Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بحثا عن منبع نهر الآلهة... النيل "يتأنسن" من جديد

كاتبة أميركية ترصد "العبقرية والشجاعة والخيانة" في رحلة البحث عن منابع أطول أنهار العالم

لوحة بريشة تشارلز ثيودور فرير (1814 ـ 1888) تكشف جانبا من الحياة على ضفاف النيل في قرية مصرية (غيتي)

يعرف من قرأ كتاب "النيل حياة نهر" لإميل لودفيغ في ترجمة الفلسطيني القدير عادل زعيتر، التي جعلت الكتاب أقرب ما يكون إلى نص مقدس، أن لودفيغ مؤرخ تخصص في كتابة سير عظماء في التاريخ، وأن كتاب النيل استثناء بارز في ثبت مؤلفاته، فهو السيرة الوحيدة لشيء لا لشخص.

ومرة أخرى يتأنسن النيل على يد الكاتبة كانديس ميلارد، في كتاب صدر قبل أسابيع، ضم 349 صفحة بعنوان "نهر الآلهة: العبقرية والشجاعة والخيانة في البحث عن منابع النيل" عن دار دابل داي.

يذكر غاري كريست في مقاله عن الكتاب بـ"واشنطن بوست" (27 مايو "أيار" 2022) أن "ميلارد تأتي الآن بعد أن تخصصت في الكتابة عن حوادث فردية في حيوات شخصيات تاريخية ثرية من أمثال تيودور روزفلت وونستن تشرشل، لتكتب عن نهر النيل، ومرة أخرى نجد النيل في عداد الشخصيات البارزة"، ومن ثم يبرز السؤال: ما الذي يعرفه من يتعمق في تاريخ الإنسان فلا يرضيه بعده غير التعمق في ماضي هذا النهر، أطول أنهار الدنيا، ووليد أشقى قاراتها، وجار أعرق ما عرفته من حضارات؟

حتى القرن التاسع عشر كانت خرائط العالم، بخاصة أفريقيا، لم تزل تحفل ببقع كثيرة بيضاء بياضاً موجعاً للعلماء وللباحثين، فقد كانت تمثل أصقاعاً شاسعة من الأرض لم تزل تصفع عيني كل ناظر إلى تلك الخرائط بحقيقة أن الإنسان "المتحضر" لم يصل إلى تلك الأرض، ولم تطأها قدماه، ولم تزل له مجهولاً لم تنكشف أسرارها بعد. فكيف كان للإنسان أن يشعر حقاً أنه سيد هذه الأرض المتربع على عرش كائناتها، وكيف يتسنى له أن يرفع رأسه إلى السماء، أو حتى أن يرفعها وحسب، وهو لا يعرف بعد أن يقف عليها؟!

تقول كلاريس ميلارد، الصحافية السابقة في مجلة "ناشونال جيوغرافيك" في حوار مطول أجراه معها ديف ديفيس لراديو أميركا الوطني (15 يونيو "حزيران" 2022) إن من تلك المناطق البيضاء منطقة بقيت "لغزاً لآلاف السنين يستولي على كثير من الناس، فمن هؤلاء ملوك حكموا مصر، وفلاسفة قدماء في اليونان، كلهم تساءل من أين ينبع النيل، أطول أنهار العالم؟".

ويقول غاري كريست إن تحديد منابع النيل كان "هاجساً شائعاً منذ العصور العتيقة، مثيراً لتكهنات شخصيات متنوعة، منها هيرودوت [المؤرخ القديم الشهير الذي تنسب إليه مقولة "مصر هبة النيل"] والإسكندر الأكبر (الذي من عجب أن ظنونه ذهبت به إلى وجود منابع النيل في الهند!). وبحلول أواسط القرن التاسع عشر كان السعي إلى منابع النيل قد استولى بصفة خاصة على اهتمام بريطانيا، حتى قال السير رودريك مورتشسن، أحد مؤسسي الجمعية الجغرافية الملكية، إن المستكشف الذي سيحدد في نهاية المطاف منابع هذا النهر الخرافي سيكون قد أحسن إلى هذا العصر أعظم إحسان".

مشكلة جميع العصور

تكتب ميلارد أن الجمعية الجغرافية الملكية في إنجلترا الفيكتورية رأت في ذلك اللغز "مشكلة جميع العصور" وأن ذلك "الهاجس سيطر على العصر الفيكتوري كله، في ظل الاهتمام الشديد بمصر وبكل ما تعد به أرضها القديمة الجليلة وتاريخها العتيق" حتى صار الوصول إلى تلك المنابع بمثابة "الكأس المقدسة في عالم الاستكشافات في ذلك الزمن".

