Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فلوبير وديكام معا على طول مجرى النيل بين بولاق وأسوان

الرحلة الشرقية التأسيسية التي احتاج القيام بها إلى عامين من التفاوض

من الصور التي التقطها ديكام في مصر (من كتاب اليوميات المصرية)

من المؤكد أن الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير (1821-1880) لم يكن ليتصور أبداً وهو يجهز نفسه للقيام بتلك الرحلة التأسيسية إلى مصر وبقية أنحاء الشرق الأدنى عند أواسط القرن التاسع عشر، أن التفاوض الذي اضطر إلى خوضه في سبيل جعل تلك الرحلة ممكنة سيستغرق نحو سنتين، ويوصله في لحظات كثيرة إلى مهاوي اليأس على الرغم من تدخل صديقه ورفيق سفره المصور مكسيم ديكام في اللعبة التفاوضية. والأدهى من ذلك أن الطرف المقابل لفلوبير في التفاوض لم يكن سوى أمه، وذلك على الرغم من "النجاحات" التي كانت قد حققتها رحلات قام بها الرفيقان معاً إلى مناطق فرنسية شتى، تبدت مثمرة وواعدة. بالنسبة إلى الأم لا بأس بالتجوال في فرنسا بل حتى في غيرها من البلدان الأوروبية النظيفة. ولكن في الشرق؟ وفي مصر تحديداً؟ أبداً. فـ"القذارة هناك في كل مكان" و"العاهرات بالمرصاد مع الأمراض القاتلة". ثم "ما الذي يمكن لتلك المناطق النائية والمتوحشة من العالم أن تضيفه إلى حياتك يا بني؟"، كانت الأم تسأل بغضب واستنكار.

واقتنعت الأم على مضض

طبعاً نعرف أن السيدة فلوبير التي بالكاد كانت تعرف من العالم ما يبعد كثيراً عن بلدتها النائية كرواسيه، وتعتبر حتى المرور في بعض نواحي باريس مثيراً لشتى أنواع غضبها، انتهى بها الأمر إلى تخفيف قبضتها وفتح خزانة مالها أمام ابنها ليتوجه إلى ذلك الشرق الذي لم تفهمه أبداً. ليس مرة واحدة بل مرتين، ويعود منه مع الفارق الزمني الكبير بين الرحلتين، جاهزاً لكتابة بعض أعظم رواياته، وهو الذي سيُقال لاحقاً إنه لئن كانت الرحلة الأولى لم تؤثر حقاً في موضوع الرواية التي دبجها بعد العودة منها، ونتحدث هنا عن "مدام بوفاري" طبعاً، فيما بدلت جدياً رحلته الثانية، إلى تونس هذه المرة، من تفاصيل روايته "سالامبو" التي كان شرع في كتابتها قبل ذلك، فإن الرحلتين علمتاه ألا يحكم على الأمور والناس وأفكارهم حكماً مسبقاً ليطبع أدبه مذاك ولاحقاً بموضوعية نادرة. وهي طبعاً تلك الموضوعية التي كانت واحدة من المميزات الأساسية لأدبه. غير أن هذا كله كان لم يصبح بعد، ولا حتى جنينياً، في خريف عام 1851 حين بارح فلوبير وديكام كرواسيه في طريقهما إلى مصر بخاصة، في تلك الرحلة التي ستكون بالنسبة إليه من أعظم إنجازات حياته وتؤثر في أدبه التالي ككل، لتنتج مباشرة اثنين من أطرف كتبه قبل شروعه في انطلاقته التي دامت سبع سنوات كرسها لكتابة "مدام بوفاري"، التي يجمع كاتبو سيرته على أنها ما كان من شأنها أن تطلع كما طلعت لولا الرحلة المصرية، ولا سيما في مجال توصيفه للمرأة فيها.

الكتاب المشوَّه المختفي

أما الكتابان اللذان تناول فيهما فلوبير تلك الرحلة فأولهما هو "اليوميات المصرية" التي ستحمل لاحقاً عنوان "رحلة إلى مصر" والثاني "على متن المركب كانج". ولنشر من الآن إلى أن "اليوميات المصرية" لن تنشر إلا بعد عقود طويلة كما صاغها فلوبير، ذلك أن وريثته كارولين فرانكلين – غرو، كانت قد قررت بعد رحيل الكاتب ألا تنشر سوى نسخة مختصرة ومشوهة من النص باتت هي المعتمدة حتى اختفاء الكتاب في ثلاثينيات القرن العشرين، ليعود ويظهر في الثمانينيات ويصدر كاملاً للمرة الأولى في عام 1991. والحقيقة أنه منذ ظهوره وإعادة طباعته مرفقاً بالصور التي التقطها ديكام خلال الرحلة نفسها -وهي صور لم يحبها فلوبير أبداً، إذ كان يعلق على كل واحدة منها بقوله: "ليس هذا ما كنا نراه بالفعل!"- بات يعتبر واحداً من أجمل وأطرف كتب الرحلات "المصرية" التي أصدرها كتاب فرنسيون. ولئن كنا نعرف اليوم أن الكاتب وصف، ورفيقه صوَّر، مشاهداتهما في العديد من البلدان التي مرّا بها خلال تلك الرحلة التي استغرقت بدورها نحو عامين، فإن ما تحدث به فلوبير عن مصر كان ويبقى هو الأهم والأجمل والأكثر تأثيراً وربما من حيث لم يكن في إمكان أحد أن يتوقع: تحديداً من ناحية تكريس فلوبير صفحات عديدة فيه لوصف تجاربه الجنسية مع فتيات الهوى اللواتي سيبقين في ذاكرته عقوداً تالية من حياته، بل سنجد بعض مواصفاتهن ماثلة لاحقاً في عدد كبير من نساء رواياته اللاحقة. فمن إيما بوفاري إلى سالومي، ومن ملكة سبأ إلى ماري آرنو وأناث سالامبو، لا يعدم القارئ أن يلتقي تحت هذه الأسماء بمعظم تينك النساء اللواتي كان التقى بهن في "اليوميات" من هاديلي إلى كوتشوك خانم ومن صفية الزغيّرة إلى عزيزة، وغيرهن من اللواتي تحت غطاء مهنة الرقص كن يملأن أماكن اللهو في أزقة القاهرة الخلفية، وحتى في تلك البلدات والدساكر الصغيرة التي كان الرفيقان يمران بها على متن المركب "كانج"، التي استأجراها ذات يوم لتمخر بهما مجرى النيل من بولاق إلى أسوان طوال شهرين سيعتبرهما فلوبير أغرب وأخطر شهرين مرا به في حياته.

