Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف نفهم خروج الجرائم عن المنطق في مصر؟

حوادث "لا معقولة" تحمل غلظة مضاعفة ومطالب بدرس التغيرات التي طرأت على البنية النفسية والاجتماعية والأخلاقية للمواطنين

عوامل كثيرة ظهرت حديثاً في المجتمع المصري أسهمت في تغيير وجه الجريمة (أ ف ب)

سيدة في العقد السادس من عمرها دعسها قطار فماتت على الفور، والغريب أن القطار دعس السيدة أثناء نومها في بيتها، وطفل في الـ 13 من عمره اعتدى جنسياً على طفلة في الخامسة من عمرها داخل ملاه ترفيهية، وسيارة تصيب عدداً من المواطنين بإصابات بالغة بعدما أطاحت بهم من على مقاعدهم بالمقهى الذي اقتحمته، وعامل باع شهادات مزورة مقابل 70 ألف جنيه مصري (3654 دولاراً أميركياً) تفيد تلقي حامليها لقاحات كورونا.

"توك توك" يتعطل على شريط القطار وآخر يموت سائقه وراكبوه بعد أن يطيح القطار بالمركبة السائرة على قضبانه الحديد، وغرق "تروسيكل" بركابه في ترعة، ورجل وامرأة متزوجة من غيره يمارسان العلاقة الحميمة في وجود ابن الزوجة (ثلاثة أعوام) وعلى جسده آثار تعذيب، وسيدة وعشيقها يمارسان العلاقة أيضاً لكن هذه المرة في وجود جثمان الزوج الذي قتلاه وهو إلى جوارهما، وأب اعتاد ضرب ابنته (15 عاماً) بشومة (عصا غليظة) لكن الصغيرة توفيت بعد تلقيها ضربة قاتلة فدفنها في فناء البيت ثم أبلغ باختفائها.

جرائم والتهمة إهمال

هذه وغيرها يسمونها "حوادث" وقعت في مصر خلال الأشهر القليلة الماضية، وكثيرون يعتبرونها قضاء وقدراً، والمؤكد أن القضاء أمر لا ريب فيه والقدر حادث لا محالة، وآخرون يتعاملون معها باعتبارها حوادث وكوارث تحدث في جميع أنحاء العالم، لكن فريقاً ثالثاً يعتبرها إما إهمالاً وفساداً، فكان يمكن تفادي وقوعها أو انعكاساً لتغيرات وتقلبات تحدث في المجتمع تستحق الدرس.

كل الشواهد تؤكد أن المشهد فيه جرائم من نوع غريب وحوادث تفاصيلها جديرة بروايات الخيال وأبطالها من جناة ومجني عليهم، تقول كثيراً عما يدور في المجتمع المصري على مدى سنوات في غفلة من الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتواترة والمتثاقلة بشكل غير مسبوق منذ ما يزيد على عقد مضى.

يمضي الباحثون في علم الاجتماع والنفس والجريمة وغيرها وقتاً وجهداً في إجراء البحوث والخروج بدراسات عن الجريمة في المجتمع، ومعظم هذه الدراسات والبحوث تدور في دوائر كلاسيكية عن ارتباط الفقر بالدراما وبالقيم الغربية وبالجريمة، لكن دراسة عنوانها "العوامل الاجتماعية المؤثرة في ارتكاب الجرائم داخل الأسرة المصرية" (2021) للباحثة هند فؤاد السيد أشارت إلى تداخل كبير بين بعض الدوافع المؤدية إلى ارتكاب الجريمة داخل الأسرة مثل الحال الاقتصادية والفقر والأمية والبطالة والسمات الشخصية والتنشئة غير السوية والبيئة الجغرافية، وتأثرها بالظروف المحيطة في المجتمع.

كما خلصت الدراسة إلى وجود علاقة قوية بين السمات الشخصية والتنشئة الاجتماعية في بيئة غير سوية أو مفككة، والتعرض لوسائل الإعلام التقليدية والحديثة والتأثر بما يرد فيها من قيم وأفكار.

وتطرقت الباحثة كذلك إلى دور الوسائل التكنولوجية الحديثة والإنترنت خلال السنوات الأخيرة في ارتكاب بعض الجرائم داخل الأسرة، سواء تجاه الآخرين أو تجاه النفس حيث تكرار حوادث الانتحار أو إنهاء الحياة بسبب إدمان الألعاب الإلكترونية، أو الإقدام على تحديات أقل ما يمكن أن توصف به أنها بالغة الخطورة.

وتقول الباحثة إن عوامل كثيرة بعضها متراكم وبعضها الآخر ظهر حديثاً في المجتمع المصري، أسهمت في تغيير وجه الجريمة في مصر.

وجه الجريمة تغير

وجه الجريمة في مصر تغير لكنه اكتسب ملامح غريبة يصفها بعضهم بمخاصمة المنطق، بما في ذلك منطق الغضب الذي يعمي القلب والبصيرة وخرق قواعد الطبيعة والفطرة بما فيها هامش القسوة والغلظة.

الغلظة في القتل أمر يبدو عادياً على اعتبار أن القتل هو أعتى درجات الغلظة، وجرائم القتل تحدث منذ تقاتل ابنا آدم قابيل وهابيل، وقتل أحدهما الآخر.

لا يخلو منها مجتمع مهما بلغ من درجات الرقي والرفاه وتطبيق القانون، لكن حين تتواتر جرائم قتل لا يكتفي فيها القاتل بقتل القتيل، بل يشوهه أو يسحله أو ينحره أو يختار أن يبتر أعضاءه من دون الحاجة إلى ذلك، أو تصل به درجة الغلظة إلى فصل الجسد عن الرأس والسير بها مزهواً بين المارة في وضح النهار فهذه غلظة مريعة.

تراعي جهات الاختصاص في الجرائم الأبعاد المتعلقة بالصحة النفسية والعقلية، لا سيما في الحوادث والجرائم ذات الطابع بالغ الغلظة، وعلى الرغم من أن حجة اعتلال الصحة النفسية أو العقلية هي الأكثر كلاسيكية في الاستخدام من قبل الجناة ومحاميهم، فإن جهات التحقيق قد تساورها شكوك في صحة المشتبه فيه العقلية في الجرائم، لا سيما القتل، ذات الطابع المفرط في الغلظة.

غلظة مضاعفة

فحين يقتل أب ابنه (ثلاثة أعوام) أثناء نومه انتقاماً من طليقته، وحين يقتل عم ابني شقيقه بسبب خلاف على ميراث، وحين يتفق زوج مع صديقه على أن يغتصب الأخير زوجته حتى يتمكن الأول من قتلها دون مشكلات، وحين تقتل زوجة زوجها بالتعاون مع صديقها ثم يتركها صديقها ويعود لزوجته فتقتل الزوجة، وحين يتفق زوج ويعمل قاضياً، أي مهمته تطبيق العدالة، مع شخص آخر على قتل زوجة الأول، ويخطط ويدبر ويحفر قبراً ويشتري سلاسل حديدية لشل حركتها ويضربانها حتى فقدت الوعي، ثم يجري خنقها وتقييدها بالسلاسل الحديد، وأخيراً يسكبان عليها مادة حارقة لتشويه وإخفاء ملامحها قبل دفنها، فكل ما سبق وغيره كثير يعني أن في القتل غلظة مضاعفة عجيبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جانب من العجب في جرائم القتل الأخيرة في مصر لا ينبع من العدد، فالأعداد ليست مقياساً، ولو كانت فهي في حدود المتوسط عالمياً، يعود العجب إلى أن التفسيرات والتحليلات المعتادة لجرائم القتل لم تعد سارية في نسبة كبيرة من تلك الجرائم.

دراسة صادرة عن جامعة عين شمس المصرية عام 2018 تحت عنوان "المتغيرات الاجتماعية والنفسية المرتبطة بالرجال مرتكبي جرائم القتل داخل الأسرة" أشارت إلى أن ثلث جرائم القتل عائلية، و92 في المئة منها ترتكب بغرض "الدفاع عن العرض والشرف"، وكذلك لأسباب اقتصادية.

القاضي الذي قتل زوجته كان مليونيراً، و"الشرف" لم يكن طرفاً، والزوجة التي قتلت زوجة عشيقها لم يكن العِرض غايتها، والأب الذي قتل ابنه عنداً في طليقته لم يشغله الشرف، والزوج الذي قتل زوجته لأن صديقه اغتصبها بناء على طلبه لم يكن العرض غايته، بل العكس هو الصحيح.

تفسيرات منتهية الصلاحية

حتى تفسيرات أساتذة وخبراء علم وطب النفس لفهم النوعية الحديثة من جرائم القتل شديدة الغلظة انتهت صلاحيتها، التفسيرات العلمية المعتادة هي أن المجرم ناقم على المجتمع، لا يلتزم القوانين.

وربما تسهم نشأته الاجتماعية سواء أكانت تدليلاً زائداً أم حرماناً مفرطاً في سرعة إقباله على القتل لأخذ حق أو ما يعتقد أنه حق، بالقوة.

ومن المتخصصين من يعتبر سقف التوقعات وأفق الأحلام اللذين تغيرا كثيراً بفعل النمط الاستهلاكي في المجتمع والترويج الثقافي والإعلامي له هما المتهم الرئيس، وفريق ثالث عادة يلجأ إلى توليفة من كلاسيكيات التفسير تشمل البعد عن الدين أو الأسرة المفككة أو الفقر أو "غلبة شيطان".

لكن يبدو أن شياطين الإنس غلبت أقرانها من شياطين باقي الكائنات. تفاصيل بعض الجرائم ودقة اعترافات المشتبه فيهم تفوق خيال أعتى كتاب قصص وأفلام الرعب.