يكتب إدوار دولنيك في استعراضه للكتاب (نيويورك تايمز 15 مايو 2022) أنه "على الرغم من أن تجاراً كانوا يروون منذ القدم قصصاً عن جبال شاهقة وبحيرات عملاقة قد تكون أصلاً للنهر للجليل"، لكن مشكلة التجار، وأيضاً مشكلة أهالي أعالي النيل، أن إلمامهم جميعاً اقتصر على مناطق جغرافية محدودة، فلم يجد نفعاً في رسم صورة كاملة لـ"المسار الكامل لأطول أنهار الدنيا، إذ كيف تترابط البحيرات والأنهار، عبر منطقة المنابع الشاسعة؟ هذا ما لم يعرفه أحد" حتى جاء رجلان من بريطانيا ليحصلا على تلك الكأس المقدسة، وهذان هما موضوع كتاب كلاريس ميلارد، فهما اللذان عرفا أين بالضبط يبدأ نهر الآلهة.

يثني ديف ديفيس في مقدمة حواره مع كانديس ميلارد على موهبتها "في حفر أركان قليلة الاستكشاف من التاريخ تضيء من خلالها أجزاء من تاريخنا"، ولعل هذه إشارة إلى كتابها المثير عن مغامرات تيدي روزفلت في أميركا الجنوبية، لكن كثيراً ممن استعرضوا كتابها الأحدث على مدى الأسابيع الماضية أطروا أيضاً على جمع ميلارد بين مهارات المؤرخين البحثية وقدرات العمل الصحافي على الأرض وملكات الروائيين في الحكي بما ساعدها على أن تبث الحياة في فصول هذه الحملة القديمة، فضلاً عن استعمالها الكثيف المواد الأرشيفية، وقيامها برحلات ميدانية إلى شرق أفريقيا متبعة فيها مسار حملات الاستكشاف، لتخرج من سردية بالغة التعقيد بقصة سلسلة ممتعة فيها بطلان أساسيان: بيرتن وسبيك.

مهمة بيرتن

في عام 1853 تنكر المستكشف البريطاني ريتشارد فرانسيس بيرتن (وهو أيضاً باحث ومغامر ولغوي، طلق اللسان في أربع وعشرين لغة، منها العربية، واثنتي عشرة لهجة) في هيئة مسلم، فكان أول إنجليزي يدخل مكة في موسم الحج مخترقاً الحظر المفروض على غير المسلمين. كان بيرتن أيضاً "كاتباً ذا موهبة استثنائية. ألف عشرات الكتب والقصائد والترجمات... درس كل الأديان ولم يحترم أي دين". وفي العام التالي لمغامرته المكية اختارته الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية ليخرج في رحلة اكتشاف منابع النيل. فهل كانت المغامرة الأولى هي التي أهلته للثانية؟ وهل كان تمكنه من التسلل إلى بيت الله الحرام هو الخطوة الأخيرة قبل الشروع في العثور على منابع نهر الآلهة؟

تحكي ميلارد أن الكاتب برام ستوكر ـمؤلف شخصية "دراكيولا"ـ التقى بيرتن، وافتتن به، ووصفه في بعض كتاباته بأنه مصنوع من فولاذ، وأنه ينفذ في من ينظر إليه نفاذ السيف، ولكن أشد ما افتتن به كاتب دراكيولا في بيرتن أسنانه، فهو يصف أنيابه البراقة بالخناجر، لذلك يظن البعض أن بيرتن قد يكون مصدر إلهام لشخصية دراكيولا. فما أرق أن يكون مكتشف منابع النيل هو الملهم بإحدى أكثر الشخصيات الخيالية دموية وإثارة للقشعريرة في الأبدان!

ضم بيرتن إلى رحلته جون هاننغ سبيك، وهو ضابط في الجيش البريطاني ومساح أراض وصياد مولع بالقنص والطراد. وفي حين أن هذين الإنجليزيين هما فقط اللذان استأثرا بالمجد، وهما اللذان ينسب إليهما اكتشاف منابع النيل، وهما اللذان نشأت بينهما عداوة ضارية، وخلافات علنية شرسة حول اكتشافهما، فإن شخصاً ثالثاً كان شريكاً لهما في الدراما ونجما ثالثاً فيها، وذلك هو (سيدي مبارك بومباي)، وهو رجل أفريقي استأجره بيرتن ليكون حاملاً للسلاح، فصار لبراعته عضواً أساسياً في الفريق، يساعد في معاركة العقبات المادية وتحقيق مطالب زعماء القبائل الأفريقية على طول الطريق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كانت المهمة شاقة إلى أقصى حد، ولأن الإبحار باتجاه المنبع استوجب المرور في مناطق معادية للدخلاء، فقد قرر المستكشفون أن يلجأوا إلى استراتيجية بديلة وغير مسبوقة تاريخياً، إذ سافروا براً، متبعين المسارات التي كان يستعملها منذ قرون التجار الأفارقة والعرب، راجين أن يكتشفوا بداية رحلة النهر التي تستغرق أربعة آلاف ميل باتجاه مصبه في البحر الأبيض المتوسط.

