مساحتها اعتباراً من تاريخ التوقيع على وثائق انضمام هذه المناطق الأربع التي كانت حتى الأمس القريب تابعة لأوكرانيا، بمساحات تقدر بـ 99 في المئة من أراضي لوغانسك التاريخية، و58 في المئة من أراضي مقاطعة دونيتسك، و72 في المئة من أراضي مقاطعة زابوريجيا، وكذلك 91 في المئة من أراضي خيرسون التاريخية الملاصقة لشبه جزيرة القرم، وهي الأراضي التي تخلق لروسيا وضعاً جيوسياسياً متميزاً تستطيع من خلاله فرض السيطرة الكاملة على بحر آزوف الذي تحول إلى ما هو أشبه بالبحيرة الروسية الخاصة، فضلاً عما هو أقرب إلى عزل أوكرانيا عن حوض البحر الأسود الذي لم يعد لها منفذ إليه سوى عبر ما بقي من أراضي مقاطعة أوديسا وما جاورها من أراضي نيكولايف.

أما عن النتائج الاقتصادية، فإنها وفي الوقت الذي تزيد فيه روسيا من أرصدتها الصناعية والزراعية، بل وأيضاً العسكرية والنووية والجيوسياسية، تخصم كل ذلك مما كان في حوزة أوكرانيا حتى الأمس القريب الذي تقدره أوساط روسية بمقدار ربع الدخل القومي الأوكراني. وكانت صحيفة "كومسولسكايا برافدا" أوجزت ذلك في تقرير لها قالت فيه إن "روسيا ستنمو في المستقبل القريب جداً بأرض شاسعة، مع أربع مناطق جديدة في وقت واحد".

وقد استهلت الصحيفة تقريرها بإطلالة تاريخية، أشارت فيها إلى أن مقاطعتي "خيرسون" و"زابوريجيا" تأسستا في عهد كاترين العظمى، بينما ظهرت منطقة دونباس في الستينيات من القرن الـ 19 بموجب فكرة قدمها الصناعي البريطاني جون هيوز. ومضت لتقول إن كل هذه الأراضي تطورت حصرياً في إطار الإمبراطورية الروسية، بعد أن كانت مجرد مساحات قفرة من البراري تقع جغرافياً بين روسيا والقرم، لكن كاترين ضمت القرم في النهاية مع هذه الأراضي، بعد حرب ضروس مع الإمبراطورية العثمانية، وهو أيضاً ما أشارت إليه "اندبندنت عربية" في تقرير سابق لها من موسكو.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأعادت الصحيفة الروسية واسعة الانتشار، حقيقة أن بحر آزوف "أصبح أرضاً روسية داخلية"، فضلاً عن ميناءي ماريوبول وبيرديانسك بكل ما يعنيان من أهمية اقتصادية وعسكرية واستراتيجية، في موقع متميز يسمح لهما بضمان حركة الملاحة البحرية صيفاً وشتاءً، وبما يحقق كثيراً من الفوائد في مجالات التصدير والاستيراد بكلفة اقتصادية مريحة. وفي هذا الصدد يتحدث مراقبون اقتصاديون عما ستجنيه روسيا من ضم هذه الأراضي من أجل تطوير السياحة وتوفير وسائل النقل مع شبه جزيرة القرم المجاورة التي ستستعيد فرصة توفير حاجاتها من المياه العذبة عبر قناة القرم المتفرعة من نهر دنيبر بعد ثماني سنوات من متاعب انقطاع هذه المياه التي كانت أوكرانيا تمنع وصولها إلى القرم، بكل ما كانت تعنيه من أهمية بالنسبة لتطوير الزراعة وتوفير مياه الشرب.

ومن منظور مشابه يتحدث المراقبون عما تعنيه أراضي مقاطعتي خيرسون وزابوريجيا التي يسمونها الأرض الذهبية، بما تشتهر به من زراعات وإنتاج للحبوب وعباد الشمس، وفواكه وخضراوات كانت روسيا تستوردها حتى الأمس القريب من تركيا ومصر وإسرائيل. وفي ما يتعلق بمنطقة الدونباس الصناعية تقول المصادر الروسية إنها كانت توفر قرابة ربع إجمالي الدخل في أوكرانيا، بما تملكه من مناجم الفحم ومواقع استخراج المعادن ومصانع بناء الآلات والمدارس الهندسية والتقنية.

تقسيم أوكرانيا

وهكذا يكون بوتين بما وقعه من وثائق حول ضم هذه المساحات الشاسعة التي تبلغ في مجموعها ما يقرب من 20 في المئة من أراضي أوكرانيا السابقة، أكد ما سبق وحذر منه منذ ما يقرب من عقدين من الزمان في شأن "احتمالات تقسيم أوكرانيا"، و"ضياع وضعيتها كدولة مستقلة"، وذلك فضلاً عن تأكيد "مسؤولية" الرئيس الأوكراني عن هذا المصير البائس الذي طالما جرى تحذيره من مغبته، وكان قريباً من "النجاة" والإفلات بما بقي من أراضي أوكرانيا، في حال الموافقة على تنفيذ "اتفاقات مينسك" التي وقعها سلفه بيتر بوروشينكو تحت رعاية رموز "مجموعة نورماندي" المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند والرئيس بوتين في فبراير (شباط) 2015.

ومن اللافت في هذا الصدد أن ما جرى من اقتطاع للأراضي التي كانت تابعة لأوكرانيا واستعادتها روسيا بموجب ما سبق وأعلنه بوتين من مبررات وأسانيد تاريخية، ليس القول الفصل بعد في شأن النهاية الوشيكة لما قد تشهده الأراضي الأوكرانية من كوارث ومآس. فالأخطار لا تزال قائمة والاحتمالات تظل وشيكة في شأن احتمال ضياع مزيد من الأراضي الأوكرانية، ومنها ما كشفت عنه قيادات بولندية ومجرية ورومانية حالية وسابقة حول أحقية كل من بولندا والمجر ورومانيا في استعادة كثير من أراضيها التاريخية التي جرى ضمها إلى أوكرانيا بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية، وهو ما كتبت عنه "اندبندنت عربية" في أكثر من تقرير لها من موسكو. قال بوتين "ندعو كييف للتفاوض، لكننا لن نناقش اختيار الشعب. لقد تم ذلك، ولن تخذل روسيا الشعب"، في إشارة إلى نتائج الاستفتاءات الأخيرة وما جرى توقيعه من وثائق حول انضمام هذه الأراضي إلى روسيا، أو بحسب ما تقوله موسكو "العودة للوطن الأم".

ولم يغفل بوتين بطبيعة الحال العودة لفضح ما ارتكبته الولايات المتحدة وعدد من البلدان الغربية التي وصفها بالاستعمارية، على مدى التاريخ، في حق بلاده وكثير من بلدان العالم ومنها الهند والصين إلى جانب كثير من بلدان آسيا وأفريقيا. حتى الدول الأوروبية لم تنج من تسلط وتعسف وتدخل الولايات المتحدة. وقال بوتين "لقد سقطت أقنعة الغرب الذي حاول في عام 1991 أن يفتت روسيا ويحولها لشعوب متحاربة"، في إشارة إلى ما جرى في تسعينيات القرن الماضي من تغذية للحركات الانفصالية، ودعم للفصائل والمنظمات الإرهابية في شمال القوقاز، ناهيك عما مارسته وتمارسه هذه الدوائر من "سياسات الاستعمار الجديد من أجل الهيمنة على العالم وإسقاط الأنظمة"، وذلك إلى جانب إدانة ما تحاول فرضه من قيم ومواثيق تنال من المقدسات وتدعو إلى السقوط في براثن الرذيلة بما أشار إليه من دفاع هذه الأوساط عن المثلية الجنسية وتغيير المناهج والمقررات الدراسية تحت شتى الذرائع والمبررات.

توقف بوتين بكثير من التفاصيل والأرقام عند كثير من تجاوزات وخطايا العالم الغربي وسياسات المعايير المزدوجة من خلال إشارته إلى أن "الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تحتل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وتتنصت على زعمائها"، فضلاً عن ممارستها العمليات التخريبية بما أشار إليه من اتهامات للأنغلوساكسون بالتخريب الذي تعرضت له أنابيب السيل الشمالي لنقل الغاز الروسي، في سابقة تشير ضمناً إلى تجاهل الولايات المتحدة وبريطانيا لكل مصالح الشعوب الأوروبية التي تتضور شعوبها ألماً من جراء نقص حاجاتها من الغاز، فضلاً عن استمرار محاولات تصدير الحبوب والغلال الأوكرانية إلى الدول الأوروبية، واقتصار حصص البلدان النامية على خمسة في المئة فقط من هذه الصادرات.

استراتيجية الحرب

وتبقي استراتيجية الحرب التي لا أحد يساوره الشك في احتمالات تغيرها صوب كثير من التغيير والتشدد، وعدم السماح بأية احتمالات لنكسة أو تراجع. وحذر بوتين من أية محاولات لما وصفه بـ"كسر الوحدة التاريخية" لشعوب روسيا، وتلا ذلك، في إشارة لا تخلو من مغزى، بالتذكير بما ارتكبته الولايات المتحدة من جريمة استخدام السلاح النووي مرتين في سابقة تاريخية لم تحدث من قبل. وعاد للتذكير باحتلالها لليابان وكوريا الجنوبية، وما تمارسه من ضغوط ضد البلدان الأوروبية. وأكد بوتين أن "روسيا وراءنا" بما يعيد إلى الأذهان صيحة المارشال جيورجي جوكوف قائد القوات السوفياتية في الحرب العالمية الثانية التي أطلقها رداً على تهديد القوات الهتلرية للعاصمة موسكو وكانت على مبعدة ما يزيد قليلاً على 10 كيلومترات من الكرملين. بلادنا شاسعة مترامية الأطراف، لكن وراءنا موسكو، ولا مجال للتراجع، لينطلق بعدها في مسيرة لم تنته إلا بعد أن غرست قواته المسلحة راية الاتحاد السوفياتي فوق قبة الرايخستاغ.

أعاد بوتين ما سبق وقاله حول إن "حربنا من أجل روسيا التاريخية الكبرى" مستشهداً بكثير من أقوال الفلاسفة الروس، ومنهم نيكولاي بيرديايف وإيفان بيلين وكتابه الذي أصدره تحت عنوان "روسيا الوطنية مهمتنا"، وقال فيه "أنا روسي، وذلك يعني أنني أحب بالروسية، وأفكر بالروسية، وأغني بالروسية، وأؤمن بقوة إيمان الشعب الروسي الذي روحه هي روحي، وقدره هو قدري، ومعاناته مصدر تعاستي، وفرحته أملي".

أما عن السبيل إلى ذلك فقد يكون في ما أوردناه في تقريرنا السابق من موسكو، حول ما تملكه روسيا من أسلحة حديثة لم تستخدم أياً منها في معاركها التي بدأتها في 24 فبراير الماضي. وهو ما سنعود إليه في تقارير تالية مواكبة لما سيستجد من أحداث خلال الأيام القليلة المقبلة.

 

المزيد من تحلیل