دروس في اللغة والحضارة

ولكن فلوبير ومكسيم كانا قبل ذلك في حاجة إلى البقاء ما يزيد على شهرين في القاهرة مكناهما من أن يتلقيا دروساً في الحضارة واللغة العربيتين ستظل مرافقة لكاتبنا في حياته كلها. وسيكون ذلك كله، كما سوف يخبرنا بنفسه، جمّ الفائدة له ولرفيقه حتى بعد انقضاء الرحلة المصرية، حين توجها بحراً إلى بيروت ومنها إلى صيدا فصور ومن ثم عكا ويافا، ومن بعد ذلك إلى القدس التي بقيا فيها فترة طويلة نسبياً زارا خلالها كنيسة القيامة وقبر السيد المسيح قبل أن يتوجها إلى شمال فلسطين براً ومن هناك إلى دمشق، وهما حين غادرا هذه المدينة السورية الفاتنة قصدا العراق وغايتهما أن يتوغلا في فارس وآسيا، ولكن يبدو أن أحداثاً خطيرة كانت تحدث هناك فأرغمتهما على العودة إلى المتوسط وإلى إزمير ورودس في عودة إلى فرنسا. وكما قلنا، استغرق ذلك التجوال كله عامين، لكنهما كانا بالنسبة إلى الكاتب وصديقه المصور، عامين مكثفين يصفهما في ذلك الكتاب الذي يبدو من الحميمية في نهاية المطاف ما يجعله فائضاً عن كتب الرحلات الأخرى. ولئن تبدت الرحلة منذ البداية متعبة فإن الشهرين اللذين أمضاهما الصديقان في القاهرة كانا فترة استجمام حقيقية، تعرفا وصورا باللغة والفوتوغرافيا التي كان ديكام قد ابتكر لتسهيلها كاميرا محمولة بدلاً من تلك التي كانت متوافرة، أشياء كثيرة في مصر لم يكن قد رآها أحد من قبلهما. غير أن المشاق بل حتى المخاطر لن تبدأ في الحقيقة إلا لاحقاً، ومع استئجارهما ذلك المركب وبحارته وهما يعرفان أنهما لن يصلا على متنه إلى أبعد من وادي حلفا جنوباً، بالنظر إلى أن النيل لن يعود صالحاً للملاحة بعد ذلك. ولا سيما مع وصولهما إلى قنا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يشطب ويبدأ من جديد

فمن قنا بات عليهما أن يركبا الجمال لتوصلهما إلى البحر الأحمر عبر صحراء القصير في مسار محفوف بالمخاطر كما برياح الخماسين والحيوانات الضارية طوال عشرة أيام. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن ديكام كان أكثر تفاعلاً مع ما يحيط بهما فهو اعتبر ما يصوره في تلك الأيام تجربة وخبرة جديدتين ليس فقط في مساره المهني بل حتى في مستقبل فن التصوير نفسه. أما فلوبير فكان يمضي وقته وهو يتساءل عما إذا كان لما يعيشه في تلك الأيام الصعبة من تأثير على ما سوف يكتب لاحقاً دون أن يصل إلى جواب! وبحسب ما يروي لنا لاحقاً في كتابه ستكون تلك الأيام الصعبة أياماً تجعله يشعر بأقصى درجات الحنين إلى ما كان عاشه في القاهرة قبل ذلك... ولا سيما ما يتعلق بالعوالم اللواتي ربما يكون هو من أسبغ عليهن ذلك السحر الذي سيطبع كل حديث عنهن بعد ذلك، وصولاً إلى الأوصاف التي سوف يخصّهن بها نجيب محفوظ بعد ذلك بنحو قرن من الزمن. ومهما يكن من أمر عرفت تلك الرحلة في النهاية كيف تنتهي على خير. وكذلك سوف يكون حال الرحلة الأخرى "الأفريقية" هذه المرة، التي سيقوم بها فلوبير إلى تونس لمجرد استطلاع أحوال وجغرافية تلك المنطقة من العالم والتي تجول في أنحائها الغربية المحاذية للحدود الجزائرية، لكنه استطاب أكثر ما استطاب فيها ميغارا المحاذية لقرطاجة، التي تضم حدائق هانيبال حيث سرعان ما اكتشف أن كل ما كان كتبه في شأنها غيابياً كان خطأ. وهكذا حين عاد إلى بلدته وأوراقه وأقلامه شطب كل ما كان كتبه من مقدمات لروايته "سالامبو" وراح يكتب من جديد... لكن تلك كانت حكاية أخرى بالتأكيد!

المزيد من ثقافة