على الرغم من أن سبيك كان -شأن بيرتن- ضابطاً في جيش بريطانيا في شركة الهند الشرقية، فإنه كان أرستقراطياً مرفهاً، وكان "النقيض [لبيرتن] من كل وجه تقريبا"، لكن الرجلين تشابها في الطموح العظيم إلى الاستئثار بالفضل. وعلى الرغم من أن تركيبة الباحث البارع بيرتن والمغامر والصياد الجسور سبيك كان ينبغي أن تشكل فريقا جيداً، فلم يمض وقت طويل قبل أن تتوتر الأمور بين الرجلين حتى أصبحا عدوين لدودين، ولعل تلك كانت عقبة أخرى تضاف إلى عواقب الطريق. والحق أن الاختلاف بين الرجلين كان سافراً منذ البداية، فلا نملك إلا التعجب مما فكرت فيه الجمعية الجغرافية الملكية حقاً حينما جمعت في فريق واحد بين رجل واسع المعرفة، ومترجم ضليع أطلع الإنجليز في زمنه على كاماسوترا الهندية وألف ليلة وليلة العربية، ورجل آخر لم يزد قط على عسكري من أسرة أرستقراطية عنده ما عند أبناء طبقته -ومهنته- من بعض المزايا وكثير من العيوب.

 

مصداقاً للقول السائر بأن مصائب قوم عند قوم فوائد، يكتسب هذا الكتاب من المصاعب التي واجهت بطليه ورفاقهما أسباباً للإثارة والقدرة على تسلية القراء، وذلك شأن كتب المغامرات، والكتب الجادة التي تتوسل بما تتوسل به كتب المغامرات. والحق أن الرجلين، بيرتن وسبيك، وفرا كثيراً من الصعاب لكل من يريد أن يكتب عنهما كتاباً يثير القراء، فمنذ بداية الرحلة وحتى النهاية امتلأت المغامرة بالعراقيل، إذ انهالت على المغامرين آلام وأمراض غامضة أوشكت أحياناً أن تقضي عليهما، ثم إنهما بعد ثلاثة أشهر فقط من شروعهما في الحملة صادفا نطاقاً جبلياً شاهقاً يبلغ ارتفاعه سبعة آلاف قدم، وقفا أمامه "مرتعشين بسبب الملاريا، دائري الرأس، بآذان أوشك الخور أن يصيبها بالصمم، وأطراف ما عادت تقوى على النهوض بنا" يكتب بيرتن "وقفنا [هنالك] نتأمل بيأس وعناد مساراً يوشك أن يكون عمودياً".

مزيد من المصاعب

وليت ذلك كان غاية المصاعب، لكن مزيداً كان لم يزل في الانتظار، بما جعل الحملة الأولى -أي حملة عام 1855- قصيرة العمر، لم تفض إلى شيء. فلقد هوجم المستكشفان وفريقهما من نحو ثلاثمئة وخمسين قاطع طريق من الصومال، قرب ميناء بربرة، ففر الرجلان بحياتيهما، لكن ليس قبل أن ينال سبيك من الحراب الصومالية طعنتين وبيرتن طعنة أصابته في فمه.

ثم كانت حملة أخرى في غضون سنوات قلائل وكانت أشق من سابقتها، إذ واجه المستكشفان ومن برفقتهما من الأفارقة مصاعب المرض وشدة الحرارة وغزارة الأمطار، وانسحاب بعض أعضاء الفريق، واضطرار المستكشفين ـلاجتناب الموت جوعاًـ أن يأكلوا النمل طلباً للبروتين، فضلاً عن معاناة سبيك لفترة من شبه عمى وفقد للقدرة على السمع بإحدى أذنيه.

ولكن هذه الحملة كانت أسعد حظاً من سابقتها، فبعد ثمانية أشهر وثمانمئة وخمسين ميلاً وعراً، وصلت الرحلة إلى بحيرة تنجانيقا. واقتنع بيرتن بأنهما عثرا على منبع النيل، لكن مسافراً عربياً أخبرهما بأمر بحيرة بعيدة جهة الشمال، اسمها نيانزا، وهي منبع النهر الحقيقي. وفيما بقي بيرتن ليتعافى من مرض أصابه، خرج سبيك على رأس مجموعة صغيرة من الرجال إلى بحيرة نيانزا (التي ستحمل لاحقاً اسم بحيرة فيكتوريا). واقتنع بأن هذه هي منبع النيل الأبيض، لكنه لم يستطع أن يثبت ذلك لأن كل معدات الحملة العلمية كانت قد خربت.

في سنة 1861 أعلن سبيك أن "النيل انتهى أمره"، وعلى الرغم من عدم اقتناع بيرتن فقد لقي زعم سبيك قبول الدوائر العلمية، وثبت بعد سنين كثيرة أنه بالفعل كان مصيباً. وانتقل الرجلان من معاناة ويلات أفريقيا إلى سنوات من معاناة ويلات الخصومة والاقتتال على الاستئثار بالمجد.

دور بومباي

في الوقت الذي تحكي فيه ميلارد قصة المستكشفين الأوروبيين، بيرتن وسبيك، وما كان لديهما من طموحات ومشاحنات، فإنها لا تفقد مطلقاً رؤيتها الجهد الأكيد والإسهامات الضخمة التي قدمها عشرات الأفارقة والعرب وغيرهم في تيسير تلك المغامرة. ويصدق ذلك أكثر ما يصدق على بومباي.

ولد بومباي في قرية قريبة من الحدود المعروفة اليوم بين تنزانيا وموزمبيق. وفي بواكير حياته اختطفه غزاة واقتادوه مع غيره من الغنائم البشرية مغللاً لمئات الأميال وصولاً إلى الساحل ثم طرحوه في سفينة صغيرة مكدسة أبحرت لمسافة مئتي ميل حتى زنجبار، مات كثير ممن كانوا على متنها خلال الرحلة، وقذفت جثثهم في الماء "لكن بومباي نجا. وفي سوق العبيد الشهيرة في زنجبار بيع لقاء أمتار قليلة من القماش، وشحن إلى الهند حيث عاش هناك عبداً لعشرين سنة من عمره" بحسب ما ينقل إدوارد دولنيك عن كتاب ميلارد.

 

 

تحرر بومباي بوفاة سيده فرجع إلى أفريقيا، وفي النهاية تكتب ميلارد، "لن يكون فقط من أكثر الأدلاء إنجازاً في تاريخ الاستكشاف الأفريقي، بل يرجح أنه أوسع البشر ترحالاً في أفريقيا، إذ يقدر أن رحلاته غطت قرابة ستة آلاف ميل من الأراضي المكسوة بالحشائش، وبالرمال، وبالجبال، على قدميه في أغلب الحالات". ففي أعقاب وفاة سبيك المبكرة في حادثة صيد وانتهاء عمل بيرتن في عالم المغامرات ومجال الاستكشاف، واصل بومباي استكشاف القارة الأفريقية، مضيفاً في هدوء مزيداً من المنجزات إلى قائمته. فكان من ضمن مآثره أنه ساعد المستكشف الأميركي هنري مورتن ستانلي في العثور على المستكشف الشهير الآخر ديفيد ليفينغستون، كما عمل مع الرحالة الإنجليزي فينري لوفيت كاميرون في وسط أفريقيا، فضلاً عن منجزات كثيرة أخرى في ذلك العالم المثير.

واليوم، ربما يعرف بعض هواة التاريخ اسمي بيرتن وسبيك وأمثالهما من المستكشفين، لكن فضيلة من أهم فضائل كتاب ميلارد أنه يذكرنا ببومباي وأمثاله ممن قادوا المستكشفين الغربيين وأعانوهم، وكانوا لهم أدلاء وحمالين وعمالاً، رافقوهم في كل خطوة، وحملوا عنهم حتى أجسامهم الهشة المريضة لأميال تلو أميال من أراض شديدة الوعورة، ثم لما آن أوان حصد الثمار، والتنعم بأضواء المجد، لم يتصدر المشهد إلا نفر قليل من مستحقيه.

عنوان الكتاب: RIVER OF THE GODS: Genius، Courage، and Betrayal in the Search for the Source of the Nile

تأليف: Candice Millard 

الناشر: Doubleday 

المزيد من كتب