Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل محمد علي شمس الدين شاعر الغنائية التراجيدية

 من أبرز رواد القصيدة التفعيلية ببعدها الوجودي وجمع بين الذات والجماعة

الشاعر محمد علي شمس الدين الراحل عن 80 عاماً (صفحة الشاعر - فيسبوك)

خلال الأسابيع الأخيرة، عندما بدأت تتراجع حاله الصحية، وشرع يحس أن الجسد ما عاد قادراً على مواجهة تداعيات المرض، أكب الشاعر محمد علي شمس الدين على كتابة القصائد يومياً تقريباً، ناشراً إياها عبر صفحته الـ "فيسبوكية" التي كان اكتشفها أخيراً. وكان بعض مما نشر من عيون شعره الأخير، وبرز فيه هاجس عيش الموت ومؤالفته ومصادقته بلا ريبة أو مخافة. ولعل ما وسم معظم تلك القصائد، طابع عرفاني صوفي غير رثائي أو كربلائي، على رغم استدعائه رموزاً تراجيدية، كالحسين والمسيح والحلاج وسواهم.

محمد علي شمس الدين المطبوع على الشعر والمسكون بهمه إيقاعاً وصوراً وفضاء تعبيرياً، لم يخطر في باله لحظة، أن القلم سيسقط من يده وأن قريحته ستتوقف، وأن الشعر سيخونه، فظل يكتب حتى الرمق الأخير حتى ليمكن القول إنه توفي شعرياً.

القصيدة التفعيلية الجديدة

محمد علي شمس الدين الراحل عن ثمانين، رائد من رواد الجيل الجديد الذي أعقب رواد القصيدة التفعيلية بمراحلهم كافة، ويمكن القول إن شعره سليل حداثة بدر شاكر السياب الذي كان يعده بمثابة المعلم، وعبدالوهاب البياتي وأحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور وسواهم. وقد لا يوفى مثل هؤلاء الشعراء ولا سيما السياب حقهم، عندما تُقصر حداثتهم على التجديد التفعيلي، بينما هم شعراء مضامين وأشكال جديدة، وليست التفعيلة سوى جزء من تجربتهم التحديثية. ولعل ما تميز به شعر شمس الدين، الجنوبي والوجداني والغنائي والتراجيدي، هو انفتاحه على شعريات عالمية بارزة، مع الإفادة منها ومجاراة خصائصها التقنية والجمالية والمجازية، فهو بدا قريباً من غنائية بابلو نيرودا ولوكا وناظم حكمت وسواهم من الشعراء "الإنسانويين" الذين راجت ترجمتهم إلى العربية بدءاً من الستينيات،  في أوج حركة التحرر العربي ونشوء حركة الكفاح الفلسطيني.

كانت مجلة "الآداب" واحداً من المنابر التي فتحت صفحاتها لشعراء الثورة التفعيلية، ولما يسمى "الشعر الملتزم"، وكان شمس الدين من شعراء هذه المجلة العروبية بدءاً من منتصف السبعينيات، ولكن من غير أن يشاركها عداءها لمجلة "شعر"، صاحبة المشروع الحداثوي المتقدم والشامل بامتياز. ولم ينثن شمس الدين عن النشر في مجلة "مواقف" التي كان أسسها أدونيس بعدما انفصل عن مجلة "شعر".

سطوة الديوان الاول

عندما أصدر محمد شمس الدين ديوانه الاول "قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا" عام 1974، بدا للفور صاحب صوت فريد متميز بغنائيته الريفية ووجدانيته ذات الطابع الوجودي، وتراجيديته أو فجائعيته الطالعة من أرض الجنوب ومعاناة أهله مآسي الحروب الإسرائيلية المتواصلة، والخراب الناجم عن القصف والنزوح المرير. لقي هذا الديوان ترحاباً في الأوساط الشعرية والنقدية العربية، ومثّل انطلاقة الشاعر في عالم القصيدة التفعيلية الجديدة، وكرسه واحداً من أبرز شعراء "التيار الجنوبي" الذي ضم شعراء متميزين مثل شوقي بزيع وحسن العبدلله  ومحمد العبدالله وجودت فخر الدين والياس لحود... وقد حمل هؤلاء لواء الالتزام "الإنسانوي" انطلاقاً من مأساة الجنوب وروح المقاومة الوطنية ومعاناة الطبقة البروليتارية، وقد نهلوا من ينبوع الفكر اليساري بحرية تامة.

بعد هذا الديوان راح محمد علي شمس الدين يوسع أفقه الشعري، مرتكزاً أولاً على التراث الفجيعي الكربلائي الذي نشأ عليه طفلاً وفتى، والذي زرع بذوره في روحه، جده الشيخ عبدالحسين المرتل، ومنفتحاً ثانياً على الشعريات العالمية الاشتراكية أولاً ثم الحداثوية في مفاهيمها الواسعة. وقد نجح كل النجاح في الدمج بين هاتين النزعتين المختلفتين ظاهراً وجوهراً، وآخى بينهما وسكبهما في قصائد متفردة بجوها ومعجمها ورموزها. ظل شمس الدين حتى آخر ما كتب، شاعراً تراثياً في المفهوم المتعدد للتراث، وحداثياً، حافظ على النظام التفعيلي وأصدائه الأولى الكلاسيكية والرومنطيقية والرمزية، وانفتح على تجليات العصر الحداثي العالمي في الشعر المستقبلي والسوريالي والتجريدي. لكنه ظل أبداً الشاعر الجنوبي، التراجيدي، الغنائي الصوت، حتى بعدما خفتت روح الثورة الاشتراكية والشيوعية التي هيمنت على حقبة النضال الأولى، وبعد أن صعد تيار المقاومة الدينية التي تخلصت من الفكر العلماني وزرعت محله الفكر الطائفي. أما صفة الشاعر الجنوبي فاكتسبت خلال المرحلة الأخيرة لدى شمس الدين، تلاوين كربلائية لبنانية واضحة، وسعى "حزب الله" و"حركة أمل" إلى توظيف اسم الشاعر في صميم رسالتهما الفكرية والأدبية، ولم يُضر شمس الدين أن يكون عضواً في لجنة تحكيم "جائزة  قاسم سليماني الأدبية" التي يشرف عليها حزب الله.