عنصر "العمد" يطل برأسه بشكل فج، وتخطيط وتدبير وتنسيق وتجهيز تنفي عن الجاني أو القاتل نعوت الجنون المفاجئ أو الغضب المباغت أو لحظة تفوق الشيطان.

وبحسب التقرير السنوي الذي يصدره مكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات عن القتل، فإن أحد السمات المثيرة في بعض جرائم القتل بين الأشخاص حين يكون القتل بغرض القتل، وليس لتحقيق هدف ما من ورائه، وهو يحدث حين يعتبره القاتل وسيلة لحل نزاع أو معاقبة الضحية أو الانتقام منه أو تلقينه درساً مزمناً.

غلظة ووصفة ضرر سحرية

وتتزامن جرائم الغلظة الشديدة في القتل مع سلسلة من الأحداث التي يسميها بعضهم "حوادث" تحمل في طياتها الوصفة السرية السحرية لإلحاق الضرر بآخرين مع توليفة ضمان الجاني حراً طليقاً، لأن بصمات يده ببساطة لا يمكن مضاهاتها بأي من أدوات الجريمة.

الجهات أو الأشخاص الذين شيدوا وسمحوا وسكتوا وباركوا بناء عمارة سكنية على مرمى حجر واحد من قضبان القطار، مما جعله يخترق غرفة نوم سيدة ويقتلها في فراشها، أو أقرانهم الذين قاموا وسمحوا وسكتوا وباركوا تمدد صاحب مقهى بطاولات ومقاعد جعلت الرواد في خط سير السيارات فدهست بعضهم وأصابت بعضهم الآخر، والفريق الثالث الذي سمح وسكت على تشغيل أطفال ليسلبهم طفولتهم وبراءتها وحقوقها، فمنهم من تعدى جنسياً أو عاقر المخدرات أو اقترف جرائم نشل وسرقة وغيرهم كثيرون شركاء في ظاهرة الجرائم اللامعقولة المتواترة.

تواتر هذه الجرائم يستدعي تدخلات سريعة عدة بعدياً عن التوجه الفوري لركب من الشرطة، والتحقيق الآني من قبل فريق من النيابة، والتحويل السريع للقاضي بغرض الحكم، وسواء كان ما يجري سببه دراما عنيفة أو مرجعية دينية مغرقة في العبادات ونائية بنفسها عن المعاملات أو تنشئة أسرية مهلهلة أو فقر مدقع أو ثراء مفرط أو حرمان طاغ أو تدليل زائد، فإن الحاجة إلى روشتة سريعة باتت ماسة.

الأمن القومي النفسي

أستاذ الطب النفسي محمد مهدي يقول إنه في ضوء سلسلة الجرائم ذات التفاصيل العجيبة خلال الأشهر القليلة الماضية، فإن "الأمن القومي النفسي" بات أولوية قصوى مع فتح "الصندوق الأسود" لكل حادثة أو جريمة تندرج تحت هذا النوع غير المعتاد لمعرفة الدوافع والأسباب من قبل لجنة من متخصصي علم نفس واجتماع وجريمة لمنع تكرار الحدوث بهذا الشكل الغريب، على أن تقوم هذه اللجنة بدرس التغيرات التي طرأت على البنية النفسية والاجتماعية والأخلاقية للمواطن المصري، ووضع خطة تغطي جميع التخصصات لإعادة بناء الإنسان بشكل حقيقي.

ويرى مهدي ضرورة مراجعة فعالية "المحاضن التربوية"، مثل الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية والمنصات الإعلامية وتقويم قدرتها الفعلية على صقل الأفراد جسدياً ونفسياً وأخلاقياً وروحياً.

وفي هذا الصدد يشير مهدي إلى أن مسألة المدرسة من دون التزام بحضور إلى المدرسة يجب أن تتوقف، فبناء الشخصية السوية يجب أن يمر بالمدرسة، والسنتر ليس بديلاً حتى لو أحرز الطالب الدرجات النهائية.

ويضيف أنه لا بد من درس آثار مواقع التواصل الاجتماعي على البنية النفسية والأخلاقية والسلوكية وذلك للتمكن من وضع برامج توعية وتثقيف رقميين واقعيين، وليسا حبراً على ورق.

ويوضح محمد مهدي أن هناك أشخاصاً عاديين في المجتمع يرزحون تحت ضغوط متراكمة، ويقتربون يوماً بعد يوم من النقطة الحرجة لانفجار العنف، وهو ما قد يفسر زيادة ظاهرة العنف المفرط، بل وفي زيادة شحنات العنف في الجرائم نفسها حيث جرعات عنف وانتقام تتجاوز الحدث نفسه بمراحل. ولأن الضغوط أنواع وأشكال، ولأنها ليست حكراً على الفقر والعوز، ولأن الضغط يولد الانفجار، ولأن الانفجار بات متكرراً ومتواتراً، فقد أصبح كسر دائرة الجرائم اللامعقولة فرض عين.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير