Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مهرجان البندقية بين إغراءات الأبيض والأسود والحداثة

23 فيلماً في المسابقة وافتتاح أميركي والزحمة خانقة لحجز البطاقات على الإنترنت

مهرجان البندقية ينتظر ساعة الإنطلاق: ملصق فيلم "باردو" (اندبندنت عربية)

يأخذ مهرجان البندقية، أو "الموسترا" (المعرض) كما يسميه الإيطاليون اختصاراً، من جزيرة الليدو الفينيسية ديكوراً شاعرياً لتنظيم هذا الموعد الخاص بالفن السابع وجمالياته وشؤونه وأعلامه. كثر يتوافدون إلى المدينة العائمة في آخر أسابيع الصيف من كل عام، بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على مهرجان آخر هو "كان"، وفي أعقاب تظاهرات الصيف مثل "كارلوفي فاري" و"لوكارنو". هناك فكرة أخرى عن الصناعة المهرجانية تهيمن على هذه البقعة حيث لقاء السياحة الكثيفة بالتاريخ وبـ"التيراس" (السطيحة)الجمالي والإنساني، وهي فكرة تجمع بين بهرجة "كان" وجدية "برلين" وطموحات "تورونتو" في مخاطبة الجمهور العريض. هنا، الأفلام التي تقع بين زمنين. بين الكلاسيكيات بالأبيض والأسود التي يحرص المهرجان على عرض البعض منها عشية الافتتاح، وسينما أخرى هي الرائجة وهي التي ستصنع الحدث في الأشهر التالية لانعقاد الـ"موسترا".

على بُعد أمتار من قصر المهرجان، ثمة فندق تاريخي اسمه "أوتيل ديه بان"، صور فيه لوكينو فيسكونتي فيلمه الشهير "موت في البندقية"، وهو خير شاهد على هذا اللقاء بين الماضي والحاضر. إنه الشاهد الأبرز على أيام المجد الفينيسية الذي يعود إلى الحقبة الفاشية. ذاكرة تصدعت نوعاً ما مع شبه الانحطاط الذي حصل للقصر العتيق والتعويض عن ألقه ببعض التحديثات في باحته الأمامية. ارتبط "أوتيل ديه بان" بالمهرجان ارتباطاً وثيقاً، فصادف إقفاله مع دخول الـ"موسترا" في مرحلة جديدة تسلمها لاحقاً المدير الفني ألبرتو باربيرا.

أشباح الكبار

هذا المكان الرمز الذي يخيم عليه شبح توماس مان والمهدد دائماً من أصحاب المال، دخله المستثمرون في مرحلة ما لتحويله شققاً مفروشة، لكن المشروع توقف. علماً أن تاريخ تشييده يعود إلى مطلع القرن الماضي، ومَن يزره اليوم مسلحاً بالذاكرة السينمائية بعدما بات مكاناً مهجوراً، يواجه كماً من الذكريات الموجعة. في بداية تغطيتي لمهرجان "البندقية" قبل 15 عاماً، كان "تيراس" هذا الفندق محج المشاهير. اليوم، لم يعد سوى شاهد على ماض يتجاوز المتر المربع منه خمسة عشر ألف يورو. من نوافذ المكتب الصحافي في القصر المتهالك، يستطيع الواحد منا أن يتأمل المشهد البانورامي أمامه، وله الخيار في أن يترك نظراته تسرح في الآفاق البعيدة لجغرافيا رومنطيقية ثابتة في مكانها، أو أن ينظر إلى الأسفل حيث السجادة الحمراء والمقاهي المنتشرة ومظاهر الاستهلاك الحديثة. هذا كله يتداخل بعضاً ببعض في البندقية ليغوي العين، وهذا ما يصنع سحرها وهو سحر يُعاش ساعة بعد ساعة، لا أمراً يُنقل في مقال. 

مَن يصل إلى البندقية، يومين قبل بدء المهرجان، لسبب أو لآخر، يرى مدينة مختلفة عن تلك التي سيعمل فيها خلال الأيام المهرجانية. جزيرة الليدو حيث تجري الدورة الـ79 (31 أغسطس/آب - 10 سبتمبر/أيلول)، بدءاً من يوم غد، تبدو، خصوصاً في منطقة القصر والحيز المخصص للسجادة الحمراء، هادئة إلى حد الملل. من حين إلى آخر، يعبرها عجوز وفي يده بعض الأكياس، أو شابة على دراجتها الهوائية. أما العمال المشغولون بتأثيث المكان وتأهيله، من رفع لوحات إعلانية إلى تجهيز الصالات وغيرها، فيعملون بهدوء تام، هدوء لا يوحي البتة بأن بعد ساعات معدودة ستنطلق واحدة من ثلاث أهم تظاهرات سينمائية في العالم مع "برلين" و"كان". فكل شيء يبدو تحت السيطرة، لا فوضى أو ارتباك، وهذه من سمات العمل المؤسساتي الناجح الذي ينتج بصمت، فلا تظهر النتيجة إلا عند الساعة الصفر، بحيث يتغير المشهد كلياً.

والذي يصل إلى الليدو باكراً، هو دائماً إنسان محظوظ نوعاً ما، إذ يرى كيف الأشياء تأخذ شكلها النهائي، ويتسنى له التجول في الأماكن التي اعتاد الركض فيها أو عبورها بخطى سريعة، من شدة انشغاله أو حاجته إلى اللحاق بفيلم أو بموعد. وقد يسمح له وقته بالجلوس في زاوية من الجزيرة المدهشة ليبدأ بالتخطيط لبرنامجه، أو بكلام آخر يختار الأفلام التي ينوي مشاهدتها طوال 11 يوماً، مفكراً كيف عليه أن يقفز من فيلم إلى آخر، وبأي نحو سيجد الوقت بينهما للقيام بأعمال أخرى، كحضور مؤتمر صحافي أو كتابة مقال أو إجراء مقابلة. هذا مع العلم أن كثراً يسكنون خارج الجزيرة، في سان ماركو وسواها من البقع المجاورة، والصعود في الباصات المائية (فابوريتي) للانتقال إلى الليدو مع عدد كبير من السياح على متنها، وتحت حرارة 30 درجة مئوية أو أكثر ليس دائماً بالمتعة التي يتخيلها كثر.

انترنت وطوابير

صحيح أن الـ"موسترا" تبدأ غداً لعامة الشعب، لكن المهرجان الافتراضي كان قد بدأ صباح الأحد الماضي بالنسبة للصحافة التي راح أعضاؤها يصطفون في الطوابير. "كيف؟" يسأل حتماً البعض مستغرباً. لكن إذا علم السبب بطل العجب، فالمهرجان قرر أن يواصل آلية الحجز المسبق للتذاكر لكل الناس، بمن فيهم الصحافيون والنقاد، حتى بعد رفع كل إجراءات كورونا. قبل الوباء، كان الجميع يدخل إلى الصالات بمجرد أن يبرز البادج الخاص به، الآن بات علينا حجز تذاكر، ومن أجل ضمان فرص الحصول عليها، عليك أن تنهض الساعة السابعة صباحاً والانتظار في طوابير افتراضية على... الإنترنت. ويا ليت الموضوع مقتصر على الانتظار في طوابير وهمية. فالآلية والنظام الجديدان اللذان اعتمدهما المهرجان لا يعملان بشكل سوي، وهما على قدر كبير من السوء، مما جعل كثيرين يتذمرون من هذه الحالة ويطالبون العودة إلى الصيغة القديمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بل هناك مَن عبر عن حنينه تجاه السنوات الماضية حينما كنا ننتظر في طوابير طويلة أمام الصالات، وأحياناً تحت المطر أو الشمس الحارقة. فالآلية الجديدة التي يبدو أنها تكرست بعد كورونا، والتي تفرض على رواد المهرجان حيازة تذاكر، باتت تسبب الإرهاق والقلق والتململ. هل علينا التفرغ للأفلام وما تحمله من أفكار، أو الانشغال بكيفية الحصول على تذكرة لمشاهدتها؟ هذا هم إضافي إلى مهمة تنطوي أصلاً على الكثير من الهموم. فعلاً، هناك أسئلة كثيرة في ما يختص إصرار المهرجانات على فرض منطق التذاكر، خصوصاً أنه لا يحد من حصول الزحمة على باب الصالات. لطالما دافعت المهرجانات عن فكرة النشاطات الحضورية ونبذت فكرة مهرجانات الأونلاين، باعتبار أن الحضور يخلق مساحة تلاق بين البشر، وها أنها تحارب هذا التلاقي من خلال الحد من الطوابير التي كانت تتيح اللقاء بين الناس. 

بعيداً من المشكلات والصعوبات، تعدنا الدورة هذه بأفلام مهمة. 23 فيلماً تشارك في المسابقة وبعضها لسينمائيين كبار من مثل المكسيكي أليخاندرو غونزاليث إينياريتو أو الأميركي بول شرايدر. الافتتاح من حصة السينما الأميركية وفيلم "ضجيج أبيض" لنوا بومباك، الذي سيُعرض على "نتفليكس"، المنصة التي لا يمانع المهرجان في ضم أفلامها إلى المسابقة، خلافاً لزميله "كان". أما "الأسد الذهبي" وبقية الجوائز، فلجنة التحكيم التي ستوزعها هي برئاسة الأميركية جوليان مور، الممثلة التي لطالما أبدت انفتاحاً على الجميع، إذ تقول في مقابلة سابقة لي معها: "أميركا بلد حديث، وعلى كل مواطن أميركي أن يتذكر صباحاً وظهراً ومساءً، أن أصوله من مكان آخر. هذا الخليط من الحضارات والديانات والثقافات، رسالة في ذاتها. والشيء العظيم في أميركا، أنها تتيح لك ممارسة معتقداتك بحرية مطلقة، وهناك مكان للجميع، ولا تجبر المهاجرين الجدد على التكيف. لمَن يحمل الجنسية الأميركية سمة وهي أنه يؤمن بالممكن دائماً".

اقرأ المزيد

المزيد من سينما