شاعر الجماعة

محمد علي شمس الدين، شاعر الذات الشخصية أو الفردية مثلما هو شاعر الجماعة، والجماعة هنا هي البيئة الشيعية في ما تعني وجدانياً وسياسياً، مع نبذ للطائفية التي تمثل أحد امراض اللبنانيين. ولعل انتماءه الجنوبي كان يتخطى كل الظواهر والتيارات، ليتحول إلى انتماء وجودي عميق، وإلى حال من الكينونة التي تضرب جذورها في أعماق الذات. ولم يكن الجنوب مقولة جغرافية وسياسية ونضالية فقط، بل هو يملك في شعره بعداً تكوينياً، فالشاعر ابن التراب والشجر والماء والطيور والسماء والقمر، وابن الحقول والسنابل والألوان وهبوب النسائم وزمجرة العواصف. وقد مثلت مثل هذه المفردات الجنوبية معجمه الشعري الأساسي، الذي كان يتسع دوماً لمفردات أخرى ومختلفة جداً، طالعة من قلب المدينة والعصر.

غير أن هذه الالتباسات في الهوية والانتماء، لم تنل البتة من شعرية محمد علي شمس الدين، ولم تؤثر في نزعته العربية، تراثاً ومعاصرة، فهو ابن اللغة العربية وسليل الخزين العربي الذي استعان برموزه وأسمائه الكبيرة في سياق ما يسمى "قصيدة القناع"، فاستحضر المتنبي وامرئ القيس وقيس بن الملوح وليلاه، والمعري وديك الجن، مثلما استحضر الحلاج والحسين والمسيح وجبران وسلفادور دالي وغوغان وسواهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الشاعر محمد علي شمس الدين هو ابن الأوزان والقوافي العربية، بل ابن الإيقاعات الموسيقية العربية، شاعر غنائي تسلس له الأوزان والقوافي والتفاعيل والجوازات، فيصفيها لتمسي القصيدة، مقطوعة موسيقية لغوية، ذات إيقاعين، صوتي أو جرسي وداخلي، وكأن موسيقى الشعر تطلع من أعماقه عذبة متهادية مترنحة. هذا شاعر بالسليقة مثلما هو شاعر بالدربة والمراس، وشاعر بالثقافة والتأمل والمعرفة والعرفان. وعندما أصدر ديوانه "شيرازيات" الذي "عرّب" فيه أبياتاً ومقطّعات للشاعر الفارسي الكبير حافظ الشيرازي، وسم هذا الشاعر الذي يقدسه الإيرانيون حتى الآن على رغم الهيمنة الخمينية، بروح عربية، بلاغة وإيقاعاً ومجازاً حتى بدا الشيرازي عربياً قحاً. وقد تصرف شمس الدين بشعره بحرية تامة، ولم يترجمه عن الإيرانية التي لا يجيدها، بل اعتمد ترجمات أخرى وأعاد سبكها على طريقته.

الأنا والذات

تحضر "الأنا" في شعر محمد شمس الدين بصفته شاعراً غنائياً، وتحتل مطالع قصائد كثيرة، لكنها لا تبدو نرجسية سوى في المعنى الذاتي والوجداني، فهي ليست نرجسية "مريضة" تسعى إلى أن تكون  الخالق والخلق في الآن نفسه، أو أن تكون الألف والياء، مثلما تبدت في شعر المتنبي قديماً ( أنا الذي نظر الاعمى إلى أدبي)، أوأدونيس حديثاً ( لم تبق آية دمي الآية ). "الأنا" في شعر شمس الدين هي رديف الذات في صبواتها وجروحها وقلقها إذ يقول: "أنا الشفاف الآسر/ والمظلم في الآبار/ أنا الجرس المهدوم"... فالشعر لدى "صاحب "أميرال الطيور" يقوم كما قال مرة "بين المتعة والألم، بين الصحو والسكر، بين الحكمة والمجان"، ولعل هذا التعريف يمثل خير تمثيل تجربة الشاعر.

لم يتوقف محمد علي شمس الدين عن الكتابة بتاتاً، ولم يعان ما يسمى أزمة الصمت والعجز عن الكتابة أو "الورقة البيضاء" بحسب الشاعر مالارميه. كان مغزاراً لا يفارقه شيطان الشعر، فيظل منهمكاً في هموم القصيدة. وقد أصدر 20 ديواناً، ما عدا قصائده الأخيرة، عطفاً على الكتب النثرية، وبعضها يضم نصوصاً نثرية. وكتب أيضاً كثيراً من المقالات النقدية والخواطر، في الصحافة اللبنانية والعربية، متابعاً الحركة الأدبية. ولا بد من الإشارة  أن دواوينه عرفت في أحيان حالاً من الصعود والركود، وبدت دواوين أقوى من أخرى، وهذا أمر طبيعي عرفه معظم الشعراء، لا سيما الشعراء المصابون بهاجس الكتابة الدائمة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة