Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سعد الله ونوس أعاد اختراع فن المسرح العربي كي يفضح "أسباب" ما حدث

"حفلة سمر" المسرحية التي سبقت كل الفنون في غضبها تجاه هزيمة 1967 المدوية

سعدالله ونوس (اندبندنت عربية ـ علاء الرستم)

لم يحرك حدث سياسي كبير المبدعين في البلدان العربية بقدر ما فعلت هزيمة يونيو (حزيران) في زمنها، أي عند بدايات صيف 1967، بل ومن المؤكد أن هزيمة العرب الكبرى لا تزال تفعل فعلها حتى اليوم على الرغم من تبدل الأجيال والمصائب الأكثر هولاً التي تلتها، ومن هنا فإن من البديهي أن أي استذكار لتلك الهزيمة لا يمكنه أن يمضي من دون العودة إلى ردود الفعل الإبداعية الغاضبة التي أثارتها، وهذه العودة تضعنا أمام حقيقة لا بد من الإطلال عليها بين الحين والآخر، حقيقة أن المسرح كان من بين الفنون كافة الأسرع استجابة والأعمق تأثراً والأكثر غضباً. ولعله يكفينا في هذا السياق أن نتذكر واحداً من المبدعين العرب الذين كانوا أقوى وأصلب من عبروا عنها وعن ارتباطها بالمجتمع العربي. نتحدث هنا طبعاً عن السوري سعدالله ونوس مع معرفتنا أن كثراً من الفنانين والمفكرين العرب قد كتبوا وأبدعوا نصوصاً فاضحة وغاضبة، نصوصاً تحلل وأخرى تبرر، وأعمالاً تحاول أن تمسك الحبل من طرفين، ومع هذا كان الغضب وصولاً أحياناً إلى حدود جلد الذات. وكان سعد الله ونوس من بين مبدعي الصف الأول في تلك الغالبية الغاضبة في عدد لا بأس به من أعماله، ولكن بخاصة بمسرحيته الأشهر "حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران" التي ظهرت بعد فترة يسيرة من حلول الكارثة فاستقبلت عند تقديمها كما عند نشرها باعتبارها نوعاً من الرد على ضخامة الكارثة يقدمه الإبداع... ولكن نظرة الإبداع أيضاً إلى دوره هو الآخر في تراكم العفن الذي أدى إلى ما حصل.

إشكالات سياسية و...مسرحية

الحقيقة أن "حفلة سمر..." أتت يومها مدهشة على الأقل في مجال الإشكالات السياسية، ولكن المسرحية أيضاً التي طرحتها كما أتت محيرة بالنسبة إلى السماح بعرضها، فهي في نهاية الأمر تشكل إدانة مباشرة لأنظمة الهزيمة ومنها النظام السوري آنذاك الذي سمح بعرضها!. وتنتمي المسرحية إلى ما يمكننا اعتباره مسرحاً داخل المسرح أو على الأقل إلى نوع مسرحي تنتفي فيه الهوة بين ما يدور مباشرة على الخشبة وما يدور في الصالة الحقيقية وتتمحور من حول مسرحية تدعى الجماهير لحضورها دون أن يكون مؤلفها قد أنجز كتابتها. وهكذا ينتظر المتفرجون العرض الذي لا يحصل ويتململون ويغضبون حتى يظهر المخرج ليعلمهم أن الكاتب قد تقاعس عن إنجاز ما هو مطلوب منه لـ"جبنه وخوفه من النتيجة". ومن هنا يدور الباقي في تلاسن وتنازع بين الخشبة والصالة من حول مسرحية "صفير الأرواح" التي جاء كاتبها على أية حال ليعتذر عن إنجازها! لكن الكاتب لن يظهر إلا بعد حين ليعلن رفضه "المشاركة" في هذه المهزلة، فهو كان يريد كتابة مسرحية عما حدث حقاً وأدى إلى الهزيمة، لكن المخرج ومَن وراءه يريدون نصاً عن البطولات والتضحيات التي لم تجر فكانت الهزيمة على الرغم من كل شيء. وحين يحتدم النقاش بين "فهمين" للمسرح وتنزل على الخشبة لوحة تمثل قرية "قاومت العدو ببطولة" وقتل سكانها ودمرت، يبرز من بين الحضور فلاح تعرف في اللوحة على قريته وها هو يقول إن أحداً لم يقتل وأحداً لم يضح، بل أفرغت القرية من أبنائها دون مقاومة. "فمن أين جئتم بكل هذه الحكايات؟". وهكذا يسود الصخب في الصالة بمقدار ما تتكشف أكاذيب النص الذي لا يرضى عنه المؤلف، وتنتهي الأمور بالمسؤولين يصطحبون الجنود مدججين بالأسلحة ليخوضوا هذه المرة "معركة حقيقية" ولكن ليس ضد العدو ولا ضد من يمثلون دور العدو، بل ضد المتفرجين أنفسهم!

الجمهور مشارك أساسي

وطبعاً من الواضح أن هذا التلخيص لا يمكنه أن يفي تحفة سعد الله ونوس هذه حقها أو يوصّف كل "ما يحدث" فيها، لكنه قادر على التقاط جوهر الحكاية، ولعل الناقدة خالدة سعيد كانت أكثر دنواً من هذا الجوهر على أية حال حين كتبت عن هذه المسرحية قبل سنوات طويلة، لمناسبة استذكار أربعينية الهزيمة رابطة إياها بها، فأشارت إلى أن ما تقدمه المسرحية من مضمون "جديد" يقوم على الاحتجاج والتعليقات في صفوف المشاهدين و"على التدخلات المختلفة من قبل شخصيات تمثل فئات الشعب". وذلك عبر مجموعة من حكايات ومقاطع تتواصل على مدى 24 حكاية أو مشروع حكاية، علماً أن أياً من الحكايات لا يأتي ليلقي الضوء على تلك الحرب". والحقيقة أن قوة هذه المسرحية وفاعليتها، إن كان لنا أن نتحدث عن فاعلية، تكمن في ما يوحي به العنوان أولاً، ثم في غياب الحرب عن متن المسرحية، وبعد ذلك في تدخل المشاهدين اعتراضاً أو ضجراً أو غضباً. وهذا كله أعطى عمل ونّوس (البيرانديللي، مع شيء من البريختية، إلى حد ما دون إعلان ذلك ) قوة تعبيرية ودلالية وقفت في التعارض مع الفاعلية المباشرة والتعليمية التي حملتها أعمال كثيرة أخرى أتت لتتناول الهزيمة نفسها،فكانت النتيجة أن ارتاح القراء والمتفرجون هناك لفن "ينطق باسمهم" و"يناضل عنهم"، فيما أقلقهم فن ونّوس الذي لم يقدم حلولاً بل غضباً يُفترض به أن يحرك الأفكار، بالتالي الوعي لدى المجتمعات المعنية بالهزيمة. من هنا، لا تزال "حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران" حية وفاعلة حتى اليوم بعدما نُسي أدب وإبداع كثيرين أعلنوا بدورهم غضباً من الهزيمة، ومن المؤكد أن هذا تحديداً ما جعل من ونّوس كاتباً كبيراً وغاضباً حقيقياً جعل أدبه المسرحي التجديدي صراخاً ضد البلادة والموت.

سيرة ونضال ضد الموت

ولد سعد الله ونّوس عام 1941 في قرية "حصين البحر" في الشمال الغربي لسوريا، وكان في التاسعة عشرة من عمره حين توجه إلى القاهرة ملتحقاً بجامعتها، حيث نال ليسانس الآداب - قسم الصحافة، غير أنه لم يكتف من التحصيل العلمي بذلك، إذ إنه ما أن حاز على تخرجه في جامعة القاهرة في الوقت الذي بدأ يمارس الكتابة، تحول إلى باريس حيث نال من جامعة السوربون دبلوم الدراسات المسرحية، مقيماً في العاصمة الفرنسية لتلك الغاية بين 1966 و1968، وخلال الستينيات وقبل أن تنطلق شهرته كاتباً مسرحياً مع مسرحيته "حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران"، التي نشرت للمرة الأولى في 1968، مارس ونّوس العمل الصحافي محرراً في مجلة "المعرفة" التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية، ثم ترأس تحرير مجلة "أسامة" للأطفال، وانتقل بعدها إلى بيروت حيث أسهم في صحافتها الثقافية، لكنه مع اندلاع الحرب اللبنانية عاد إلى دمشق ليتولى إدراة المسرح التجريبي التابع للدولة وليتولى في الوقت نفسه رئاسة تحرير مجلة "الحياة المسرحية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الكتابة حتى الرمق الأخير

 إلى تلك الفترة تعود بداية علاقة ونوس الكئيبة مع المرض الذي ظل يرافقه عقدين من الزمن حتى قضى عليه في النهاية في حرب بطولية خاضها ضده، وخلال فترة مرضه زار سعد الله ونّوس للاستشفاء وأحياناً لمجرد الهرب من واقعه، بلداناً أوروبية عدة وأقام فترة في فرنسا وفترة في ألمانيا الشرقية، وهو طوال تلك السنوات لم يتوقف عن الكتابة منطلقاً مما قاله هو نفسه ذات يوم من أنه بمقدار ما تأثر بتيارات مسرحية عالمية "بمقدار ما اكتشفت أنني لن أستطيع الوصول إلى كتابتي الخاصة، إلا إذا استطعت نقد هذه التيارات. الموقف النقدي هنا يعني بلورة رؤية خاصة عن مسرح فاعل في مجتمع محدد وزمان محدد". والحقيقة أن كلمة "فعال" هي الكلمة التي تنطبق أكثر ما تنطبق على مسرح سعد الله ونّوس، حتى وإن كان معنى الكلمة قد تغير بالنسبة إليه على مر الزمن، إذ بعد "أن كان المسرح الفعال يعني القادر على تغيير المجتمع (...) صار طموح الكاتب الآن أن يستطيع مسرحه هز المجتمع وإثارة التساؤلات". وهو لم يفعل غير ذلك منذ "حكايا جوقة التمثيل" (1965) مروراً بـ"الفيل يا ملك الزمان" و"مغامرة رأس المملوك جابر" و"سهرة مع أبي خليل القباني" (1973)، و"الملك هو الملك" (1977) و"الاغتصاب" (1990)، وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة